الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بصمات مشرقية في الشعر العالمي

بصمات مشرقية في الشعر العالمي
19 يونيو 2013 21:00
كتاب جديد يُطلّ به علينا الناقد والمُترجم المغربي بنعيسى بوحمالة بعنوان: “مضايق شعرية” والصادر مؤخرا ضمن منشورات بيت الشعر في المغرب. ويقع هذا الكتاب في 300 صفحة من الحجم المتوسط، وقد زيّن بلوحة فنية من إبداعات الفنان التشكيلي والشاعر المغربي عزيز أزغاي. في هذا الكتاب، يصطحبنا الدكتور بوحمالة إلى رحلة شيّقة لنتعرف على أصوات شعرية من مناخات وقارات مختلفة، من خلال ترجمات، ومقترحات، وبورتريهات، أنجزها وترجمها بوحمالة. الكتاب يبدأ بالاقتراب من عوالم سان جون بيرس الشعرية وعلاقته بالمكان الذي هو جزر الأنتيل. ولأن الشاعر سان جون بيرس أمضى جزء وفيرا من حياته في جزر الأنتيل فان كاتب المقال يرى أن أدباء جُزر الأنتيل السود: شعراء وروائيون وقصاصون أحرى من غيرهم للاعتناء بتراث الشاعر هذا الشاعر الكبير ومعاودة قراءته ومساءلة قضاياه والتوقف من تداعياته وآثاره. فهو لم يكن شاعرا فرنسيا حديثا كبير الشأن. رفيع الطراز، وكفى، بل شاعرا ترعرع بين ظهرانيهم وأمضى القسط الأوفر من حياته في أرضهم، التى يعتبرها بيرس أرضه، عاشقا لتقاليدهم وثقافتهم، مصغيا إلى أحلامهم وتطلعاتهم. كما يأخذنا الكاتب عبر مقال آخر بعنوان “شهوة الجرح.. جرح الشهوة” وهو للكاتب جووي بوسكي ليتحدث عن دور الألم والعطب الصحي الذي يعاني منه الشاعر، وكان الحديث هنا عن الشاعر الروائي الفرنسي جووي بوسكي (1950 ـ 1897) الذي عاد من جحيم الحرب العالمية الأولى موشوما بجُرح عميق مثله مثل الشاعرين غيوم أبولينير وبول إيلوار، ليعيش في مدينة كاركسون واحدة من العزلات الأصلية والنادرة في الأدب الفرنسي الحيدث. وإعتكاف هذا الشاعر في غرفته مُقعدا، وحيدا، على مدى ثلاثين عاما ونيف، مُتأملا موته اليومي القاسي، سيتيح له أن يستنهض الأسئلة الشعرية/ الوجودية الكبرى عن الموت، عن الحب، عن جسده المجروح، المعيق، في علاقته بجسد حبيبته جينيت أوجيي. ثم يأخذنا هذا الكتاب إلى عوالم الشاعر الفرنسي الشهير إيف بونفوا، هذا العملاق الذي أفردت له المجلة الأدبية الباريسية الراقية أحد أعدادها، واعتبرته إحدى القامات السامقة في المشهد الشعري الفرنسي المعاصر. واعتبر المترجم أن ايف بونفوا هو أحد الوجوه الكبرى في الآداب الفرنسية، إذ استهل مشواره الإبداعي بالإنضواء إلى حوزة السرياليين فما هي إلا فترة حتى تنصل من عقيدتهم لسلك مساره الخاص الذي سيقوده من “حركة الخندق وسكونه” (1953) إلى “ألواح مقوسة” (2001)... من “رسامي الحيطان في فرنسا القومية” (1954) إلى أعمال حول بيكاسو، بالتو، موندريان أو أليشينسكي، مرورا بمقالات لا تحصى عن بودلير، مالارمي أو بيير جان جوف، بترجمات خاصة بالآثار المائزة لكل من شكسبير، ييتس، وليوباردي. وفي مقالة للكاتب سيرج بي بعنوان: “تمثل عالم ... شعرنة قلق سياسي”. في هذا المقال يرى سيرج بي أن الكثير من الأدباء وصنّاع السينما والمسرح من الغرب وقعوا تحت تأثير العالم العربي وأغرموا بسحره وغرابته وساهموا، جراء هذه السطوة، عن وعي أو بدونه، في اصطناع صورة نمطية فضفاضة، ذات طابع إسقاطي، لهذا العالم أمست مع توالي الأيام موئلا لحفنة من الرموز والقرائن التي تختزله وتترجم، بالتالي، حقيقته المعقدة والمتراكبة إلى مجرد مستنسخ مسكوك يعيق تمثله بكيفية موضوعية ومنصفة. وهكذا فحالما يستثار العالم العربي إلا وأرفقت هذه الاستثارة، نتيجة هذا الاصطناع، بجملة من التداعيات كالحروب الصليبية والاستبداد السياسي والانفعال الحسي بالوجود والغلظة السلوكية والعنف والخداع والخمول والحريم والشبق الجنسي.. والرموز كبلقيس وهارون الرشيد وشهريار وشهرزاد والسندباد وعلاء الدين وجحا.. كالصحراء والنخيل والجمل والبترول والعمامة والحجاب.. ولا ينكر المؤلف الحقيقة المرة التي تقول أنها صورة مستنسخة ومسكوكة، ومن ثم فهي شائهة، تكاد تغطي على صورة أخرى، يدعمها التاريخ، لعالم عربي اقتدر خلال العصر الوسيط، أيام كانت شعوب الأرض ترسف في أغلال الظلام والهمجية والجهالة، ليس فقط على الإبانة عن فطنة نادرة في استيعاب ثمرات المعرفة الإغريقية وهضمها، بل وكذلك على إثرائها وتطويرها، أضف إلى هذا استكشاف معارف وعلوم ونظريات وفنون وإبداعات حضارية انبثقت من بين أروقة جامعات دمشق وبغداد وقرطبة وفاس والقيروان.. صورة أخرى راقية لعالم أنتج ثقافة فريدة سوف تبلغ أوجها في الأندلس، تقوم على حدود الاختلاف والتسامح.. المثابرة والمتعة، وهي الثقافة التي ما كان لها إلا أن تزوبع مخيلة شاعر إنساني متفتح كفديريكو غارسيا لوركا وتأخذ لديه حجم غصة وجودية فادحة معتبرا تفريط إسبانيا الكاثوليكية المنغلقة في ذاكرتها العربية علة اندحارها الكارثي إلى وهدة التعصب والتخلف انتهاء إلى الفاشية. مع ذلك ففي القلب من هذه الصورة قد نعثر على أوعاء وحدوس وتعاطفات أدبية، وثقافية عامة، لامست، بهذه الدرجة أو تلك، جوهر هذا العالم والتقطت ذبذبة الذهن والمتخيل العربيين وكذا الالتماعات المتوهجة في تاريخ العرب وراهنهم ستبلغ من انذهالها بالعروبة حد استرفاد نصوص ووقائع ورموز عربية ولنا أن نلمع في هذا الصدد، على سبيل التمثيل لا الحصر، إلى اتكاء دانتي أليغيري السافر، في ابتناء رائعته “الكوميديا الإلهية”، على قصة الإسراء والمعراج الإسلامية اتكاءه على نص “رسالة الغفران” لأبي العلاء المعري ونص “التوابع والزوابع” لابن شهيد الأندلسي.. تكثيف شكسبير لخصال النبل والشهامة البطولية والتفاني في العشق، العربي، في شخصيته التراجيدية الاستثنائية عطيل.. استثمار كل من بوشكين وليرمينتوف لرمزية القرآن والسيرة النبوية والصحراء والنخيل في العديد من قصائدهما.. بصمات المشرق العربي في عمل غوته الشهير “الديوان الشرقي للشاعر الغربي”.. الترميزات والمكنيات العربية التي يحبل بها شعر جيرار دي نرفال.. افتتان أراغون بالموسيقى الأندلسية على شاكلة ما يجسمه ديوان “عيون إلزا”.. التماس الفاتن بين بلاغة اليابسة العربية وبلاغة حوض مائي تليد كالبحر الأبيض المتوسط على الغرار مما يرشح به شعر كفافي.. متاهية الصحراء وانطواؤها الخرافي المذهل على حد ي الخواء/ الامتلاء، الحنو/ الشراسة، في شعر أونغاريتي.. التأثير البين لأعمال الفيلسوف ابن رشد وحكايات “ألف ليلة وليلة” على كتابات بورخيس.. موالاة خوسيه آنخيل بالنطي الشعرية والروحية لتجربة ابن عربي الصوفية.. احتفاء بارت بتسامي الوله العربي وبعفته وتجرده الصوفي في مؤلفه الشائق “مقاطع من خطاب عاشق”.. استلهام خوان غويتيصولو (المقيم في مدينة مراكش المغربية) للموروث الأدبي والفكري العربي في إسبانيا وتضمينه في الكثير من رواياته ومقالاته.. حضور الأضواء والألوان الحارة في لوحات دي لاكروا وماتيس التي استلهمت الحياة والموضوعات العربية.. سيمفونية كورساكوف الباذخة “شهرزاد”.. الإيغال الشاعري الثاقب في مأساوية المصير الفلسطيني على نحو ما فعله جينيه وهو يصف مذبحة صبرا وشاتيلا التي ذهب ضحيتها العديد من الفلسطينيين في نصه العميق “أربع ساعات في شاتيلا”.. المقاربة التآزرية لفكرة العروبة عند مطلع القرن العشرين في فيلم دافيد لين المتحف “لورنس العرب”.. ارتفاع المخرج مايكل كورتيس بالمدينة العربية إلى مرتبة المكان الميثولوجي المتعذر في فيلمه الذائع الصيت “كازابلانكا”.. إلى، أخيرا وليس بآخر، بهاء المشاهد وفتنة اللقطات في صور جيمس فالنتين الفوتوغرافية التي تتغور ما هو عميق ولامرئي في جسد العالم العربي وروحه، ناهينا عن بعض الكتابات المستنيرة والنزيهة لمستشرقين ألمان وفرنسيين وإسبان وإيطاليين وروس.. من أمثال بروكلمان، شيمل، بلاشير، بيرك، بروفنصال، بالاسيوس، نيللينو، كراتشوفسكي.. تندرج في تراث عريض وحافل ائتلف في نطاقه باحثون ودول واستراتيجيات ومصالح سوف يجري ضمنه تمث ل ما ينعت بالعالم العربي بشكل مغرض في الأغلب الأعم، إما وفقا لمسبقات تاريخية وثقافية أو انسجاما مع انتظارات وحاجات ترتبها الدوائر السياسية والكنسية والعسكرية والاقتصادية. مع انفجار الثورة الإعلامية سيغدو حقل تعهد ما اعتبرناه صورة جاهزة للعالم العربي ومفاقمتها، اطرادا مع استفحال الجهل به وتنامي العقيدة الهيمنية والاكتساحية للغرب في آن معا، بدلا من المحافل الجامعية والأكاديمية ومنتديات الكتاب والفنانين، هو الصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية، أشرطة السينما والفيديو التي تخاطب قطاعات واسعة وهجينة من الناس تعوزها القدرة على تمييز الصحيح من الزائف في صورة يشاء لها أن تتأبد كعنوان للعروبة في عالم تعرف جغرافياته وأممه تحولات وتفاعلات تؤول من حيث مقدماتها وغاياتها إلى مخاض كوني جارف يعتصر ما يسميه الباحث الاقتصادي المصري سمير أمين محيطا كونيا مقابلا للمركز الغربي. بمعنى أن المشهد حاليا في العالم العربي، شأنه شأن بقاع أخرى على وجه البسيطة، تتنفذ فيه عناصر من صميم الراهن التاريخي والمجتمعي لا تلك النفحة الماضوية المستلذة لغرائبيتها، وتمور في أحشائه تجاذبات الديمقراطية والرأي الواحد، تقاطبات الحداثة والتقليد، اصطراعات الن خب والشعوب، مثلما تؤثثه معضلات أخرى كبرى من قبيل طفيلية الرأسمال واتساع الفروقات الطبقية وأسقأم الانفصام الهوياتي والاستلاب وضروب من الاعتناف المادي والرمزي.. لقد أمسى العالم في العقود الأخيرة، وبخاصة مع استشراء عقيدة العولمة، محض قرية كونية متضائلة، ومن ثم فما قد يغشى امرءا يحيا في بحبوحة من العيش في ضاحية بيفرلي هيلز المخملية قد يلم بخاطر صياد بدائي في أحراش السافانا الإفريقية، وما قد يقلق إنسانا في شنغاي قد يؤرق آخر في برلين.. ويعود سيرج ليذكرنا أنه قبل سنوات خلت سيجد شاعر عربي كبير، كبدر شاكر السياب، نفسه مسوقا، بإرغام من حساسيته الإنسانية اللامشروطة، إلى ذم الكارثة الذرية التي حلت بهيروشيما، تماما كما سيلفي شاعر زنجي متألق، كإيمي سيزير، نفسه منقادا، ضدا على إيذاء البيض لبني جلدته وتدميرهم الممنهج لثقافتهم، إلى ذم السياسة الاستغلالية للشغيلة البيضاء في أوروبا الرأسمالية، المتمدنة، مم ا يمكن احتسابه فائض انفتاح، يسوغه جوهر الشعر ووظيفته، على الكينونة الإنسانية في أي ما نقطة في الأركان الأربعة للأرض ورعاية حضورها الذي هي حقيقة به ككينونة حرة، كريمة، وممتلئة، أو لنقل على الآخر بالمقاس الذي تفصله عليه الفلسفة، أي كقيمة مطلقة تتعالى على الجغرافيات والتواريخ الشيء الذي يسنح للشعر بالتصالح مع طبيعته الكوسموبوليتية المتأصلة، لا تعاطفا عارضا تمليه اعتبارات العرق أو الدين أو الجوار.. تم يأخذنا كتاب الدكتور بوحمالة إلى آفاق أوسع، لنتجول في حدائق شعريات من جغرافيات مختلفة بمقالات الكتاب الأخري حول الشاعر الصيني الصيني “بي. ضاو” والشاعرة الكرواتية لانا دبركاك، وينتهي الكتاب بإطلالة على شعراء “الزنجية”: ليويولدسيدار سنغور، إيمي سيزار.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©