الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تعددت الشواطئ والمنبع "أصيلة"

تعددت الشواطئ والمنبع "أصيلة"
15 أغسطس 2018 20:22

1.
تعرفت على محمد بن عيسى في صيف سنة 1965. كان ذلك في غرفة استقبال الضيوف ببيت عمّه بأصيلة، حيث كنت أقضي العطلة، وقد كانت عائلتي وعائلة بن عيسى على صلة وصداقة تعود إلى أيام الحماية، فيما كان محمد بن عيسى عاد من الولايات المتحدة ليقضي هو الآخر عطلته في مدينته. كنت لا أزال في بداية المراهقة، مع ذلك كان لقاؤنا ودياً وتلقائياً. حينها سألني، برغم أني كنت صغير السن، عن رأيي في أصيلة. قلت له إنها تنتظر من يعرف قيمتها. قول ظل منحوتاً في الذهن، وقد صدر مني تعبيراً عن تأثري بجمال ما اكتشفته بأصيلة. فهي كانت تمثل بالنسبة لي المدينة الرومانسية، التي كان يمكن أن أحلم بالسكن فيها، تجمع بين دهشة الطبيعة وبساطة العمارة القديمة وبياض الجدران بجيرها المضيء ونيلتها الزرقاء ووداعة السكان وحضور الثقافة التشكيلية بينهم.

2.
عندما أقدم محمد بن عيسى على تأسيس «موسم أصيلة» تجددت الصلة بيننا بمبادرة كريمة منه. آنذاك، سنة 1978، كنت أشرف على إدارة مجلة «الثقافة الجديدة» وعضواً في المكتب المركزي لاتحاد كتاب المغرب. هي فترة اختيارات سياسية كان المثقفون يمارسونها من رؤية يسارية، لها شعار واسع هو الثقافة الوطنية المتحررة . معرفتي السابقة بمحمد بن عيسى جعلتني ألبي دعوته بكل مودة، وأستمع إليه وهو يشرح لي مشروع الموسم الثقافي الذي تهيأ له من قبل وأقدم على تأسيسه صحبة الفنان الصديق محمد المليحي، الذي كان يحظى بثقة وتقدير نخبة من الفنانين التشكيليين ومن الكتاب والمثقفين، مغاربة وغير مغاربة، لما له من تجربة فنية وثقافية طلائعية. تناقشنا، محمد بن عيسى وأنا باحترام متبادل، في الرؤية الليبرالية التي كان يعتمدها في بناء مشروع، يتوجه نحو ربط الثقافة بالتنمية. هي فكرة كانت أخذت في الظهور على المستوى الدولي، وكان هو أحد الداعين إليها خلال عمله في الأمم المتحدة، ويريد أن يجسدها في مدينته أصيلة، التي كان سبق له أن أنجز عنها عملاً فنياً من صور، صدرت سنة 1974 في كتاب بعنوان حبات الجلد، مصحوبة بقصائد بالفرنسية للطاهر بن جلون.
لم أعترض على الرؤية، ولكني لم أقبل أن أكون طرفاً فيها. لذلك أحجمتُ عن المشاركة في أنشطة «موسم أصيلة»، لأنني كنت أخشى أن يتحول الموسم إلى مناسبة، وأن تتحول الثقافة إلى مادة استهلاكية. إضافة إلى أنني كنت أتشبث بحريتي في الرأي والتعبير، وأبتعد عن كل ما يمكن أن يدفعني إلى التخلي عنها. ونزولاً عند إلحاح محمد بن عيسى، شاركت مرة في تكريم الشاعر محمد الحلوي، لأن الأمر كان يتعلق بشاعر مغربي وأنا من المناصرين للشعر المغربي، خاصة لشاعر كنت أظن آنذاك أنه يستحق التكريم، كما كان يستحقه شعراء مغاربة آخرون، لم يفكر أحد قبل محمد بن عيسى في تكريمهم.

3.
كنت من بين الذين كانوا في السبعينيات والثمانينيات يبحثون عن صيغة لتحديث الثقافة المغربية. فالقصيدة التي كنت أتطلع إلى كتابتها كانت تقودني إلى التفاعل مع ما يحيط بها وإلى العمل الجماعي الذي تطالبني به. وكان محمد بن عيسى يسعى إلى الهدف ذاته للتحديث الثقافي، من زاوية نظر لم يكن اليسار يقبلها، بسبب أن نزعتها الليبرالية تتعارض وبناء ثقافة متحررة من هيمنة السلطة السياسية. كان محمد بن عيسى عاد إلى المغرب بعد أن راكم خبرة دولية واسعة، خاصة في مجال الإعلام، ذا شخصية قوية، يمارس فن السنيما الوثائقية ويتقن فن التصوير، يعرف الفاعلين الثقافيين المغاربة، وله ملكة الحوار مع الآخرين الذين يختلفون معه.
في تلك الفترة كانت المعارضة تنتقد الدولة لغياب الديمقراطية. ولأن الثقافة كانت في يد المعارضة، فهي وقفت ضد كل من يمارس الثقافة من خارج مؤسساتها، فيما هي لم تكن تملك مشروعاً ثقافياً، وتكتفي بحصر الثقافة في وظيفة التابع لمواقفها السياسية ضد السلطة. أما محمد بن عيسى فكان صاحب مشروع ثقافي. إلا أنه كان يدرك، بثقافته وخبرته الدولية الواسعة، أنه لم يكن له أن يحقق مشروعه دون التقرّب من السلطة، ودون تجنب ارتيابها من أي شخص يقترب من نقد الدين والمؤسسة الملكية والدولة. بل إن «موسم أصيلة» ركّز على تقديم صورة جذابة لانفتاح المغرب على جميع الخطابات الثقافية والممارسات الإبداعية، بخلاف الصورة السلبية التي كانت المعارضة تعمّمها، في الداخل والخارج، عن المغرب. أما أنا فكنت أرى أن تحديث الثقافة المغربية يرتبط بالنقد، وهو ما يتضمن وضع حدود في العلاقة مع السلطة، كما يلزمه التعدد في الأفكار والمؤسسات والممارسات، وعدم تبعية الثقافي للسياسي.
هي فترة تحتاج إلى التأمل لما عرفته من تقاطعات مع فترة سياسية، أصبحنا نسميها بسنوات الرصاص. لا شك أن حالة الاحتدام التي عاشتها الثقافة المغربية آنذاك، وما اكتنفها من إبدالات سريعة وعنيفة، تبدو اليوم بعيدة عنا. لا أندم على موقفي ولا أحكم على «موسم أصيلة» بالبطلان. أسئلة تتزاحم في ذهني عن تلك الفترة وعن الفاعلين الثقافيين وعن المآلات الثقافية. ما ألاحظه هو أن ذاكرتنا الثقافية أصبحت ملقاة خلف مشهد اللامبالاة بما كان، إن هو المشهد لم يكن بلغ حد نكران تلك الذاكرة. فكل قراءة لمسار الثقافة المغربية الحديثة يصعب عليها قطع صلة «موسم أصيلة» بنهر هذه الثقافة، منذ السبعينيات حتى الآن.

4.
ظللت أتتبع مواسم أصيلة من خلال الحوارات المستمرة مع كتاب وفنانين معارضين، ومن خلال الإعلام، أو من خلال زياراتي لأصيلة وعلاقتي الطيبة بمحمد بن عيسى، ومن خلال مشاركات أصدقاء شعراء وكتاب من مختلف الأقطار العربية، لم يكونوا يعبأون بموقف المثقفين اليساريين المغاربة من المهرجان، أو كانوا لا يتفهمونه. كان بعضهم يحرجني فأكتفي بقول إن الوضع الثقافي في المغرب معقد، ومن الأفضل تجنب الحديث عنه. كذلك كان اعتقادي وكذلك هو اليوم. حقّاً. شكّل «موسم أصيلة» تجربة مفاجئة وصادمة، لم نكن نعرف كيف نغمض عيوننا أمام إبداعيتها وعاصفتها الإعلامية. أصبح «موسم أصيلة»، منذ انطلاقته، نقطة لقاء منتظم بين كتاب وفنانين وإعلاميين من المغرب والخارج. وسنة بعد سنة، أضحت تلك المدينة، الصغيرة في شمال المغرب، متحفاً فنياً دولياً مفتوحاً للعموم، أو هي فضاء شاسع للقاءات والسهرات في المقاهي والمطاعم. ثم الحدائق تتسع مساحتها بأسماء شعراء ومفكرين. مثقفون وسط الناس والناس يحتفون بهم. يحضرون ندوات، قراءات، نقاشات. أو يتسابقون إلى حجز مقاعدهم في سهرات موسيقية عالية القيمة، في قصر الريسوني أو في ساحة البرج البرتغالي. جدران المدينة بدورها علامة على احتفالية فنية تستمر طوال مدة الموسم. تلك هي المعلقات التي ينجزها فنانون يتجددون من سنة لسنة. استمر «موسم أصيلة» بالوتيرة ذاتها التي انطلق بها. وأصداء الموسم تتوالى على المستويين العربي والدولي. هكذا أبرزت المواسم فكرة الثقافة في خدمة التنمية، وقد تحولت أصيلة إلى مدينة مزدهرة خلال عطلة الصيف، تستثمر الثقافة في جلب سياح يتوافدون من جهات ومن بلدان.
بلغ الموسم اليوم أربعين سنة، تبدلت فيها الأوضاع السياسية والثقافية من الانغلاق إلى الانفتاح. وعلى امتداد هذه الحقبة الزمنية، عمل الموسم على تأصيل نموذج ثقافي، يأتلف في حوار فكري وإبداعي، ويتحرك بمرونة في اتجاهات مختلفة، بُوصلتها بناء صرح ثقافي تساهم فيه نخبة رفيعة من العالم العربي ومن العالم. هو نموذج متفرد في المغرب كما في بقية الأقطار العربية. والموسم اليوم إحدى التظاهرات الكبرى التي يعرفها المغرب، في كل من فاس والصويرة والرباط.

5.
موسمٌ جعل من أصيلة شاطئاً يضم شواطئ، تعددت بتعدد أنشطة الموسم والمساهمين فيه، من جهات الأرض. تلك هي رؤية محمد بن عيسى وقد عرفت كيف تتحول إلى واقع، عبر حقبة من الزمن في شكل مؤسسة لأنشطة ثقافية، نجحت في تحقيق ما لم يكن يفكر فيه أي طرف ثقافي مغربي آخر. فهو استوعب ضرورة انفتاح الأنشطة على سكان المدينة وزوارها في عطلة الصيف، إنجاز بنية تحتية متكاملة للنشاط الثقافي، ربط الصلات مع نخبة مثقفة لها حضورها، جذب إعلاميين بأكثر من لغة، الاستفادة من تاريخ المدينة في تنميتها، استضافة كل من هو مستعد لتطوير المشروع. وهو، في الوقت نفسه، ظل وفياً لما عرفه شمال المغرب في العصر الحديث من عناية بالعربية ومثقفيها، مثلما حافظ على تتبع الحركية الثقافية التي تبلورت في المغرب، وخصَّ بالإنصات والاستجابة ما يراه منها متجاوباً مع مشروعه. أربعون سنة من موسم تحول إلى مواسم منتظمة ومتجددة، طبعت الثقافة في المغرب، ومكنت بلداناً عربية أخرى من احتذاء نموذجها.
من أزمنة الثقافة المغربية الحديثة أنظر إلى «موسم أصيلة»، منذ العشرينيات من القرن الماضي، بين تطوان وطنجة والرباط والدار البيضاء. أنظر، وفي نظرتي تحية لمحمد بن عيسى، الفنان والمثقف، على ثقته في الخيال الذي قاده إلى تأسيس منارة ثقافية مغربية، تضيء الطريق في اتجاهات متعددة. وأحيي جميع الذين ساهموا في بناء تجربة لها مستقبلها في ذاكرة المغرب الثقافي.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©