الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«ضوابط» الارتجال المسرحي

«ضوابط» الارتجال المسرحي
19 يونيو 2013 21:02
أحمد علي البحيري على الرغم من أن إصطلاح “الكوميديا الفنية”، أو كوميديا ديلارتي الارتجالية الايطالي، موغل في القدم تاريخيا، إلا أنّه ما زال حاضرا بقوة في مسرحنا المعاصر بشكل أو بآخر، وبخاصة في مجال المسرحيات الكوميدية الهزلية. وبحسب الدكتور إبراهيم حمادة أستاذ النقد والأدب في “معجم المصطلحات الدرامية”: “فهو نوع من الأداء التمثيلي الملهوي، يقوم نصّه إلى حد كبيرعلى ارتجال ممثلين محترفين، وقد انحدرت أصول هذا الفن من الأشكال التمثيلية الشعبية الضارب أصولها في أعماق تاريخ الرومان، ولقد عاش هذا اللون الملهوي الشعبي في إيطاليا في القرن السادس عشر، ثم انتقل بسرعة مذهلة إلى غيرها من البلدان الأوروبية الأخرى، وظل قائما هناك حتى أوائل القرن الثامن عشر، والملهاة المرتجلة أو الاحترافية، ظهرت لتناقض المسرحية التقليدية التي كانت تكتب ليحفظها الممثلون، وتقوم على تخطيطة قصصية (سيناريو لا يزيد عن أربعة أسطر)، يعرفها اللاعبون قبل الظهور أمام الجمهور، وعند الأداء المسرحي يكسو الممثلين الهيكل القصصي بالحوار وكان من نتيجة استخدام شخصيات أساسية وثانوية في شكل ثابت، ومواقف شبه دائمة، ونكات هزلية معروفة سلفا، أن أصبحت الملهاة المرتجلة أقل ارتجالية، ولعل أهم الشخصيات النمطية في ذلك النوع من الملاهي الذي كان يستخدم “الأقنعة” هي: بنطلون، وهو تاجر عجوز من البندقية، ودوتور، شخصية بولونية دعية تقلد الطبيب، وأرلكون، وهو شخصية ثانوية كان يعمل كخادم، وزاني، كابيتانو وهو الجندي الجبان، وإسكاراموش، ويلعب دائما شخصية الخادم الوغد” (معجم المصطلحات الدرامية ـ دار الشعب، القاهرة ـ 1970 ص 290). سرعة صاروخية إذا عدنا إلى الكوميديا الفنية، أو كما تسمى أحيانا “الكوميديا الايطالية”، وهي ظاهرة غريبة في تاريخ المسرح، بل لعلها أغرب ظواهر هذا التاريخ المسرحي قاطبة، سنجد أنها انتقلت بسرعة الصاروخ من إيطاليا إلى مسارح أوروبا، بسبب شعبيتها ونجاحها الساحق في جذب فئات مختلفة من الجمهور، والأرجح كما تسجل بعض الدراسات الفنية، أن سيرتها قد بلغت مسامع الكاتب الشهير وليام شكسبير وكذلك أثرها الكبير على أسلوبية الكاتب الفرنسي موليير، وحتى على إمتداد مسرحنا العربي في عهديه الحديث والمعاصر، سنجد أن شخصيات الكوميديا المرتجلة متعمقة في مسرحيات الشخصيات المسرحية التي إبتدعها كل من نجيب الريحاني، وعزيز عيد، وإسماعيل ياسين، وغيرهم. بعض الدراسات تشير إلى إحتمال إشتقاقها من (الآتلان)، أي من هزليات مدينة آتلا الشعبية بالضاحية الرومانية في التاريخ القديم، ولكن إذا صحّ هذا الفرض فالأمر ينطوي على تجربة تكشف عن فترة ركود على حياة كامنة دامت حوالي ألف عام، حتى أن الدّهشة لتأخذنا بعد بعثها من جديد ـ وقد ألهبتها شمس الحضارة ذات النزعة الانسانية ـ حيث يبدو نهج فن التمثيل، أو مجموعة شخصياتها على الحال الأولى، ولك أن تنظر إلى شخصيات هذه الملهاة وهم يتحركون على المسرح، فهذا (بوكو) و(ماكوس) والشره (ماندوكوس) و(مايلز جلوريوزس)، وهم يستخدمون جملة من الأقنعة العتيقة التي تبعث من جديد بلا تعديل، سوى في الأسماء، ومن المهم هنا الاشارة إلى أهمية (الأقنعة) إذ من المعروف أن ممثلي الآتلان، كانوا يتقنعون، وكذلك نهج ممثلو “الكوميديا الايطالية”، ولكن إذا كانت فرقة مسرحية هزلية مكونة من أمثال هؤلاء الممثلين الضاحكين، قد عرضت تمثلياتها في الطرقات والأسواق إبان عهد المسرح الوسيط، فكيف وصلت إلينا تقاليدها المسرحية، عبر كل هذا التاريخ من تطور فن الكوميديا، وهو مع التراجيديا، يشكل الجناح الأصعب والأخطر في فن الدراما بوجه عام؟ الشيء الذي يثير الدّهشة في تركيبة الكوميديا الفنية ـ بوجه خاص ـ هو عدم وجود نص مسرحي مكتوب للتمثيليات بالمعنى التقليدي، كل ما هنالك: سيناريو لا تزيد فكرته عن أربعة أسطر، أما الحوار فهو يرتجل أمام الجمهور، حوارا جديدا منتعشا متغيرا مع كل عرض جديد، وهكذا لم تجد هذه الاشكالية بعد حلها القاطع النهائي، بالرغم من كل ما دار من بحوث، وبذل من جهد في هذا السبيل منذ أكثر من نصف قرن، فما زال الممثلون المحترفون وأبطال المسرحيات الكوميدية يرتجلون بعض الحوار إن لم يكن كله، بل ويضيفون أحيانا إلى النص المكتوب، كل على طريقته الخاصة، وفي إطار الشخصية التي يلعبها وتسمح له بتحقيق هذا الارتجال الصعب. شكسبير مرتجلا في الجانب الآخر، ولتتبع مثل هذا الجدل الذي أثير وما زال يثار حول قيمة وأساس هذه الكوميديا، سنجد أن نقاد وباحثين من مستوى “كونستانت ميك” و”ميشيل شرليون” قد أنكروا كل أصل قديم للكوميديا الفنية، فيما يصبح ردّ الناقد والباحث الفرنسي “بيير دشارتر” قد يكفي لمواجهة الرأي السابق، حيث أنّه يؤكد أن هناك صلة تامة للكوميديا الفنية بعهدها الايطالي القديم، ولو من قبيل المطابقة في إستخدام الأقنعة والملابس، فكما يذكر: معروف أن الممثل في “المسرح الصامت” في العهد الأول من تأسيس الكوميديا الرومانية، كان أجرد “الشعر”، وها هو الجلد الصناعي أو الطاقية الملاصقة في الكوميديا الفنية، يهدف إلى الغاية نفسها، ثم ها هي شخصية “هارلكان” و”بريجلا” يطلق عليهما في الملهاة المرتجلة في مرحلتها الثانية المتطورة إسم “تزاني” والذي كثيرا ما يتكرر في مسرحيات شكسبير، ومهما قال وتشكك بعض العلماء في إشتقاق هذا الاسم من الآتلان، إلا أن شواهد عديدة ومتشابكة ما بين هذه الكوميديا وفن المسرح الحديث، قد تبدو واضحة، فالخنجر الخشبي عند شكسبير، كانت تقابله عصا الضرب القصيرة في الملهاة المرتجلة، ثم تلك الملابس القصيرة مما كان يرتديه الخدم وعبيد روما على السواء، ألم نجدها في ملامح عديدة في المسرحيات الشكسبيرية، ثم ما القول في ملامح (بولتشينلا) الشاذة في الكوميديا الفنية، بمقابل شخصية (بونتش الانجليزي) بأنفه المقوّس وظهره الأحدب؟ أليست هي الملامح ذاتها التي ميّزت (ماكوس) في الآتلان؟ ألا يلبس الاثنان اللون الأبيض دون باقي الألوان، وأخيرا وليس آخرا، إن الهزليين الإيطاليين ـ دون معاصريهم من الممثلين ـ كانوا يتقنعون إذا ما إعتلوا منصة التمثيل، وهكذا كان في العهد القديم، إذ لا يحسن بنا إنكار قيمة ونشأة هذا الفن الهزلي مهما كانت سماته، وملامحه، بإعتباره فنا راقيا ذا خصيصة عظيمة في ذلك الوقت. علينا أن ندرك ونحن ندرس هذه الظاهرة المسرحية، أن “الكوميديا الفنية” لم تكن مجرد بعث نهج فني عتيق، فعندما بزعت أنوارها في إيطاليا في مطلع القرن السادس عشر، كانت مظهرا ينبض بحياة خاصة بها، والدليل على قيمتها الفكرية والفنية والانسانية، أنها راحت تنمو وتتطور شخصياتها حسب تطور الظاهرة الاجتماعية والمناخ الديني والسياسي، ويرجع البعض فضل هذا الحفز والتطور الفني الذي حققته في زمن قياسي إلى (أنجلو بيولكو) الذي قدّم عام 1521 هزلية نثرية، تنطق شخصياتها بمختلف اللهجات الايطالية ـ مما أصبح من أبرز خصائص (الكوميديا المرتجلة) ـ حتى أنّه لنستطيع أن نقول أن هذه الشخصيات لم تكن تمثل قطاعا من الحياة فحسب، بل إنها قد مسحت بشعبيتها الجارفة جغرافيا كل الجزيرة الايطالية، فشخصيتي هارلكان وبريجلا، مثلا، يعلنان عن مدينة برجامو، موطنا لهما، كما يدّعي (بولتشينلا) المكار الخبيث أنه من أهالي نابولي، أما مدّعي الطب (دوتور) يصرح للجمهور دائما بأنه قد تخرّج في جامعة بولونيا، وهكذا أصبح لهذه الشخصيات مزاجها وجوّها الفني والهزلي، وإرتباطها بالجمهور من خلال هذه الهزليات، التي لا تخلو أيضا من الاسقاطات على المجتمع من خلال هذه الشخصيات الهزلية الكوميدية. لم يتوقف التطور المدهش والسريع للكوميديا الفنية عند هذا الحد على مستوى تركيب الشخصيات والعلاقة الوطيدة مع الجمهور والمكان، فمنذ منتصف القرن السادس عشر ـ يقول دشارتر ـ أخذت هذه الكوميديا في غير إنقطاع، تتكاثر شخصياتها مع الفرق الذي ذاع صيتها بين الجماهير بمرور الأيام وتنوع الهزليات النثرية، بمواضيعها ذات الصلة بمشكلات الحياة الزوجية، والطموح المادي، والفوارق الطبقية، وعرفت لدى إيطاليا وأوروبا لاحقا، العديد من الفرق المسرحية التي إنتهجت أسلوب الارتجال كفن مستقل منها: “الجيلوزي”، و”الكونفيدنتي”، و”اليونيتي”، فأنجبت مدينة ميلانو شخصيتين هزليتين مهمتين هما: “بلتزام” و”سكابان”، ليكونا أخوين لشخصية “بريجلا”، و”ميليجينو”، فيما أنجبت مدينة نابولي شخصيتا “شكاراموش” و”تارتاليا”، وقدمت مدينة روما شخصيتا “ميو ـ بتاكا” و”ماكو ـ بيتي” وهكذا سارت كل مدينة تبتدع شخصية نموذجية تمثلها وتفاخر بها وبموهبتها في الارتجال والتقليد وإجادة فن الاضحاك، الذي أنجب وتطور لنا فيما بعد العديد من أنواع الكوميديا من مثل: الموقف، ملهاة الشخصية، ملهاة عصر الاحياء الملهاة الموسيقية، وغيرها من المسميات والمصطلحات التي لا تبتعد كثيرا عن سمات الكوميدا الفنية (من كتاب “الدراما أزياؤها ومناظرها” ـ جيمس ليفر ـ المؤسسة المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة ص 114). بلا نساء قد تستغرب، حينما تعرف أن الكوميديا المرتجلة لم تعرف الشخصيات النسائية في بداياتها الأولى، ولما عرفتها، لم تظهر الشخصيات النسائية بأقنعة، أو على الأصح جاءت اقنعتها صغيرة، أنيقة، جهد المستطاع لا تبرز شخصية محددة، وكانت أدوارها تقتصر على المحبة المتحسرة، أو الخليعة الملتهبة، مما كان يقتضيه السيناريو من أدوار، ولعل هذا المظهر عرفناه تماما في بدايات المسرح العربي، حينما كان التمثيل محظورا على النساء، وكان الممثلون الرجال يقومون بأدوار النساء، تحت ظاهرة (التخفي في المسرح)، وهكذا كان الأمر بالنسبة للأدوار المقابلة عند الرجال في الكومييا الايطالية ـ أي أدوار الفتى الأول في ذلك العصر ـ على أن التوفيق أو عدم التوفيق في الحب ـ وإن أعتبر العقدة التي يدور حولها موضوع التمثيلية الهزلية ـ هو من مسؤولية الشخصيات الهزلية التي كان يقع على عاتقها النصيب الأوفر في هذا العمل الترفيهي الذي كان يهتم بتنوع المناظر أيضا. وهنا نشير إلى فارق آخر بين نوعي الأدوار ـ أي بين الأدوار الهزلية ذات الأقنعة، والأدوار الأخرى (المباشرة) ـ فقد تبلور في ميل الأخيرة إلى إعتمادها على النصوص المسرحية المعدّة الجاهزة، المحفوظة عن ظهر قلب، ويعتقد الكثيرون أن فكرة (الملقن) في المسرح المعاصر، قد تكون انتقلت من فنون الأدوار المباشرة في إيطاليا، حيث كان يتطلب من الممثل أن يكون دقيقا في تلاوة الحوار المسرحي المطلوب، كما هو دون زيادة أو نقصان، وفي إطار إتقان وإنضابط مسرحي لا يعترف بفن الارتجال. وكما واجه المسرح إنتكاساته العظيمة في عهد المسرح الكنسي الوسيط، انتقلت هذه العدوى إلى الكوميديا الفنية، فبعد هذا المجد العظيم، عاشت الكوميديا الايطالية حتى أواخر القرن السادس عشر حياة صعبة وقاسية، فحينما كانت تتنقل فرقها بين المدن الايطالية، تواجه بذلك (الجو العدائي) الذي كانت تثيره سواء من قبل الحكام، أو الكنيسة، بإستثناء وحيد وهام، حيث القديس شارك بوروميو، بمدينة ميلانو، وما كان يقوم به من رعاية وإهتمام بفرق الكوميديا الفنية، لكن ذلك لم ينجح في وقف العداء المتأجج لها ليس في إيطاليا فحسب، بل في فرنسا أيضا، لكن تسلل هذا الفن بروحه الشعبية إلى فرنسا لم يتوقف لدى العديد من الكتاب، وبخاصة موليير، حيث لا يكاد المرء يتصور موليير بدون هذه الكوميديا، ما يوجب علينا التنويه إلى ذلك الحضور الجميل للممثل الايطالي (جناسا) إلى باريس عام 1571 ـ بمناسبة مهرجانات زواج الملك الشاب (شارل التاسع) ـ ما أتاح له المشاركة بتقديم تمثيلياته الهزلية في حفلات زواج (هنري دي نافار ومارجريت دي فالوا)، قبل أن يرحل إلى إسبانيا، حيث مثّل جملة من الأدوار أمام الملك فيليب الثاني، ما يؤكد أن الفن العريق، يمكن أن يتوقف للحظات قليلة، ولكنه لا ينعدم تماما ولا يختفي من الخارطة الابداعية. الشارع والبلاطات لهذه القصة فصولها وخيوطها، فهذا النجاح الذي حققته الكوميديا الفنية في باريس، قد ساهم في زيادة حماسة البلاط الفرنسي لهذا النوع الجديد من (الترفيه الدرامي)، فقد وصل الحد إلى أن تندفع بعض الشخصيات الملكية إلى المشاركة في هذا النوع من التمثيل، كما نتذكر كيف نجح فن البالية والرقص الحديث، في جذب أمراء وشخصيات ملكية في البلاط الفرنسي والأوروبي من الانخراط في أداء رقصات، ضمن الاحتفاليات والمناسبات الملكية، لكن من المهم الاشارة في هذا المقام، إلى أن رجال البلاط كان يستهويهم أدء أدوار العشاق والمحبين، أما الأدوار ذات الأقنعة فكان يؤديها الممثلون المحترفون، وبذلك تنجح الكوميديا الفنية في إرساء قاعدة رسمية وشعبية لها، ما ساهم في صدور قرار ملكي يمنع طرد المبدعين الايطاليين من فرنسا. في هذه الأجواء المشجعة، لحقت بفرقة (جناسا) إلى باريس فرقة أخرى ذائعة الصيت هي (الجيلوزي) التي وصلت باريس عام 1577، والتي كان الملك هنري الثالث، قد إستمتع بتمثيلها وأدائها الكوميدي في فينيسيا في طريق عودته من بولاندا، فدعاها إلى مدينة بلوا، بمناسبة إنعقاد مؤتمر ممثلي الأمة، فمثلت في حضرته عدة حفلات، أما مديرها أندريني، فقد تزوج من الشهيرة الحسناء إيزابيلا، وقد أسهمت بجمالها الساحر ومواهبها التمثيلية، في نجاح فرقة الجيلوزي، نجاحا منقطع النظير، فإستقبلت أعظم إستقبال في كافة بلاطات شمال إيطاليا. في الجانب التقني لهذا الشكل المسرحي الايطالي، تجدر الاشارة إلى أن فرق الكوميديا الفنية، وإن لم تكن تهتم كثيرا بمسألة إستخدام المناظر، إلا أنها أحسنت كثيرا في إستخدام الأزياء المسرحية، وأشهر هذه الملابس بلا منازع، ما كانت ترتديه شخصية (هارلكان)، بل لعلها أهم زي في تاريخ المسرح على الاطلاق، فأقدم الرسوم تظهر الجزء الأعلى من هذا الزّي، ملاصقا للجسم، يقفل بعضه من الأمام برباط، وأما جزؤه الأسفل فأشبه بسروال منه بأي شيء آخر، وتجمع بين الجزئين بقع مختلفة الألوان والأشكال، أما قبعته، فليّنة، يحلّيها شعر ثعلب أو آذان أرنب او بعض الريش الملون، وأما وجهه فيكسوه قناع من جلد أسود، وبيده عصا خشبية قصيرة. وما زلنا حتى اليوم نعرف هارلكان يحيا حياة شظف، كإحدى الخصائص الباقية للبانتوميم الانجليزي. لكن المهم في أمر هذا النشاط الانساني، ما كان يقدمه للشعب من محتوى له دلالاته الاجتماعية والوطنية، وتلك التجليات المسرحية التي كانت تقدّم في إطار الضحك المبهر، وإستخدامها في علاج القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وقضايا العنصرية والطبقية التي كانت سائدة بقوة في تلك الفترة، ونتحدث اليوم عن القيمة الفكرية للكوميديا الفنية لأنها واحدة من اجمل المحاولات التي نجحت في إرساء قواعد المسرح المرتجل والمسرح الجوال، بعد أن خاضت فرقها نضالا كبيرا في التواصل مع مجتمع القرى والأرياف في إيطاليا وعديد الدول الأوروبية. من الحب الجارف بين فتى وفتاة، ومن فساد الأخلاق، إلى نبذ الحياة الحياة الارستقراطية الباذخة، إلى عديد المواضيع المتصلة بالدين والسياسة والاقتصاد مما صدرته لنا هذه الكوميديا المزدهرة في إيطاليا في أواخر عصر النهضة، يمكن لنا أن نرى تأثيرات هذه المواضيع في مسرحنا المعاصر، حيث يمكن لنا اليوم أن نقرأ تفاصيل المنتوج الحداثي في المسرح من خلال تركيبات: مسرح الشارع، والمسرح الموسيقي، ومسرح العشاء في أوروبا، وكلها في تقديري تجريبات مسرحية من تحت عباءة ومنظور الملهاة المرتجلة التي تعتمد بشكل رئيس على ارتجال السيناريو المسرحي البسيط، وتطويره على خشبة المسرح، ليستمتع المشاهد كل يوم بنص جديد وبصيغة جمالية لا تتوقف عن النمو والتطور ومناقشة مشكلات المجتمع في واقعه. «الكوميديا الفنية» عند العرب على المستوى العربي المتصل بهذه الدراسة، لا يمكن لأحد أن يغفل الدور الكبير الذي لعبة الناقد العربي المصري الراحل الدكتور علي الراعي ـ أحد أفراد جيل الرواد الكبار الذين أرسوا الظاهرة المسرحية في الثقافة الجماهيرية ـ بعد أن اصدر لنا “مسرح الشعب” وهو مجلد ضخم يضم ثلاثة كتب، الأول: “الكوميديا المرتجلة”، والثاني “فنون الكوميديا”، والثالث “مسرح الدم والدموع”، فقد كانت الكومكيديا الهزلية الراقية في نظره هي روح الشعب، في الموالد والاحتفالات والمناسبات الاجتماعية والدينية والميلودراما، هي نظرة الجمهور والشعب إلى فن الدراما بوجه عام.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©