الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ثمن النَّعيم الزائف

ثمن النَّعيم الزائف
23 نوفمبر 2016 02:56
الفاهم محمد انتهت مؤخراً الدورة 22 لمؤتمر الأطراف ضمن الاتفاقية الإطارية لهيئة الأمم المتحدة في شأن التغيرات المناخية، والمعروف اختصاراً بـ(COP 22) والذي عقد في المدينة المغربية مراكش ما بين 7 و18 من الشهر الجاري. تاريخ طويل من المفاوضات التي خاضتها الدول منذ السبعينيات إبان ظهور المشكلة البيئية على السطح من أجل الحد من الانبعاثات الغازية، غير أنه وكما لاحظ علماء البيئة فإن مستوى هذه الانبعاثات لم ينخفض بل بالعكس تزايد منذ هذا التاريخ، والسبب هو أن الدول كانت توقع على هذه المعاهدات ولكنها للأسف لا تلتزم التطبيق. ثم جاءت اتفاقية باريس سنة 2015 المعروفة بـ(COP 21) والتي وُصفت بالتاريخية، لأنها تضمنت تعهداً من 195 دولة بضرورة الحد من ارتفاع درجة حرارة المناخ بأقل من درجتين، مع إدخال مفهوم جديد هو «العدالة المناخية» إذ لا يمكن أن نطلب من الدول الضعيفة أن تدفع فاتورة الخراب البيئي الذي أحدثته الدول المصنِّعة. من المنتظر إذن أن تكون اتفاقية المناخ الدولية في مراكش التجسيد الفعلي والحقيقي لهذه التعهدات، بحيث تنظر في تفاصيل الاتفاقية المبرمة سابقاً، وأن تعثر على الأدوات والوسائل اللازمة لإنزال اتفاقية باريس على أرض الواقع. وعلى رأسها الالتزام بتخفيض الغازات الدفيئة بدرجتين على الأقل، بل والاقتراب إلى حدود درجة ونصف الدرجة. إضافة إلى العديد من الأمور الأخرى مثل المساعدات المالية التي ينبغي أن تقدَّم للدول الضعيفة كي تكافح أخطار التغيرات المناخية. واليوم، تجد البشرية نفسها في مفترق طرق وأمام امتحان صعب، إما أن تركن إلى الرفاهية والدعة الزائفة التي خلقتها حضارة الاستهلاك، وإما أن تفكر بمنطق المسؤولية في مستقبل الأرض ومصير الحياة بشكل عام. ذلك أن ما نهدده اليوم بفعل التغيرات المناخية ليس حياة هذا الكائن أو ذاك، وإنما الحياة ذاتها كما ظهرت منذ ملايين السنين فوق الأرض هي التي أصبحت اليوم في كف عفريت. إننا لا نُبيد فقط الكائنات الحية ولكننا نقتل الحياة. منذ سبعينيات القرن الماضي بدأنا نستشعر البدايات الأولى للثمن الباهظ الذي علينا أن ندفعه مقابل هذا النعيم الزائف للتقدم ولحضارة الاستهلاك. إنها المشكلة الإيكولوجية التي بات مؤكداً للغالبية على الأقل -ما دام البعض يرفض الاعتراف بذلك- أنها ناتجة عن التدخل البشري في الطبيعة، حيث أحدثت عصراً جديداً في التاريخ الجيولوجي للأرض، أصبح يُصطلح عليه بالأنثروبوسين L›Anthropocène. مذّاك وكرة الثلج تتدحرج وتزداد تعاظماً، وها نحن الآن اقتربنا من نقطة اللا عودة، هذا إذا لم تستطع المؤتمرات الدولية انتزاع قرار سياسي وجريء، ليس فقط بضرورة إنقاذ الطبيعة، بل وإنقاذ الحياة ككل فوق الأرض بما فيه حياتنا نحن بني البشر. العقلانية المزهوّة بذاتها لقد افتُتحت المرحلة الحديثة بميلاد الذات الديكارتية المتحكمة في قدراتها العقلية، والواثقة إلى حد اليقين المطلق من أنها «السيدة والمالكة للطبيعة». والحق أنه بفضل هذه العقلانية المزهوة بذاتها، وبفضل المشروع العلمي والتقني المهتاج، تمكنا اليوم من اكتساح الكرة الأرضية طولاً وعرضاً، وسيطرنا على الطبيعة أرضاً وجواً وبحراً. هكذا ضاعت تلك الوحدة التي كانت تضم الإنسان والكون ضمن نسيج واحد أطلق عليه اليونان «الكوسموس». وبدله ظهر التقابل والمواجهة الحادة بين الإنسان والطبيعة. لقد قدم المشروع العقلاني التقني على أنه سيشكل خلاص البشرية، بل هو الوسيلة الوحيدة التي ستمكن الإنسان أخيراً من تغيير شرطه الوجودي. ومع توالي العصور اقتربنا بالفعل من تحقيق تغييرات عميقة في الوضع البشري، يكفي أن ننظر إلى التحسن الكبير الذي نعرفه حالياً لا على المستوى الصحي ولا على مستوى التغذية العامة فقط، وإنما لجهة كوننا نعيش وضعاً غير مسبوق في تاريخ البشرية، ما دام بإمكاننا أن نفهم ميكانيكا عمل الطبيعة بما فيه طبيعة الكائنات الحية، بل أكثر من ذلك تصنيع وخلق طبيعة جديدة. كل هذه أمور جعلت المجتمعات المعاصرة تعيش وهي ترفل في النعيم الذي وجدناه أمامنا كما كانت تقول أيديولوجيا التقدم، بدل أن نكون قد تركناه وراءنا كما كان يقول الدين.. ولكن هل كان كل هذا دون ثمن؟ كيف يمكن تشخيص الوضع البيئي اليوم؟ ما القرارات السياسية والاقتصادية التي ننتظرها من المؤتمرات البيئية، وعلى رأسها المؤتمر الدولي الأخير المنعقد في مراكش؟ لكي نعرف الوضع الذي نوجد عليه يمكن أن نشخِّص المشكلة البيئية حالياً ونصنفها إلى ثلاثة مستويات هي: وضعية المناخ، وضع الموارد الأولية، وضعية الأنساق البيئية. وضعية المناخ إن المشكلة الأساسية التي يعيشها المناخ هي ما يسمى الاحتباس الحراري. ومعناه أن الغلاف الجوي للأرض أصبح يحبس حرارة أشعة الشمس أكثر مما هو مطلوب، نظراً إلى أنه مشبع كثيراً بغازات الدفيئة وهي الغازات التي تعمل على امتصاص حرارة الشمس كي تحافظ على دفء الكرة الأرضية واعتدال مناخها. لقد أثرت هذه التغيرات المناخية على مجمل التوازنات البيئية. العديد من الدراسات تثبت أن الاحتباس الحراري، هو السبب المباشر وراء العديد من الكوارث الطبيعية مثل الأعاصير والزوابع والفيضانات. واليوم ها نحن نحاول أن نعالج ذلك بواسطة ما يطلق عليه علم الهندسة المناخية (Geo-engineering) والذي يختص بالتحكم في الطقس ونزول الأمطار الاصطناعية عن طريق رش مواد كيميائية في السماء ضمن ما يعرف بالكيمتريل وهي مواد تزيد من تفاقم المشكل البيئي، لأنها مواد كيميائية تتسرب إلى التربة والمياه وتضر بصحة الإنسان. تقود عملية الاحتباس الحراري كذلك إلى ذوبان الجليد، وارتفاع منسوب مياه البحار مما يؤدي كذلك إلى تآكل اليابسة. العديد من الجزر أصبحت مهددة بالاختفاء كليا مثل جزر المالديف مما أدى برئيسها محمد نشيد سنة 2008 إلى الإعلان عن رغبته في شراء أرض جديدة تكون بمثابة وطن جديد لشعبه. أما نائب الرئيس الأمريكي آل غور فقد قدم لشريط وثائقي تحت عنوان حقيقة تزعج (1) يثبت أن نيويورك ستصبح تحت الماء إذا بقي الاحتباس الحراري على ما هو عليه. وضع الموارد الأولية المقصود هنا بالموارد الأولية الثروات الطبيعية، مثل المياه والطاقة والأراضي الصالحة للزراعة وكذلك المعادن المختلفة التي تسمح باستمرارية عملية التصنيع، كالحديد والنحاس والزنك وغيرها. إن كل هذه الموارد الأولية بدأت تعرف اليوم تناقصا متزايدا وأحيانا شحا وندرة ملحوظة. خذ على سبيل المثال البترول، لقد لعب دوراً كبيراً في ازدهار الحضارة المعاصرة، غير أننا اليوم على أبواب نفاده. يرى المتتبعون أنه على أكثر تقدير سينتهي في حدود أقل من الستين سنة المقبلة. هذا إن لم يكن قبل ذلك بكثير ما دام أن الطلب عليه يزداد بفعل ارتفاع الاستهلاك. لم تعد هناك اليوم آبار كبرى للاكتشاف، كما أن النفط المستخرج من الصخور كلفته غالية جداً على المستوى البيئي وعلى المستوى المادي. الأمر ذاته يمكن أن نقوله أيضاً عن المعادن، لقد قام الإنسان بحفر الأرض وبقر الجبال والمناجم من أجل استخراج كل المعادن الممكنة. ولولا ذلك لما توفرت هذه المعدات التكنولوجية التي ننعم بها اليوم من سيارات وثلاجات وحواسيب وباقي الأدوات الأخرى. غير أن هذه المعادن باتت هي أيضاً تعيش لحظاتها التاريخية الأخيرة، وربما لهذا السبب يفكر الإنسان اليوم في استخراجها من النيازك والكواكب الأخرى. خذ كذلك مشكلة المياه الصالحة للشرب، يقال إن الحروب المستقبلية ستكون حول المياه فهي في تناقص مستمر. فالجفاف والتصحر والاضطرابات المناخية، كل هذا وضع بعض الدول في موقف حرج. وضعية الأنساق البيئية سواء في البرّ أو في البحر، قام الإنسان بإبادة العشرات من أنواع الكائنات الحية، وهي كائنات مترابط بعضها مع بعض ضمن ما يطلق عليه السلسلة الغذائية. ثم إن إبادة الحشرات بواسطة المبيدات الكيميائية سيؤثر على التربة، لأن هذه الحشرات هي التي تسهم في تفكك الذبال وبالتالي الزيادة في خصوبة الأرض. لقد استطاع الإنسان أن يقضي على نصف الأسماك الموجودة في البحر ونصف الطيور التي تحلق في السماء. إضافة إلى العديد من الأحياء والكائنات الأخرى التي بات علينا أن نحافظ عليها فقط ضمن محميات، أو ضمن مختبرات خاصة كما لو أنها آثار نادرة تذكِّرنا بالتاريخ الخصب للحياة على الأرض. الوقائع مخيفة، كما تخبرنا الإحصاءات والدراسات العلمية، وهي تنذر بكارثة عالمية غير مسبوقة في تاريخ البشرية. إننا نعرف أن النموذج الغربي في العيش وفي التطور الحضاري يغري الجميع باتباعه ولكن هذا النموذج ذاته القائم على الاستغلال الفاحش للطبيعة، والاستهلاك المفرط للإنسان هو الذي قاد البشرية اليوم إلى هذا الانهيار البيئي. لذلك وجب بالضرورة إعادة النظر في صلاحية هذا النموذج وملاءمته للوضع البشري. لا يمكن أن يعيش كل سكان الأرض على الطريقة الغربية دون أن يكون هناك اختلال في التوازنات البيئية الأساسية. والحال أننا نرى اليوم كل الشعوب النامية تحاول أن تقلد النموذج الغربي في التنمية، خذ على سبيل المثال عملاقي آسيا: الصين والهند. لقد ودَّع الصينيون الدراجة الهوائية التي كانت رمزاً وطنياً لهم، وبدلها يلهث الجميع من أجل اقتناء السيارة. كما أن العاصمة بكين تتغير معالمها التاريخية سنة بعد أخرى، فالمساكن التقليدية عليها أن تفسح المكان للطرق المعبَّدة، والمساكن الحديثة تصدر منها انبعاثات غازية زائدة مقارنة بالمساكن التقليدية. أما الهند فبعض مدنها مثل نيودلهي تتوفر على أسوأ هواء على الأرض. هناك أيضاً مشكلة أخرى مرتبطة بالانهيار البيئي وهي الهجرة البيئية. الكل يعلم عن الهجرة الاقتصادية التي تعرفها إفريقيا. والكل يسمع أيضاً عن الهجرة السياسية في دول أخرى، فالنازحون من مناطق الحروب نتابعهم يومياً في نشرات الأخبار. لكن ماذا عن المهاجرين بسبب التقلبات المناخية. في العديد من مناطق العالم وبالخصوص في أفريقيا وآسيا نجد أن الآلاف من البشر يهجرون قراهم، إما بسبب الفيضانات أو بسبب الجفاف. حسب هيئة الأمم المتحدة في سنة 2011 بلغت الهجرة البيئية 32 مليون مهاجر. مع ذلك لا يتوقف خطر التغيرات المناخية عند هذا الحد، بل هو ينذر بتهديد السلام والاستقرار الاجتماعي، فمن يمتلكون الموارد الأولية للعيش مثل الماء والأراضي الصالحة للزراعة، سيجدون أنفسهم مهددين من طرف من هم محرومين منها وقد تنشأ حروب أهلية أو دولية بسبب ذلك. حضارة ثاني أكسيد الكربون لكي تكون هناك حضارة ينبغي أن يكون هناك إنتاج للثروات بكل أشكالها، ولكي يتحقق ذلك لا بد من وجود طاقة. كل الحضارات التي عاشت على الأرض قديماً كانت توفر طاقتها من المجهود البشري والحيواني. لم يقع تحول في هذا الأمر إلا مع بداية الثورة الصناعية، حيث بدأنا ننتقل من الطاقة العضلية إلى الطاقة الأحفورية، والمقصود بها الفحم الحجري والبترول ثم الغاز الطبيعي. هكذا ظهرت حضارة «CO2» غاز ثاني أكسيد الكربون. وهو الغاز الذي أسهم بشكل كبير في التدهور البيئي الذي نعيشه حالياً. ظاهرة الاحتباس الحراري هي واحدة من الظواهر الخطيرة التي تهدد بشكل كبير البيئة، والمقصود بالاحتباس الحراري -كما أشرنا سابقاً- أو ما يسمى أيضا «تأثير البيت الزجاجي»، هو ارتفاع درجة الحرارة في الغلاف الجوي بسبب الانبعاتات الغازية مثل ثاني أكسيد الكربون والميتان وديوكسيد الكربون وغيرها. علينا أن نعلم أن هذا الاحتباس وفي حدود معينة هو ظاهرة محمودة لأنه دون هذه الغازات التي تعمل على تدفئة جو الأرض لكان المناخ بارداً جداً يقدره بعض العلماء بـ«C 18» غير أن الانبعاثات الغازية الناتجة عن النشاط البشري كانت أكثر بكثير من اللازم مما زاد في درجة حرارة الأرض. من هنا يتساءل العلماء عن النسبة التي يمكن أن تبلغها الانبعاثات الغازية في الجو والتي ستكون بمثابة عتبة إذا ما تجاوزناها لا يمكن الرجوع إلى الخلف. إن أغلب الدراسات تؤكد أنه ينبغي تخفيض هذه الانبعاثات إلى حدود %70 في حدود 2050. وهناك حالياً أطروحتان لتفسير سبب هذا الارتفاع الملحوظ في درجة الحرارة بين من يُدعون بالمتشككين البيئيين (les climato sceptiques) وهم يعتبرون أنه من الأفضل الحديث عن التغير المناخي بدل الاحتباس الحراري. فقد عرفت الأرض في نظرهم على طول تاريخها العديد من التغيرات المناخية، لأن هذا يدخل ضمن الدورة العادية التي تعرفها الكرة الأرضية، إذ كل بضعة آلاف من السنين تدخل في حقبة مناخية جديدة. كما أن ارتفاع النشاط الإشعاعي للشمس في العقود الأخيرة كان من أهم الأسباب التي أدت إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض. في مقابل هؤلاء هناك من يعتبر -وهم الأغلبية- أن هذه التغيرات ليست طبيعية بالمرة، بل هي ناتجة عن النشاط البشري، وبالضبط عن الثورة الصناعية التي بدأها الإنسان منذ القرن 18. وهكذا فما تعرفه الأرض حالياً هو عصر جيولوجي جديد محدث بفعل التأثير البشري على التفاعلات الكيميائية في مناخ الأرض. إن «البصمة الإيكولوجية» للإنسان موجودة اليوم في كل تفاصيل الكرة الأرضية. مع ذلك، يدافع الأميركيون، وهم ليسوا وحدهم في هذا الميدان، عن الأطروحة الأولى. لقد صرح الرئيس الحالي ترامب مهدداً بإلغاء كل الاتفاقيات. وقبله كان جورج بوش هو أول من رفض اتفاقية كيوتو سنة 2001 لنفس الأسباب. أما من العلماء فنجد العالم الأمريكي إيفار جيفير من بين أشهر العلماء الذين يندرجون ضمن لائحة المتشككين وهو الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1973 والذي استقال من الجمعية الفيزيائية الأمريكية بسبب دعمها لأطروحة العامل البشري كمسبب للاحتباس الحراري. بدل ذلك يرى هذا العالم أن هذا الموضوع، أي الاحتباس الحراري، أصبح اليوم شبيهاً بعقيدة دينية لا يتجرأ أحد على الشك فيها أو مناقشتها. وأن من يصفهم بناشري الذعر يروجون للأكاذيب التي تفتقر إلى الدقة العلمية. (3) وكيفما كان الحال، فإن أغلب الدارسين يرون أنه إذا كانت الأرض قد عرفت حقاً مراحل تغير في مناخها، فهي لم تعرفه بهذه السرعة والكيفية التي تعرفها اليوم وهذا دليل على أن هذه التغيرات ناتجة عن النشاط البشري وليس الطبيعي. ثم إنه بغض النظر عن التفاصيل العلمية والنظرية ينبغي العودة كما يقول الفنومينولوجيون إلى الأشياء ذاتها، والأشياء ذاتها هي ما نراه حولنا اليوم فقط باعتمادنا على دلالة الحس السليم. الكل يرى آلاف قطعان الأسماك التي يرميها البحر ميتة بسبب تلوث مياه البحر. والكل يرى أن القلنسوة الثلجية في القطب الشمالي تتقلص سنة بعد أخرى. والكل يعيش الاضطرابات المناخية فلا التساقطات المطرية تأتي في وقتها ولا حرارة الشمس تطل علينا بشكل معتدل. التحكم في التحكم لقد بُني صرح الحداثة وفوق بابه الشعار الذي رفعه ديكارت: ينبغي على الإنسان أن يصبح السيد والمتحكم في الطبيعة». لا أحد يجادل اليوم في أن فكرة السيادة والسيطرة على الطبيعة كانت وبالاً على البيئة. لذلك رفع الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشيل سير شعاراً آخر: ينبغي أن نتحكم في التحكم. إن المعضلة الكبيرة التي لا نعرف حالياً كيف نعالجها بشكل جذريّ، هي كيف يمكن التوفيق بين الإيكولوجيا والتكنولوجيا؟ لا نعرف ما يتعين علينا إنجازه حول أمر يرتبط به مصيرنا وبقاؤنا في هذه الحياة. ورغم أن الحل واضح فإنه يتطلب القيام بهذه القفزة الضرورية، من الاعتماد على الطاقات الأحفورية إلى الطاقات البديلة، إن ثمن هذا الانتقال باهظ جداً ونحن غير مستعدين لدفعه بعد. لتحقيق هذا الانتقال الصعب ينبغي إعادة النظر في اقتصاد المنفعة الذي انبنت عليه الرأسمالية الليبرالية، وهو أمر ليس هيناً القيام به لأنه يرتبط بمصالح الشركات الكبرى وباقتصاد الدول المصنعة. لنتذكر هنا مفارقة الاقتصادي إسترلين Paradoxe d’Easterlin Le والتي تقول إن ارتفاع الناتج الخام الداخلي PIB لا يقود حتماً إلى الرخاء الاجتماعي وسعادة الأفراد. كما أن تقرير «ميداوز» الشهير Le rapport Meadows كان قد أثار السؤال منذ 1972 حول حدود النمو الاقتصادي مؤكداً أنه لا بد أن يصل يوماً ما إلى نهايته القصوى. ثم إن الانفجار الديموغرافي الذي نعرفه حالياً والذي جعلنا نتجاوز عتبة السبعة مليارات نسمة، لا يساعدنا على تحقيق مثل هذا الانتقال، فزيادة عدد السكان تعني المزيد من التلوث والمزيد من الانبعاثات الغازية خصوصاً أن الجميع يريد أن يعيش على الطريقة الغربية، أي أن يعيش حياة تعتمد على الاستهلاك المتعاظم للموارد الأولية. كيف يمكن للكرة الأرضية اليوم أن تلبي رغبة الجميع في الاستهلاك؟ وهل هناك من سبيل للاستمرار في وتيرة التصنيع في اللحظة التي باتت كل المعادن فوق الأرض في تناقص يوماً عن يوم. نحن في حاجة إلى تغيير مفهومنا للتنمية، فبدل التنمية الكمية القائمة على رفع الإنتاجية، ينبغي اعتماد تنمية نوعية تأخذ بعين الاعتبار احترام البيئة. والتحكم في التحكم، إذن، قد يكون حلاً ولكنه يتطلب القيام بخيارات صعبة يمكننا إجمالها في العناصر الآتية: * تقليص عدد السكان إلى حدود معقولة، فالكارثة البيئية مرتبطة في مستوى من مستوياتها بالانفجار الديموغرافي. * تجاوز النموذج الحضاري القائم على الاستهلاك. * تطوير تكنولوجيا صديقة للبيئة. قرارات مصيريّة القرارات التي تنتظر المؤتمرات الدولية حول البيئة ومن بينها (الكوب 22) الذي عُقد في مراكش هي قرارات مصيرية. يتطلب الأمر من الإنسان أن يعرف مكانته في الطبيعة ودوره فيها ضمن علاقة جوار تربطه بها وبباقي الكائنات الحية. كما يتطلب الأمر كذلك القيام بتضحيات جسيمة من طرف كل شعوب الأرض بضرورة تخفيض الانبعاثات الغازية الناتجة عن التقدم الصناعي. وإذا كانت مؤتمرات مثل هذه من شأنها أن تنتزع اتفاقات شجاعة من السياسيين الذين يملكون سلطة القرار، فهذا لا يعفينا نحن من بعض المسؤولية كذلك. علينا كأفراد وكمواطنين أن نقوم بتعديل سلوكنا الاستهلاكي المفرط، وهو أمر سيتحقق ليس عن طريق المؤتمرات ولكن عن طريق رفع مستوى الوعي بطبيعة المشكلة البيئية. إن هذا هو ما انتبه إليه البيان الختامي لـ(الكوب 22) أو ما أصبح يُصطلح عليه بـ«إعلان مراكش»، عندما أكد ضرورة تفعيل دور الأسرة في الحد من السلوكات المضرة بالبيئة وفي التثقيف لرفع درجة الوعي البيئي لدى النشء. ينبغي إدراج التربية على البيئة كمادة أساسية في المدارس والجامعات لتغيير السلوك الاستهلاكي للإنسان المعاصر. من المفروض اليوم العمل على النجاح في هذه المساعي البيئية حتى ننقذ مستقبل الجنس البشري فوق الأرض. ماعدا ذلك وإذا قدر للأمور أن تخرج عن سيطرتنا فإن الطبيعة ذاتها ستتكفل بالدفاع عن نفسها أمام الأخطار التي يهددها بها الإنسان. إذا لم ننجح في هذه المساعي فإن المؤتمر المقبل -يقول الفيلسوف الفرنسي إيف باكالي المهتم بقضايا البيئة ساخراً- سنعقده في قارة أتلانتيد (3)، وقارة أتلانتيد هي قارة أسطورية ذكرها أفلاطون في أحد محاوراته، يعتقد أنها كانت عبارة عن حضارة متطورة لكنها اختفت تحت الماء لأسباب مجهولة. ................................................ الهوامش 1- حقيقة تزعج An Inconvenient Truth هو عبارة عن شريط وثائقي يتحدث عن التغيرات المناخية، قام بإخراجه Davis Guggenheim، وفاز بأوسكار أحسن فيلم وثائقي في 2007 وقدم له آل غور نائب الرئيس الأمريكي والفائز بجائزة نوبل للسلام. 2 - Reducing Emissions from Deforestation and Forest Degradation 3- https:/‏/‏www.youtube.com/‏watch؟v=JQCllcKIjjQ Yves paccalet l›humanité disparaitra bon débarras ED flammarion 2013 P 19 5 آبار الكاربون تتوفر الأرض على أنظمة ذاتية للحفاظ على التوازن البيئي والمناخي تسمى لدى علماء البيئة بآبار الكاربون وهي: * الغابات: بفضل عملية التمثيل الضوئي تمتص الأشجار الكاربون وتنفث الأكسيجين. غير أن عملية اجتثاث الغابات التي قام بها الإنسان إما بسبب استعمال الخشب في المجال الصناعي، أو بسبب تهيئة الأراضي الصالحة للزراعة. كل ذلك أدى لحدوث اختلال كبير في هذه المسألة. إن هذا هو ما جعل الأمم المتحدة سنة 2005 تتبنى مشروعا ضخما للتشجير يسمى ب REDD 3. * المحيطات: وهي أيضا آبار كاربون ضخمة تمتص نحو نصف الكاربون المنبعث في الجو، غير أن ارتفاع هذه النسبة بسبب الاعتماد الكبير الذي يعرفه الإنسان حاليا على الطاقات الأحفورية، جعل البحار تخزّن كميات أكثر مما كانت تقوم به في الماضي. وهذا ما يجعل البحار مشبعة بهذه الانبعاثات وغير قادرة على امتصاص المزيد، ويجعل الغلاف الجوي الأرضي أكثر سخونة ما دام أن البحار لم تعد قادرة على أداء وظيفتها في الامتصاص. وهذا الامتصاص الزائد على طبيعة المياه ذاتها التي تزداد حموضتها مما يشكل خطرا كبيرا على التنوع الإحيائي. ناشري الذعر العالم الأمريكي إيفار جيفير، الحائز جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1973، من بين أشهر العلماء الذين يندرجون ضمن لائحة المتشككين في مسؤولية الإنسان عن التغيرات التي تشهدها الأرض، وقد استقال من الجمعية الفيزيائية الأميركية بسبب دعمها لأطروحة العامل البشري كمسبب للاحتباس الحراري. بدل ذلك يرى هذا العالم أن هذا الموضوع، أي الاحتباس الحراري أصبح اليوم شبيهاً بعقيدة دينية لا يتجرأ أحد على الشك فيها أو مناقشتها، وأن من يصفهم بناشري الذعر يروجون للأكاذيب التي تفتقر إلى الدقة العلمية. مسؤوليتنا الفردية إذا كانت المؤتمرات من شأنها أن تنتزع اتفاقات شجاعة من السياسيين الذين يملكون سلطة القرار، فهذا لا يعفينا نحن من بعض المسؤولية كذلك. علينا كأفراد وكمواطنين أن نقوم بتعديل سلوكنا الاستهلاكي المفرط، وهو أمر سيتحقق ليس عن طريق المؤتمرات ولكن عن طريق رفع مستوى الوعي بطبيعة المشكلة البيئية. وهذا هو ما انتبه إليه البيان الختامي لـ (الكوب 22) أو ما أصبح يصطلح عليه بإعلان مراكش، عندما أكد على ضرورة تفعيل دور الأسرة في الحد من السلوكات المضرة بالبيئة وفي التثقيف لرفع درجة الوعي البيئي لدى النشء. ينبغي إدراج الحفاظ على البيئة كمادة أسياسية في المدارس والجامعات لتغيير السلوك الاستهلاكي للإنسان المعاصر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©