الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

زهور غارقة

زهور غارقة
16 سبتمبر 2010 22:09
هبطت الفتيات من الحافلة إلى الحديقة الخضراء على ساحة شاسعة كأنهن فراشات، ضحكات وغناء ومزاح ولعب واستكمال للرحلة التي تضم عشرين فتاة تتراوح أعمارهن بين الثالثة عشرة والخامسة عشرة، فجميعهن تلميذات في المرحلة الإعدادية، سبقتهن المشرفة في النزول وهي تتعجل المتلكئات منهن وتحذر المسرعات وتوجه اللاتي سبقن بالنزول للالتزام بعدم التحرك قبل أن تتجمع باقي الفتيات حتى لا تضل إحداهن الطريق أو يصيبها مكروه، فالرحلة لمدة يوم واحد وها هن في نصفه الأخير، جلسن يتناولن طعام الغداء افترشن الأرض والسعادة ترفرف عليهن ثم جرين ولعبن وتمازحن واستلقى بعضهن أرضا من التعب فواحدة أسندت رأسها إلى جذع شجرة وراحت في غفوة يوقظها منها صياح زميلاتها وأصواتهن العالية المزعجة، حتى الضحكات كانت مدوية وكافية لإيقاظ أي نائم وعبرت النائمة عن غضبها من تصرفاتهن لكنهن لم يلقين لها بالا. واحدة جلست على الشاطئ تراقب حركة القوارب والمراكب بين صيد ونزهة والماء الصافي الذي يظهر منه احيانا بعض الأسماك التي تقترب من سطح الماء ثم تغوص هاربة من مجرد حركة الظل، بينما هناك بعض الأسماك الصغيرة تقفز في الهواء وتعود إلى الماء كأنها تشارك الفتيات ألعابهن وسعادتهن والشمس تبدو كأنها غارقة في القاع وهي تميل نحو الغروب مؤذنة بوداع النهار وقدوم الليل، أما هذه المجموعة فقد صنعت حلقة غناء بلا نظام وبلا موسيقى، أغنيات متداخلة واحدة من هنا واخرى من هناك. كان مشهد الماء ساحرا، وقد اكتسى بظل البنايات الشاهقة على الشاطئ الآخر، هنا قررت الصغيرات إكمال الرحلة بنزهة نيلية لتكون افضل ختام لهذا اليوم وكانت الرغبة جماعية جامحة، حتى المشرفة المسؤولة عنهن لم تستطع المقاومة وفي لحظات كانت الموافقة والتنفيذ وأشرن إلى صاحب المركب الذي كان متوقفا هناك على بعد عدة أمتار ينتظر الزبائن، فهذه مهنته منذ سنوات، يتولى نقل الأشخاص بين الشاطئين أو يحمل مجموعة في نزهة مائية لوقت محدد، توجه نحوهن واستجاب لمطلبهن وهو أيضا سعيد لأنه بين هذا العدد الكبير من العذارى، والأهم انه سيحصل على مبلغ من المال لا بأس به. رغم أن المكان غير مخصص كمرسى للمراكب والقوارب فإن «عويس» قائد المركب الذي لم يبلغ العشرين بعد يعرف كيف يتوقف في مكان يسهل معه الركوب، وهؤلاء فتيات مثل العصافير، يمكنهن الصعود بكل رشاقة واحدة تلو الأخرى ويتبادلن المساعدة بالأيدي وكلما صعدت واحدة اهتز المركب فتصرخ فزعا إلى أن صعدن جميعا واكتظ بهن المكان وجلسن متلاصقات، بعضهن لم تجد مكانا، فلا يوجد موضع قدم ودفع «عويس» المركب بكتفه ليحركه أولا ويفك اشتباكه مع اليابسة ثم قفز هو الآخر في مكان القيادة وأدار المحرك، وبدأ المركب التحرك ولكن ببطء فالمؤكد أن الحمولة زائدة، والمركب يتمايل يمينا ويسارا، والصغيرات يصرخن خوفا، ويشعرن بالخطر المحدق، وانه قادم لا محالة مع هذا الوضع وهذه المقدمات بدأت دقات القلوب تعلو، خاصة اللاتي لا تعرفن العوم، صرخت احداهن تطالبه بالعودة وأمسكت بيد زميلتها بقوة، واخرى تتابع حركة المركب مع الماء وازدادت الأصوات المطالبة بالعودة لكن بعض المعارضات يطالبن باستمرار الرحلة لأنه لا يجب الانصياع لمخاوف غير حقيقية فالناس في المراكب من حولهن لا حصر لهم، ولو كانوا يخافون ما وجدنا أحدا منهم. اختلفت الآراء بين مؤيدات ومعارضات ودخلن في حوار عقيم، لم تقطعه إلا الصرخة الكبرى، واحدة منهم تعلن بصوت عال، تصرخ الماء من تحت ارجلنا، نحن نغرق. لم يكن المركب قد ابتعد عن الشاطئ إلا خمسة أمتار فقط عندما بدأت الفتيات يتأكدن أنهن في خطر حقيقي وليس مجرد مخاوف، فالماء يتدفق بسرعة وبقوة داخل المركب، تبللت الأقدام والماء يعلو إلى الركب، والمركب يبدأ الغوص في الماء، هنا فقدت الفتيات أعصابهن، وصرخن فالموت قادم، حتى وان كان الشاطئ على مقربة هذه الأمتار المعدودة، فالمفاجأة تشل الحركة وتجمد التفكير، إنها لحظات مقاومة الموت، لحظات فارقة بين الموت والحياة، العقل عاجز عن التفكير في وسيلة نجاة، من لا تعرف العوم، لا تترك الفرصة لمن تعرفه لكي تنجو، إنما تتشبث بها عساها أن تأخذ بها إلى شاطئ النجاة، لحظات كان فيها الموت فوق الرؤوس يقطف منها من انتهت آجالهن، ويغوص المركب كله في الماء مع وداع آخر لحظات النهار، حيث بدأ الليل يرخي أستاره والناس على الشاطئ يصرخون من هول المشهد فتلك فتاة تقاوم التيار وتتجه عوما نحو الشاطئ وهذه تطفو وتغطس ولا تستطيع العوم، وواحدة لا تظهر من الماء وإنما تدل الفقاعات على أنها هنا تحت الماء في هذا المكان، هي دقائق قليلة جدا لكنها كانت مثل الدهر طويلة بطيئة في مقاومة من اجل الحياة. عشر خرجن إلى الشاطئ تتلاحق أنفاسهن سريعة، حتى تكاد تنقطع منهن من استلقت وقد فقدت الوعي، واخرى تصرخ بشكل هستيري، وثالثة عاجزة عن الكلام والحركة ترتعد فرائصها لا تصدق أنها نجت من الموت، وقد شارك بعض الذين يجيدون العوم في الإنقاذ، ومن لا يعرف العوم تطوع بإبلاغ قوات الإنقاذ التي جاءت في لحظات لتبدأ عملها في البحث عن الفتيات العشر، لكن الظلام بدأ يحل على المكان ويعوق الجهود، ويعرقل المهمة فلم يفلحوا في اللحظات الأولى إلا في العثور على تلميذة تقاوم الماء، كانت بين الحياة والموت، وكتبت لها النجاة، أما بعد ذلك فقد مضت ساعات حتى منتصف الليل لم يعثروا فيها على ناجيات ولا حتى على جثث، ولان قوانين الغوص تمنع العمل بعد هذا الوقت فقد توقف البحث حتى الأشعة الأولى من صباح اليوم التالي. وبدأت القوات في وقت مبكر عملها وحسب الخبرة واتجاهات تيارات الماء عثروا خلال الساعة الأولى على جثث ثلاث فتيات في القاع ثم عثر على جثة واحدة على بعد أكثر من ألف وخمسمائة متر بعيدا عن موقع الحادث، وهكذا يتكرر البحث كل يوم مع الاستعانة بخبراء الغوص والبحث والإنقاذ وكل يوم يعثر على جثة فتاة، حتى مر أسبوع كامل من الجهد المتواصل ولم يعثر على جثتي «روزفين ودميانة» لقد تأكد بعد مسح القاع ومناطق الحشائش والأحراش أنها في عداد المفقودات ومن المستحيل العثور لهما على اثر بعد ذلك فقد الجميع الأمل وأبواها يرفضان استخراج شهادتي وفاة لهما، ويحدوهما الأمل في العثور على جثتيهما، لكن هيهات. ألقي القبض على «عويس» الذي دافع عن نفسه وقال إن الفتيات كن يتمازحن ويتمايلين ويتراقصن من الوهلة الأولى ورفضن الثبات في أماكنهن ولم يستمعن لنصائحه وهذا هو السبب الرئيسي في الحادث، لكن الفتيات الناجيات أكدن عدم صدقه وانه عندما طلبن منه العودة وحذرنه من زيادة الحمولة اخبرهن أن سعة المركب أكبر من عددهن بكثير وانه اعتاد ذلك ويعمل بهذا النظام منذ سنوات ولم يحدث شيء، كما أن تقرير سلامة الملاحة اكد أيضا كذبه وأشار إلى أن المركب لا يتسع إلا لثلث هذا العدد فقط وانه غير صالح وبلا ترخيص. وخلال ثلاثة أيام أحالت النيابة «عويس» إلى محاكمة عاجلة وفي الجلسة الثانية قضت المحكمة بمعاقبته بالحبس عشر سنوات مع الشغل والنفاذ لاتهامه بالقتل والإصابة الخطأ وهذه هي أقصى عقوبة ليدفع هذه السنين من عمره ثمنا للتهاون والاستهتار والإهمال ومازالت دموع الناجيات وأقارب المتوفيات والمفقودين ساخنة.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©