الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الذاكرة والنسيان في المجتمعات الهامشية

الذاكرة والنسيان في المجتمعات الهامشية
15 سبتمبر 2010 20:44
يتناول كتاب “مجتمعات للذاكرة.. مجتمعات للنسيان” للباحث محمد الهادي الجويلي دراسة أقلية سوداء بالجنوب التونسي (المعروفة باسم عبيد غُبُنْتِنْ)، ويطرح سؤالا هامّا وهو: هل توجد بالمجتمع التّونسي أقلّيات؟، فرغم الإحراج الّذي يمكن أن يحدّثه هذا السّؤال في الوعي العام والخاص لأسباب مختلفة فإنّ الاتّجاهات الحديثة للسوسيولوجيا تقتضي ـ وفق الباحث ـ الجرأة على طرح مثل هذه القضايا وإنّ بأسلوب مغاير في الهدف والوسيلة عن أسلوب الدّراسات الكولونياليّة، إنّه هنا سؤال يهدف إلى كشف المجتمع والحفر في تركيبته بأداة معرفيّة وعلميّة. ويؤكد المؤلف ان الدّراسات الّتي تناولت المكانة الاجتماعيّة للأقليّة السّوداء في تونس والأدوار المختلفة الّتي أوكلت لها لم تكن على غاية من الكفاية حتّى نقول ان في تونس كتابات في هذا المجال، لأنّ تاريخ الأقلّيّة الإفريقيّة بالبلاد العربيّة عموما وفي البلاد التّونسيّة على وجه الخصوص لم يقع الاهتمام به البتّة، خلافا للاهتمام الّذي تمتّعت به أقلّيات أخرى إسلاميّة كانت أو مسيحيّة أو يهوديّة حيث أفردت لها عدد من النّدوات الدّراسيّة والمؤتمرات. وقد خصص المؤلف فصلا لشرح تسمية “عبيد غُبُنْتِنْ” في بعديها البشري والجغرافي، كما حلل البناء الاجتماعي لهذه الشريحة وبيّن أن هذه الأقليّة: “عبيد غبتن” لم تكن سوى نتيجة للتّجارة الصّحراويّة الّتي عرفتها تونس منذ القرن الخامس عشر رغم بقاء هذه الفكرة في مستوى الفرضيّة لأنّ الكاتب لم يجد في الوثائق ما يعبّر فعلا عن منشأ هذه المجموعة، لكنّ التّسميّات المتعدّدة الّتي تنعت بها هذه الأقليّة “عبيد غُبُنْتِنْ “ تدل على ان هذه المجموعة مرتبطة فعلا بهذه التّجارة، وحتّى روايات الأصل الّتي غالبا ما ترى في نفسها الأهليّة التّامّة لتقديم تاريخ القبيلة اتّسمت بالتّناقض، فالرّوايات الّتي يحكيها أفراد قبيلة “ غُبُنْتِنْ “ هي غير الّتي يسردها شيوخ “عبيد غُبُنْتِنْ “ ممّا يزيد في صعوبة تحديد منشأ هذه المجموعة. والدراسة حاولت البحث في كلّ ما يتّصل بهويّة هذه الأقليّة في ماضيها وحاضرها ومستقبلها.. موضوع غير مطروق والكتاب، وفق تحليل استاذ علم الاجتماع محمد نجيب بوطالب، في تقديمه له يعتبر محاولة جريئة في سوسيولوجية المجموعات أماط اللّثام عن موضوع غير مطروق وعن منطقة كانت مهمّشة في البحث، وتبرز أهميّته في أنّه يسلّط الضّوء على موضوع الهويّة بأبعادها الميكروسوسيولوجيّة وهو موضوع لا يزال، وسيبقى، يثير الكلام والبحث. لكن هذا الطّرح، يبدو مخالفا لما تعوّدناه عند بعض الباحثين الهوّاة الغربيين فقد طرحوا مسألة الأقلّيات العرقيّة والدّينيّة في المغرب العربي من منطلقات إيديولوجيّة معروفة في أغلب الأحيان، ولم تكن منطلقاتهم تلك بريئة من طابع الإثارة وإسقاط وفرض التجزؤ على المجتمع. ويبقى السؤال الاهم: هل تكون آخريّة (الأقليّة) أو الجماعة المغلقة، عامل تباعد وانفصال أم عامل تقارب واتّصال؟ ويجيب د. بوطالب على هذا التساؤل مشيرا الى أنّ بعض الانحرافات لا تفتأ تعترض بعض الدّارسين لمسألة الأقليات، فكثيرا ما تحوّل الدّارس إلى نطاق رسمي باسم (الأقليّة) دون أن تحمّله ذاك الدّور، كأن يكون محرّضا أو مبرّرا مقدّما لنصائح وأحكام هو في غنى عنها، ويكثر هذا الانحراف لحسن الحظّ، خارج المنظومة العلميّة في الأبحاث، ليتصدّر بعض الخطابات الإعلاميّة والسّياسيّة. ان النّموذج (عبيد غُبُنْتِنْ) في كتاب الجويلي، من وجهة نظراستاذ علم الاجتماع محمد نجيب بوطالب، يتميّز بحضور البعدين الإثني والقبلي في نفس الوقت، وباستمرار هذين البعدين في الوعي الجماعي وفي قوّة علاقات التّضامن الدّاخلي وفي نمط الإنتاج البسيط، يعتبر نظاما اجتماعيّا فريدا يحتاج إلى مزيد الدّراسة والتّحليل، وقد تكون الإجابات ذات أهميّة بالغة لو ربطت أشكال البناء الاجتماعي تلك بسياق التّحوّلات الجارية في الجنوب الشّرقيّ للبلاد التونسية وتجارب التّحديث الّتي خضع لها الرّيف منذ الاستقلال. الا ان المؤلف يرى ان دراسته حاولت تقديم بعض الإجابات على مجموعة من الإشكاليّات والتّساؤلات ووضع الظّواهر الاجتماعيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة لهذه الأقليّة ضمن نسق يمكن من الكشف عن أهمّ مميّزاتها وخصائصها وكيفيّة انشغالها، مع ربط هذه الظّواهر بالسّياق التّاريخي الّذي نشأت فيه وتكوّنت ممّا يجعلها مختلفة عن الظّواهر الموجودة لدى الآخر، وهو يرى انّ المجموعات المهمّشة تحاول الإبقاء على ثراء الحقل الرّمزيّ بالإصرار الدّائم على إعادة إنتاجه وتلقينه للأجيال المتعاقبة وفرض صرامة على كلّ محاولة للاختراق والتّغيير، فأغلب الأقلّيات الإثنيّة والدّينيّة حريصة على تحصين ثقافتها والإبقاء على مميّزات رموزها، ف”عبيد غُبُنْتِنْ “ لم يغيّروا طريقة احتفالاتهم فلا أدوات الاحتفال وتقنيّاته تغيّرت ولا مضمون الأشعار وتوجّهاته شهدت تحوّلا، إنّها حافظت على بساطتها المعهودة رغم التّغيّرات الّتي تشهدها الممارسات الثّقافيّة لدى المجموعات الأخرى. الشعر والولاء تتوزّع أشعار “عبيد غُبُنْتِنْ “ ـ وفق دراسة المؤلف ـ بين الشّعر السّياسي والشّعر الّذي يتناول اليومي والمعيش إلى ما يرتبط بالقضايا الّتي تهمّ المجتمع المحلّي كقضايا الهجرة والطّلاق إلاّ أنّ الشعر المميّز عندهم هو الشّعر السّياسي الّذي يقتحم كلّ الأحداث، فهو عبارة عن نشرة إخباريّة تحليليّة في شكل غنائيّ، ويستمدّ هؤلاء الشّعراء المعلومة من تتبّعهم للنّشرات الإخباريّة الإذاعيّة خاصّة، فيقومون بتبسيطها وإدخال بعض التّحسينات عليها لتقدّم كقصيدة قابلة لأن تكون أغنية، “إنّ الشّاعر يحوّل الخبر إلى قصيدة ثمّ إلى أغنية”، يختلف الشّعر السّياسيّ لدى “عبيد غُبُنْتِنْ “ من شعر مدحي إلى آخر هجائيّ ومن شعر يهتمّ بقضيّة وطنيّة إلى آخر يتناول قضايا عربيّة أو عالميّة، وتتحكّم في أشعار هؤلاء الموقف السّياسيّ الرّسميّ، فهم يتّبعون الخطّ الإعلاميّ لجهاز الدّولة ويزيدون عليه، فيمكن لهؤلاء الشّعراء أن يمدحوا أحد الزّعماء العرب مثلا حينما تكون العلاقات ودّيّة بينه وبين الحكومة التّونسيّة، أمّا حين تسوء هذه العلاقة فإنّ هؤلاء الشّعراء مضطرّون لتغيير موقفهم وتأليف قصيدة هجائيّة تتجانس مع الموقف الرّسميّ للدّولة، لقد ساهم شعراء “عبيد غُبُنْتِنْ “ في الحركة الوطنيّة وقد مثّلهم في ذلك الشّاعر الفيتوري تليش الّذي أثار حماس الوطنيين بقدرته على المدح والهجاء. وتتحصّن قبيلة “غُبُنْتِنْ” وفق هذه الدراسة ببناء اجتماعيّ تراتبيّ تمثّل العائلة الموسّعة وحدته الأساسيّة وتعبّر القرابة الدّمويّة عن حضورها المكثّف في كلّ تفاصيل الحياة اليوميّة، إذ يسعى أفراد هذه المجموعة إلى تأمين الاستمراريّة عبر التّأكيد على الزّواج الدّاخليّ وتثمينه، وتتّسم المورفلوجيا العامّة لهذه المجموعة بتركيزها على “الجماعة” كقيمة اجتماعيّة لابدّ من الالتفاف حولها وتقديم الولاء لها. الكتاب: مجتمعات للذاكرة.. مجتمعات للنسيان دراسة مونوغرافية لأقلية سوداء بالجنوب التونسي المؤلف: محمد الهادي الجويلي الناشر: دار سيراس للنشر
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©