السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عروس في خريف العمر

عروس في خريف العمر
16 سبتمبر 2010 22:09
ترك الزمن أثاره وبصماته الواضحة على وجه المرأة العجوز فلا يخفى على أي عين أنها تجاوزت الثمانين من عمرها، فتلقى كل الاهتمام والرعاية عندما تسير في الشارع ويهب كل من يلقاها ليقدم المساعدة من أي نوع، سقطت أسنانها ولم يبق منها إلا واحدة أو اثنتان، ورغم ذلك يبدو عليها الاهتمام الشديد بمظهرها وأناقتها وحسن اختيار ملابسها التي هي اقرب لأزياء الشابات، دخلت على الضابط في قسم الشرطة وهي تتوكأ على عصا فاستقبلها وقدم لها مقعدا ثم كوب ماء لأنه لاحظ العرق يتصبب من وجهها من شدة الحر، ثم قدم لها كوبا من عصير الليمون المثلج، على غير عادته في التعامل مع المترددين على قسم الشرطة، فقد رق لحال المرأة وضعفها ثم جلس يستمع لسبب مجيئها. قالت إنها امرأة تنتظر الموت بعد هذا العمر، ضعف البصر ووهنت الأعضاء وزحفت الشيخوخة على جسدها وهاجمته كل الأمراض، خاصة بعد أن فقدت زوجها الذي رحل عن الدنيا منذ سنوات طويلة وترك لها ولدا وحيدا أفنت حياتها من أجله، ربته وبذلت كل جهد حتى نال شهادته العالية في الجامعة وحصل على وظيفة جيدة ثم تزوج ويقيم معها هو وزوجته في نفس المنزل، وقالت: انقلبت حاله وأهملني تماما، وأنا لا حول لي ولا قوة، بل يريد أن يطردني لتخلو له الدار هو وزوجته وعندما رفضت سبني وشتمني، وضربني ثم سالت دموعها وهي تكمل حتى زوجته تشاركه أفعاله وتصرفاته المشينة، أتمنى أن يأتي اليوم الذي ترد لها فيه زوجة ابنها ما تفعله بي. أرجوكم احبسوها وليخرجا صاغرين من بيتي الذي تركه لي زوجي. لم يصدق الضابط هذه الكلمات، ولم يصدق أن يكون في الدنيا ولد عاق مثل هذا، استفزته كلمات المرأة على المستوى الإنساني اكثر من أن الموقف مخالفة قانونية فأمر اثنين من رجاله بسرعة إحضار هذا الولد «المتهم» لاتخاذ الإجراءات الفورية العاجلة معه وإيقافه عند حده بالقانون، فامرأة كهذه يجب أن توضع في العيون، وزاد تعاطفه معها لأنه فقد أمه منذ أسابيع قليلة، ولولا هيبته وظروف وطبيعة عمله، لسمح لدموعه التي تغالبه بان تسيل لكنه تماسك وتمكن من السيطرة على مشاعره، وفي لحظات جاء الرجلان بهذا «الولد» الذي كان في الخمسين من عمره، يبدو عليه الاتزان والوقار، قابله وهو مقطب الجبين وامه ترمقه بنظرة ذات مغزى من خلف زجاج نظارتها السميكة، واجهه الضابط بحدة بما ذكرته امه فما كان منه إلا انه اقر بكل ما قالته، وأبدى ندمه واسفه على ما كان منه ومن زوجته من تقصير أو تصرف لا يليق، وقدم لأمه كل الاعتذارات وطلب منها أن تسامحه واكد انه يشهد ويقر ويعترف انه سيقوم برعايتها وينفذ لها كل مطالبها، ثم توجه نحوها ليقبل يدها، إلا أنها وضعت عصاها حائلا بينها وبينه حتى لا يصل إليها، وأصرت على اتخاذ الإجراءات القانونية وتطبيق أقصى عقوبة عليه، فليست هذه هي المرة الأولى التي يتطاول فيها عليها، كما أنها ليست المرة الأولى التي يردد فيها هذه الكلمات ويقدم الاعتذارات والندم، ثم يعود أسوأ مما كان ورفضت الصلح والصفح، وعقدت العزم على محاكمته، والطلب الأساسي الذي يجب تنفيذه فورا أن يترك بيتها هو وزوجته في التو واللحظة وليذهبا إلى أي مكان حتى لو كان الشارع. مازال الضابط متعاطفا مع المرأة العجوز، ولولا أن القانون يمنعه من التدخل المباشر لتوجه إلى البيت وأخلاه وسلمه لها لكن لابد من اتباع النظام والالتزام بواجبات الوظيفة، وتحرير محضر أولا ثم عرضه على النيابة واستكمال التحقيقات ثم اتخاذ القرارات لذلك استدعى الضابط احد رجاله المتخصصين وأمره بتحرير محضر بأقوال الأم ورد الابن عليها تمهيدا لإحالته إلى النيابة، وهنا جاء احد رجال الشرطة السريين وهمس في أذن الضابط ببعض الكلمات ففغر فاه، وجحظت عيناه، وابتسم ابتسامة الغضب المندهش، ثم هب واقفا وخرج من مكتبه، لقد كان بالباب بضعة نفر يريدون مقابلته، انهم من جيران هذه المرأة اكدوا له أن ابنها بار بها ويلبي كل مطالبها بالفعل وان الخلاف بينهما ليس للأسباب التي ذكرتها وان ابنها لن يستطيع أن يذكر الأسباب حفاظا على كرامة أمه! استدعى الضابط الابن إلى غرفة اخرى، منفردين، وأعلمه بان موقفه صعب، وان القانون في صف الأم، وانه سيخسر كثيرا إذا لم يذكر الأسباب الحقيقية للخلاف فما كان من الابن إلا أن أصر على موقفه، بان كل ما جاء في كلام امه صحيح مائة بالمائة وأنها لا تكذب وهو على استعداد لتحمل كافة النتائج مهما كانت، المهم أن يكون فيها رضا أمه، وتحقيق كل مطالبها، فألقى الضابط على مسامعه بالمفاجأة المدوية التي كانت من الكلمات التي همس بها في أذنه احد رجاله وأثارت دهشته لقد علم أن الخلاف الحقيقي بسبب رغبة الأم العجوز في الزواج فأطرق «الابن» في الأرض خجلا من ظهور الحقيقة، وطلب أن يذكر التفاصيل لكن لا تكون في محضر رسمي، حتى لا يتسبب في أي حرج لأمه، فوعده الرجل بتحقيق الشرط بل ومساعدته في تخطي الأزمة وبالقانون أيضا. قال الرجل وحمرة الخجل تعلو محياه، بالفعل رحل أبي عن الدنيا عندما كنت صبيا، وترك لنا معاشا لا يكفي إلا القليل من احتياجاتي أنا وأمي لكنه ترك لنا بيتا من ثلاثة طوابق نؤجر احدها ليأتي بعائد شهري يعيننا على متطلبات الحياة بجانب محلين صغيرين في الطابق الأول، وأقيم أنا وأمي في الطابق الأوسط وفي الحقيقة أن أمي لم تكذب عندما قالت إنها أفنت حياتها من أجلي فهذا صحيح ولا جدال فقد ضحت بشبابها وبكل جهدها من اجل أن اكمل تعليمي بل ورفضت عشرات الرجال الذين تقدموا لها في ذلك الوقت وهدفها الأول والوحيد ألا تأتي بزوج أم يسيء معاملتي أو يقسو عليَّ فأغلقت علينا الباب وعانت كثيرا إلى أن تخرجت في الجامعة ولم يتوقف مشوار كفاحها بل واصلت جهدها وهي تقف بجانبي واختارت لي عروسا بنفسها، وكان شرطي على العروس أن توافق على الإقامة مع أمي وان ترعاها مثل أمها، وقد كانت العروس افضل مما كنت أتمنى واحلم وتخدم أمي وترعاها من دون أن اطلب أو تطلب أمي شيئا، لكن لم تخف عليَّ بوادر الغيرة التي ظهرت على أمي واختلقت المشاكل والخلافات، تثور لأتفه الأسباب، تعيرني بما قدمت لي، بل وتعلن ندمها على تضحياتها من اجلي لأنني لا استحق وحتى لا تغضب أمي قررت أنا وزوجتي تأجيل الإنجاب حتى لا يكون الصغير عبئا علينا ويأخذ من وقت زوجتي فتقل رعايتها لامي وفي هذا أيضا لمست منها ارتياحا كان تفسيره الوحيد أن يحصل الانفصال بيني وبين زوجتي بلا سبب أو مبرر. ومرت السنون ورزقنا بطفل لم اشعر بفرحة أمي بقدومه وجددت ثورتها وهي تدعي المرض أحيانا، وتطلب حاجات لا تريدها ومع هذا نلبي ونجيب لترضى ولا تسخط وتسير سفينة الحياة بهدوء. وكانت أمي قد بلغت الستين عندما كانت في مجلس نساء أمام بيتنا، وكل منهن تتحدث عن أمنياتها في هذه الدنيا، وكلهن من العجائز، تدرون أن كل الأماني تركزت في الحياة المترفة والمال والثراء إلا واحدة تمنت أن تؤدي فريضة الحج لكن أمنية أمي كانت الأكثر غرابة فقد تمنت أن تعود الى سن الثامنة عشرة وتتزوج مرة اخرى ، فضحكت الأخريات مستنكرات، اعتقدن أنها مجرد مزحة وتسلية وقتل للوقت، لكن بالنسبة لي كانت الكلمات ثقيلة جارحة حتى لو كانت لمجرد المزاح أو اللهو واللعب في هذه السن، وان لم استطع أن أفاتحها في الموضوع وليس بمقدوري أن استفسر أن كان ما تقصده حقيقة ام مجرد كلام بلا معنى أو هدف. فوجئت بأن أمي تهتم بالصحف التي تنشر إعلانات الزواج وتتابع وتهتم بالشروط لكنها في كل مرة تضرب كفا بكف وهي تطالع أعمار الشباب المعلنين الراغبين في الزواج انهم يطلبون فتيات في مثل أعمارهم ما بين العشرين والثلاثين على أقصى تقدير أما ما يزيد على ذلك فلا يتخطى الأربعين سنة وفي هذه الحالات يكون العريس أرملا أو مطلقا ويعول حفنة من العيال، فهو بالأحرى في هذه الحالات لا يريد عروسا ولا زوجة وإنما يريد خادمة ومربية لأولاده، ومع هذا لم تفقد أمي يوما الأمل إلى أن كادت أمنيتها تتحقق وانفرجت أساريرها وهي تحدق في كلمات الإعلان وتعيد قراءتها عشرات المرات، وجاءت بقلم ووضعت تحتها خطوطا فصاحب الإعلان في الخامسة والستين أي يصغرها ـ في ذلك الوقت ـ بخمس سنوات لانها بلغت السبعين، يؤكد في مطالبه انه متنازل عن كل الشروط التي يطلبها أي عريس والتي تعوق اجراءات الزواج وهو موظف قد تقاعد منذ بلوغه الستين ولديه شقة يقيم فيها مع زوجته التي تقاربه في العمر لكنها مريضة وظهرت عليها كل علامات الشيخوخة، ويرغب في زوجة تشاركه بقية حياته، ولا يشترط السن ولا الجمال يكفي أن تكون على خلق، وتستطيع أن تخدمه، وتخرج معه إلى المسارح ودور السينما والمتنزهات فهو لا يحب المكوث في البيت ويجد متعته في الخروج كل يوم إلى مكان مختلف، لكنه يشترط في العروس أن تكون لديها شقة أو منزل ملك لها، ليقيما فيه معا، لأنه لا يستطيع تدبير مسكن لزوجته، كما يشترط أن يكون لها دخل ثابت، وليس لديها أي انشغالات حتى تكون متفرغة له ولخدمته ومستعدة لصحبته في متنزهاته ولهذا لابد أن تكون العروس ثرية ورغم هذه الشروط المجحفة وغير المعقولة التي وضعها العريس العجوز المتصابي فإن أمي وجدت فيه ضالتها المنشودة، وانفرجت أساريرها وعاد إليها السرور كأنها حصلت على الكنز المفقود وعثرت عليه بلا جهد، طلبت مني فستانا جديدا أنيقا، ولم اعرف في بداية الأمر أنها تريده لترتديه عند اول لقاء مع العريس ووقعت يدي على الصحيفة والإعلان وكما قلت قد وضعت تحت كلماته خطوطا فاسقط في يدي وتذكرت ما قالته عن أمنياتها أنها تريد أن تعود شابة وتتزوج، ولمست أنها تسير في الأمر بكل جدية وأصبحت بين خيارين كلاهما مر، فإذا وافقت على هذه الزيجة فان أمي لا تقدر عواقبها، فالرجل بحاجة إلى ممرضة تعتني به وتمرضه وهو في هذه السن وليس إلى زوجة وبحاجة إلى امرأة تنفق عليه ويستند عليها في الشارع والاهم تنفق على رغباته فهو مثل طفل يبحث عن الشيكولاتة ولا يهمه من اين تأتي. وإذا رفضت فإنها ستصب جام غضبها ولا استطيع مواجهة ثورتها، ولن تصدق أنني اعمل لمصلحتها وافكر بعقلانية بان هذا الزوج لا ينفعها فلا يخفى انه طامع في مسكن يبحث عنه وهو في خريف العمر وليس في استطاعته تدبيره. وتزينت أمي ولم تنس وضع بعض المساحيق وخرجت دون أن تخبرني عن وجهتها لكنني استشعرت حقيقة مقصدها وظللت اضرب أخماسا في أسداس عن كيفية تصرفها وكيف تتخذ القرار وهل سيكون صائبا ام خائبا، وبعد ساعتين عادت بخفي حنين عابسة ثائرة لانها اكتشفت الحقيقة المرة أن الرجل كما قلت بحاجة لمن تمرضه، لا لمن يتزوجها وكان بقايا إنسان فأصابها اليأس والقنوط بعد ضياع الأمل الوحيد. وها هي قد بلغت الثمانين أو اقتربت منها، ومازالت تفكر في الزواج وهذا هو سبب شكواها مني واتهامها لي بالعقوق، لأنني رفضت العريس الذي تريد الاقتران به، ببساطة لأنه عاطل ويصغرني بعشر سنوات وكل ما يهدف إليه أن يتزوجها ويطردني أنا وزوجتي من المنزل وقد لا يصبر كثيرا حتى تودع أمي الحياة وبكل بساطة يستولي على البيت لانه سيكون وريثا شرعيا ويدخلني في مشاكل وقد ينازعني حقي فيه وهذه هي خطته، وبعدها يتزوج بمن تقاربه في السن، ولا استبعد أن نجحت خطته في الزواج بأمي وبعد طردي أنا وزوجتي أن يطردها هي الأخرى ويحقق مأربه ولا نستطيع حينها إخراجه، وقد أخبرت أمي بهذا كله فثارت واتهمتني بأنني اقف في طريق سعادتها، وهددت وتوعدت بأنها ستخرجني بالقوة وسأترك البيت صاغرا، وفوجئت بها تشكوني هنا للشرطة وتتهمني بالعقوق. ما رأيك ماذا أفعل؟
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©