الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحب شمس الموت السوداء

الحب شمس الموت السوداء
15 أغسطس 2018 20:22

تلك الدموع الغزيرة التي سالت من عيون المتفرجين وهم يتابعون جيني Jenny، بطلة فيلم «قصة حب»Love story، وهي تحتضر بين أحضان أوليفر Oliver، حبيبها الحزين، لا يمكنها أن تسيل إلا في ظلمة قاعات السينما ونور شاشاتها السحري. وهي في النهاية دموع قد استدرتها قوة الحبكة القصصية الخاصة بقصص الحب. هذا النوع من القصص قد استرعى انتباه أمبرتو إيكو، لما علق في كتابه الطريف «من السوبرمان إلى الإنسان الأرقى» على فيلم «قصة حب»، تعليقاً بيّن فيه بإجمال علاقة القص بكيمياء الأهواء. فمن المستحيل، في زعمه، أن نتذوق طعم الملح إذا كنا نأكل حلوى من عسل. وكما أن الكيمياء تجعل كل الأفواه السليمة تحس بحلاوة الحلوى في مذاقها فكذلك للعواطف والأهواء كيمياء خاصة يمكن إثارتها وتهييجها بقول معلوم أو نظم مخصوص.

إن ما يسميه إيكو على سبيل الاستعارة بـالكيمياء، إنما هو الحبكة الجيدة البناء والتركيب، تلك التي تُحدث في نفس المتفرج أو القارئ الفرح أو الحزن، الهلع أو الشفقة، الضحك أو البكاء…
ولكن إذا كان مفهوم التعاطف وارداً دائماً وأبداً في أقاصيص العشق والغرام، فإنه لا يفضي بالضرورة إلى تحريك كيمياء العواطف والأهواء عند كل الناس. فلكي يبكي السامع أو المتفرج على أحد العاشقين ينبغي أن يكون متشبعاً بمواضعات التقبل الأدبي في الثقافة الغربية ومغموراً بتصوراتها الفردانية التي تولي اهتماماً كبيراً بذاتية الفرد. فـقصة حب وما شابهها هي قصص مجندة لإثارة مشاعر معينة وتربية الأفراد بتغذية الإحساس بالذات، والوعي بالأنا، وحملهم على فحص الضمير باستمرار. وهذه الأحاسيس لا يمكن أن تنشأ، في رأي بعض علماء الاجتماع من قامة نوربرت إلياس Norbert Elias، إلا في المجتمعات التي بلغت فيها العقلنة درجة عالية، كان فيها مسار دولنة L’étatisation الأفراد، ليدركوا ذواتهم على أنها نفوس مستقلة، متوازياً مع اقتصاد السوق الحر.
هذا الوعي الحاد بالأنا قد بلغ عند ستيفان زفايج ذروة نضجه الجمالي لما استطاع ترجمته بلغة سردية تؤكد ما ذهب إليه بول ريكور من أن «[...] الإنسان كائن يفهم نفسه بتأويلها، والصيغة التي يؤول بها نفسه، إنما هي الصيغة السردية». أَوَلَمْ يذكر زفايج في مقدمة كتابه «عالم الأمس، ذكريات أوروبي»، وفي أسطرها الأولى، أنه: «لم أُولِ أبداً أهمية كبرى لشخصي بما يجعلني أشعر بالحاجة إلى أن أقص على الآخرين قصصاً صغيرة من حياتي. كان ينبغي أن أعاين الكثير من الحوادث، وأتحمل ما لا يحصى ولا يعد من الكوارث والمِحَن أكثر مما يمكن أن يتحمله جيل واحد، قبل أن أتجلد وأشرع في تأليف كتاب يكون أناي الخاص شخصيته الأساسية، أو يكون في مركزه، إن رمنا الدقة».

رسالة من مجهولة
غير أن هذا الفهم السردي للذات قد تميز عند زفايج باستعمال فن القصة على نحو مخصوص تجلى في طريقة أبطاله في استخدام ضمير المتكلم «أنا». وهو ضمير غير موسوم بمقولة الجنس، ولذلك هو لا يؤنث ولا يذكر بخلاف ضمائر المخاطب والغَيْبَة. فكل من تكلم بهذا الضمير يتنكر جنسه ونوعه، فلا نعرف إن كان المتكلم ذكراً أو أنثى، إن كان رجلاً أو امرأة. فهو يحتاج إلى السياق حتى يتخصص. فعندما نقرأ في قصة زفايج «رسالة من مجهولة» هذا الكلام الذي دشنت به البطلة رسالتها «ولدي مات أمس. صارعتُ الموت ثلاثة أيام وثلاث ليال عسى أن أنقذ ذلك الكائن الصغير الغض»، سيجد القارئ نفسه مضطراً إلى انتظار الجملة الموالية: «بقيت جالسة عند رأسه ثمانيَ وأربعين ساعة» حتى يعلم أن هذا الذي كان يتكلم مستعملاً ضمير «أنا»، إنما هو امرأة. ولكن إذا علمنا أن مؤلف هذه القصة هو ستيفان زفايج نفسه فإننا نتساءل: على من يعود حقاً هذا الضمير؟ زفايج أم المرأة المجهولة؟ فهذا الذي يكتب قصصاً ليفهم ذاته مستعملاً ضمير المتكلم «أنا»، إنما يعرض علينا أناه بما هو آخر. وإذا كان هذا الآخر امرأة، صار «أنا» زفايج في هذه القصة، على الأقل، «امرأة»، وأصبح «أناه بما هو آخر» «أنا بما هو امرأة». ويمكننا أن نتساءل: ما الداعي الذي دعا زفايج إلى أن يجعل هذا الآخر، أو «أناه بما هو آخر» يتقمص شخص امرأة نكرة مجهولة الهوية؟
يمكن أن نجيب بطرق كثيرة، ولكن من يقرأ قصص زفايج، خاصة القصص التي تكون البطلة فيها امرأة كقصة «الخوف» أو «أربعة وعشرون ساعة من حياة امرأة»... لا بد أن يستحضر سؤال فرويد المحير: «ماذا تريد المرأة؟»، أو تشبيهه الشهير لعالم المرأة بـ«القارة السوداء»، بل لا بد أن يستحضر صداقة زفايج الحميمة بفرويد الذي أعرب في بعض رسائله عن إعجابه الكبير بفن صاحبه وببعض قصصه كـ «أربعة وعشرون ساعة من حياة امرأة»، و«دمار قلب»، خاصة «اضطراب الأحاسيس»، التي أطال الحديث عنها في إحدى الرسائل سنة 1926، وقدم في شأنها، قراءة تحليلية نفسية، ولا عجب في ذلك، فقد كانت أفكار الرجلين متقاربة في الكثير من الأمور، خاصة ما تعلق منها بعصرهما الذي عرف حربين عالميتين رهيبتين تهاوت فيهما الإنسانية إلى حضيض البربرية التي وصفها الرجلان بعبارة «البهيمية المخيفة». إلا أن أبرز المسائل التي تجلى فيها تقاربهما هو موضوع الأنا. فإذا كان أعظم اكتشافات فرويد في مجال التحليل النفسي هو تحديدا هذا الأنا فلأن هذا «الأنا» في التصور النفسي الجديد قد فَقَدَ مركزيته بفقدان سيادته على الوعي، فلم يعد «سيداً في بيته»، حسب عبارة فرويد الشهيرة، إذ زاحمته في سكنى ذاك البيت ذات أخرى. في هذا السياق يمكن أن يُفهم لغز المرأة، أو «ماذا تريد المرأة؟»، لأنه لغز مرتبط عند فرويد باللاشعور، بانفتاح «المشهد الآخر» الغَوْري. ولعل فرويد ما استعار أغوار المرأة التي لا تُسبر، إلا لوصف أغوار اللاشعور. ولذلك شبه أغوارها المعتمة بـ«القارة السوداء». وهي صورة لطوبوغرافية اللاشعور، لفضاء انعدمت فيه كل العلامات والأمارات، وزالت منه خرائط الطريق، فاستحالت معرفته بموازين العقل والعلم السائدة آنذاك.
في هذا المناخ الفكري الذي «كان فرويد والتحليل النفسي» يبهران الناس فيه، اختار زفايج من جهته الغوص في «أغوار الأعماق البعيدة» من تلك «القارة السوداء» بوساطة قصصه، خاصة قصة «رسالة من مجهولة» التي رسم فيها زفايج «ملامح حب مدمر يراقص الموت». فهذه الرسالة هي رسالة حب. وهي تمثل بخصائصها التلفظية ما يسميه رولان بارت بـ«خطاب العاشق» الذي خصص له ندوتين في الكولاج دي فرانس، نشر من دروسها في حياته كتابه «مقاطع من خطاب عاشق». وهو يعلمنا، متحدثاً عن خاص خواص هذا الخطاب، أن الحب هو بالدرجة الأولى خطاب، وأن الخطاب ليس «شيئاً آخر» ثانوياً، أو مجرد زيادة وديكور يضاف إلى الحب، بل الحب هو خطاب الحب ذاته، والعاشق المحب هو خطابه. فالخطاب العاشق إنما هو محض خطاب الذات العاشقة. والمتكلم الوحيد في خطاب العاشق هو أنا العاشق فحسب، لا يشاركه أحد في العبارة ولا يزاحمه شخص آخر في الكلام. فالحب في تصور بارت ليس جوهراً خالصاً يتجلى في أعراض خطاب، إنما جوهر الحب هو الخطاب ذاته. وهو يعتمد في بناء هذا التصور على أرشيف هائل من قصص الحب اختار منها نص غوته الشهير «آلام الشاب فارثر».

لكل عشق فرادته
ولكن هل يوجد بين قصص الحب فارق؟ ألا تقص جميعاً كيف ينشأ في البداية الهوى في قلب العاشق/‏‏‏ ـة، ثم كيف ينتهي في آخر المطاف بالموت، بـ«مصارع العشاق»؟ نعم هي قصص متشابهة، إلا أنها على تشابهها لا تخلو من بعض الاختلاف. أَوَ لم يقل الشاعر الألماني هنريش هاينه Heinrich Heine: «ها هنا قصة قديمة/‏‏‏ إلا أنها تبدو دائما جديدة». قد تبدو «رسالة من مجهولة» مجرد «قصة قديمة» كانت وليدة التفاعل النصي، أو التناص، مع قصص الحب السابقة، إلا أنها وإن كررت مسار العاشق، الذي يبدأ ببداية الحب وينتهي بنهايته، «تبدو جديدة». ولعل مأتى جِدّتها أنها تؤكد أن مسار العاشق هذا، الثابت، أو يكاد، في كل القصص يتجدد كلما انبرى عاشق يتحدث عن تجربة عشقه الفريدة. فتشابه كل قصص الحب لا يقتل فرادة كل واحدة منها. وهذا الفريد هو حقاً ما لا يتكرر. ونحتاج للإحاطة به أن نعيد الحديث عن هذه التجربة كأنها لم تحدث من قبل. فما يتجدد في كل قصة هو خطاب العاشق، إذ في ذلك الخطاب، وبذلك الخطاب فحسب، يكون الحب.
هذه القاعدة تؤكدها قصة «رسالة من مجهولة». فالحب في تجربة هذه المرأة سر يمنع البوح به، إذ بذاك الامتناع يظل سر الحب مكتوما مكنوناً. ولكن ما إن باحت به العاشقة في الرسالة، وصاغته في خطاب حتى آذن ذلك بنهايته. فبالبوح يكون الحب، ولكن بذاك البوح يموت العاشق. فالكلمة في قصص الحب قاتلة مميتة، كلما باحت وقصت وهتكت سر الحب كانت نهاية العاشق وشيكة قريبة. فقصة الحب تروي البداية وتقص النهاية، ولكن خطاب العاشق شيء غير قصصي، وإن كان مقطعاً، يطول ويقصر، من قصة حياة العاشقـ/‏‏‏ ـة. هو خطاب الذات وهي في آخر لحظاتها. فالقصة تُحيي دائماً، وذاك قانون الحكاية في ألف ليلة وليلة، وعند شهرزاد على الأقل. أما خطاب العاشق، فهو بمثابة عمل حداد، لا تتشبث فيه ذات العاشق بموضوع عشقها على نحو ماليخولي، وإنما هي تسعى إلى الخلاص منه بفضح سر الحب، بتحويل ذاك السري الصامت، وما لا ينقال فيه، إلى شيء مباح قوله، ومستباح دم قائله. فقانون هذا الخطاب: تكلم ثم مت. هذا القانون، أو هذه القاعدة، تذكرنا بها «رسالة من مجهولة». فهي تُعلمنا أنه في اللحظة التي تصل فيه الرسالة إلى موضوع العشق، إلى حبيبها، تكون هي، كاتبة الرسالة ومرسلتها، في عداد الأموات. وعلى هذا النحو ينبغي أن نقرأ هذه الرسالة في زمنين مرجأين لا يلتقيان، يقتضي كل زمن إما غياب العاشق أو غياب المعشوق.

البوح = الموت
يقتضي زمن القراءة غياب العاشق أو موته. فقراءة الرسالة، بل بمجرد قراءة الرسالة، ينشأ زمن القراءة، زمن ما بعد الموت، زمن جنائزي، لأن المراد من القراءة هو تحويل العاشق إلى «فقيد»، تتجدد ذكراه حتى يبقى ويدوم. فالذكرى استحضار الميت لتجديد الغياب. وفي الاستحضار شهادة بأن العاشقَ الفقيدَ كان صريع الحب. ولكن تسكن رغبة شديدة في أن يظل العاشق حيا يرزق بذكره. وتلك هي وظيفة قصص الحب، تخليد ضحايا الحب بتكرار عمل القص تكراراً لا يُقصد منه استعادة ذكرى العاشق الفقيد، وإنما الاحتفاء بخطاب العاشق. فعبارة العاشق تقرأ دائماً في حفل جماعي جنائزي كانت مؤسسة الأدب، ثم السينما، تنهض بطقوسه.
أما زمن الكتابة فزمن القتل، لأنه زمن الانتحار لما أباح العاشق دمه بالبوح، بالكلمة التي تَكْلِمُ فتجرح، بالكلمة التي تميت ولا تحيي. فالعاشق لا يكون عاشقاً إلا إذا تكلم، وإذا تكلم مات وفات. وقد اتخذ البوح من الرسالة، في هذه القصة، شكلاً لعبارته، وقديماً اتُخِذ الشعر. ولأمر ما اقترن البوح في جميع أشكال عبارته بالموت. تقول هذه المرأة العاشقة المجهولة: «فإن كتب لي أن أعيش، فسوف أمزق هذه الرسالة، وأستمر في سكوتي، كما سكت من قبل. ولكن إن بلغتك وكانت بين يديك، فاعلم أن ميتةً تروي لك قصة حياتها، حياتها التي نذرتها لك، من ساعة وعيها الأولى إلى الساعة الأخيرة». فهذه المرأة عاشقة لا لأنها نذرت حياتها لحبيبها، وإنما هي عاشقة لأنها تعي أن الساعة الأخيرة من حياتها قد أزفت. وهي الساعة الأخيرة أيضا لأنها انتهكت قانون الصمت. فهي عاشقة ميتة منذ أن بدأت تقص وتكتب رسالة موتها. فالموت هو هذا الاعتراف الأخير بلحظة العشق الأولى. وهي لحظة لا تطيق نور الكلمة، لأن النور يفضحها. وبفضيحة النور تكون الكلمة. وبهذه الكلمة/‏‏‏ الموت، الكلمة التي لا تهب الحياة، يرتسم اقتصاد العبارة في خطاب العاشق. وهي عبارة لا تدور في سوق المبادلات اللساني من أجل التبادل، أو الاستهلاك العمومي لقصص الحب، وإنما هي تدور لتقرأ في شكل جنائزي، بطقس احتفالي، تذكر بأن الحب كلمة لا تهب الحياة، بأن الحب هو وجه من وجوه الموت، بل الحب هو شمس الموت السوداء، إذا أسفرت خلفت وراءها جثة العاشق، هذا الشيء الذي سقط، شيء العشق الذي لا تصنعه الكلمة بالموت إلا لتخلده. فالكلمة في الحب لا تميت إلا لتحيي. ولا تَحيَا إلا في الذكرى، ذكرى مصرع العاشق وسقوطه.

لعبة الحب
والمتأمل في «رسالة من مجهولة» لا بد أن يسترعي انتباهه هلع البطلة الدائم من النسيان، من بقائها مجهولة، من عدم التعرف إليها. فحبيبها، في كل مرة تقترب منه، لا يتذكرها، بل كلما اقتربت منه ضرب النسيان على عينيه غشاوة كثيفة. وهي لا تقترب منه إلا في الليل. هذا الإصرار على النسيان واستحالة التذكر من جهة الحبيب، وشوق المرأة المجهولة إلى أن تظل مجهولة قابعة في ظلال النكران، إنما هو إصرار لافت للانتباه، لأنه أسلوب زفايج في صناعة سر الحب. ولكن ما الذي يخفيه السر؟
لا توجد في سر الحب حقيقة ولا أكذوبة، وإنما مجرد لعبة هي لعبة الخفاء والظهور، الشبيهة بلعبة (الفورت، دا ــ Fort-Da) كما سماها فرويد في بعض ما كتب. وليس النسيان والنكران سوى وجه من وجوه هذه اللعبة التي اتخذت من «الاسم» موضوعاً للعب. فكاتبة الرسالة مجهولة، لأنها بكل بساطة لا تحمل في عالم القصة اسماً ولا توقيعاً ولا إمضاء، ولا دليلاً يستدل به عليها. وهذا الكبت المستمر للاسم هو ما كان يصون سر الحب ويجعل منها امرأة عاشقة. والاسم المصون هاهنا اسمان: اسم العاشقة واسم المعشوق. وقد استمر سر اسمها مصوناً إلى النهاية، أي حتى بعد موتها، وبإرادة منها: «لا أريد أن أدعوك إلى ساعتي الأخيرة، أنا ذاهبة دون أن تعرف اسمي ولا وجهي.»، لأن ما كانت ترغب فيه حقاً لا يتعلق بمعرفة اسمها، وإنما بالتعرف إلى رسمها. كانت تريد أن يتعرف إليها. ولما كان موضوع الشوق هو التشوق إلى المستحيل، كانت استحالة التعرف إليها في الحياة والممات هو ما سعت إلى بنائه قصة «رسالة من مجهولة». ولكن كيف؟
تضعنا هذه القصة أمام عاشق قد جعلته العاشقة منذ طفولتها في موضع الأب الغائب، الذي غيبه الموت. وهو عاشق لا يدري أنه حبيب معشوق. فهو لا يدري أن طفلةً أحبته، وشابةً عشقته وحملت منه، وامرأةً جنت به. كل هذا يهيئه ليكون شبيهاً بالأب الليلي. وهو أب أعمى، أو كالأعمى، لا يرى بسبب العدوى الأنثوية التي أربكت رؤيته، فجعلته لا يميز بين القانون واللذة، بين القانون الذي يمثله الأب، واللذة التي يمثلها إنسان المتعة الذكرية. وهذه العدوى لم تُصب إلا إنسان اللذة الذي، كلما دعته الأنثى إليه، لبى نداءها ذاهب العقل. فإنسان اللذة مقترن بالأب الليلي، وكلاهما لا يكون إلا بضرب من العمى. في هذا السياق، نجد في بعض أقاصيص يوسف إدريس تمثيلاً رائعاً لاستعارة العمى المقترنة بالأب الليلي.
مثل هذا العمى نجده في قصة زفايج «رسالة من مجهولة» وقد تجسم في عجز الحبيب، ممثل إنسان اللذة، عن تذكر العاشقة المجهولة، والتعرف إليها.
وقد غمر هذا النسيان المطلق العاشقة نفسها. فهي تعترف في آخر هذا المشهد الليلي: «أنا أيضاً نسيت نفسي: من أكون، في هذه الآونة، في هذه ا لظلمة، وأنا إلى جانبك؟ هل أنا طفلة الماضي المتأججة، أمْ أمُ طفلك، أم تلك الغريبة؟» ألا تكون هذه الظلمة هي هذه «القارة السوداء» التي تحدث عنها فرويد حيث ينقلب إنسان القانون إلى أب ليلي أعمى لا يميز بين البنت والأم، والعشيقة.
يمكن أن نتساءل الآن: لماذا كتب زفايح «رسالة من مجهولة» في سياق تاريخي بدأت طبول الحرب تدق دقاً رهيباً ينذر بالويلات؟ هل هي حرب بين البرابرة وأنصار السلام أم هي حرب بين فينوس ومارس؟ أم هي حرب بين إيروس وتيناتوس؟
لنترك الجواب مؤجلاً. فبين الحب والموت، والحب والحرب، من الوشائج العجيبة ما يجعلنا نتساءل مرة أخرى: ألا تنشأ قصص الحب إلا على خلفية الدمار والحرب، حين يكون دافع الموت الغريزي la pulsion de mort متجهاً إلى العالم الخارجي فينقلب إلى دافع دمار وإرادة قوة؟ ثم إذا سلمنا مع نيتشه بأن الحياة هي شكل غريب من أشكال الموت، أفلا تكون قصص الحب معربة عن شكل عجيب من أشكال الحياة؟

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©