الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أضواء سريعة على القصة القصيرة.. تعالَ ندخل في جوف الشجرة

أضواء سريعة على القصة القصيرة.. تعالَ ندخل في جوف الشجرة
15 أغسطس 2018 20:22

بقلم: ياسوناري كاواباتا
تقديم وترجمة: علي كنعان

إعجابي بمبدع «الجميلات النائمات» ياسوناري كاواباتا، وقصصه القصيرة جداً التي يدعوها «قصص بحجم الكف»، هو الدافع الكامن وراء ترجمة قصته «ما بعد الموت». ولعل استرجاع ذكريات مرّ عليها ما يزيد على سبعين سنة، نابع من محبتي لهذا الجنس الأدبي الذي غدا شبه منسي، إذا استثنينا من يكتبون القصص للأطفال، وإنْ كان الهدف التربوي هو الثيمة الغالبة في موضوعاتها. وفي تقديري أن انتشار موجة «العولمة» من جهة، والحضور الجماهيري الواسع بدلاً من التميز الفردي من جهة مقابلة، هما اللذان دفعا بالرواية إلى صدارة المنبر، لتنزوي تلك اللقطات الدرامية الجميلة في المقاعد الخلفية. ومن حق المبدعين والقراء معاً أن يتساءلوا: أين القصة القصيرة وروادها اليوم؟
إذا تأملنا تاريخ الآداب ومسار تطورها عبر الأجيال، نرى أن لكل عصر إيقاعه الفني وصبغته الجمالية وخصائصه الدلالية. لقد كان الشعر هو الفن السائد في تراثنا العربي حتى استأثر بأيقونة متميزة لم ينعم بمثلها إلا مجالس الخلفاء ودواوين الملوك والسلاطين، أعني هنا تلك العبارة التي ترددت على ملايين الألسن والأقلام: «الشعر ديوان العرب». لكن الشعر لم يكن وحده فارس الميدان في خمسينيات القرن الماضي، بل انبثقت القصة القصيرة واندفعت لتنافس القصيدة، وتثبت حضورها الإبداعي المدهش في شتى الملتقيات وعلى مختلف المنابر، وفرضت وجودها على الدوريات الصحفية المختلفة، من الشهرية إلى الأسبوعية وحتى اليومية. وهنا أكتفي بالإشارة إلى القصة القصيرة، ولا أتطرق إلى الرواية لأنها لم تكن قد استأثرت باهتمام القراء ودور النشر، كما هي الحال اليوم.
ولأن القصة كانت تنافس القصيدة، وتمتاز عنها بسحر الحكاية والتوتر الدرامي والحبكة المتقنة، كما أن كثيراً من القصص في تلك الفترة كانت تعبر عن حادثة لافتة أو حالة مأزومة لشخص ما بصورة فنية آسرة أكثر من الشعر، خاصة في مرحلة تاريخية انتقالية واعدة، تحررت بلدانها حديثاً من الاستعمار، وأبناؤها يتطلعون بأمل كبير للدخول في العصر. ويكفي هنا أن نستعرض عدداً من أعلام القصة، مثل: محمود تيمور، إبراهيم المازني، يوسف إدريس، زكريا تامر، يوسف الشاروني، غسان كنفاني، سهيل إدريس، سعيد حورانية، إبراهيم أصلان، محمد خضير، سامي أحمد عطفة، إيميلي نصر الله، موسى كريدي، غادة السمان، توفيق يوسف عواد، سليمان فياض، عبد السلام العجيلي، فؤاد التكرلي، جورج سالم، عبد الله عبد، وعشرات غيرهم. وأعود بالذاكرة إلى القرية قبيل انتشار المدارس في تلك الفترة المبكرة، ونحن ساهرون نصغي لأخي المتعلم وهو يقرأ قصة «كن-كان» ليحيى حقي، وكانت أول قصة فنية أسمعها. وقبل سماع تلك القصة، كان الشعر الغنائي هاجسي الأول، لكن ذلك العالم السحري القريب من الحكاية، إنما بأسلوب فني مختلف ولغة سردية جميلة وتشويق جذاب، جعل هذا الجنس الإبداعي القادم يعادل بجماله القصيدة، وربما يتخطاها بوضوحه وتوتره الدرامي. والقصة لم تبرح ذاكرتي يوماً، وحين أتاحت لي الجامعة دراسة قصص إدغار ألين بو، غي دو موباسان، هيمنغواي، تشيخوف، والكاتب الهندي المرموق سعادت حسن مانتو، كانت قصة المبدع الرائد يحيى حقي كثيراً ما تنبثق في خاطري، إعجاباً ومقارنة. ولعل نظرتي اختلفت الآن، لأن المسحة الغيبية الكامنة في ثنايا تلك القصة لم تعد تقنعني، إلا كعنصر فانتازيا.
إن موازنة القصيدة بالقصة القصيرة تطرح علينا فكرة أوسع حتى تشمل الفنون كافة، حيث يشتبك بعضها ببعض، وتتقاطع مفرداتها، وتلتقي هواجسها وموضوعاتها، وتتفاعل عناصر الحياة والإلهام فيها، وإنْ اختلفت الوسيلة والتقنية واللغة، فاللوحة التشكيلية كالقصيدة والمعزوفة الموسيقية والأيقونة المنحوتة، هذه الأنواع الفنية تنبثق من ينبوع واحد، هو الحياة والتجربة الشخصية للإنسان في ثقافته وعمله واحتكاكه بالواقع المحيط به، الاجتماعي والتاريخي، سلباً وإيجاباً. وفي هذا السياق، نتذكر عبارة نزار قباني «الرسم بالكلمات» في تشكيل الصورة الشعرية.

ما بعد الموت *
رجل عجوز وفتاة كانا يسيران معاً...
وهذا الثنائي يبدو غريباً من أوجه متعددة. ربما كان الفارق بينهما نحو ستين سنة، لكن ذلك لم يشغلهما، بل كانا يسيران معاً متلاصقين وكأنهما عاشقان. كان العجوز أصم، لا يستطيع أن يلتقط ما تقوله الفتاة إلا بصعوبة بالغة. وهي ترتدي كيمونو أرجوانياً، وعليه نقوش من سهام بيضاء صغيرة، لكن القسم الأسفل منه مغطى بإزار وردي الأرجوان. والكُمّان يبدوان أطول من المألوف بقليل. وكان العجوز يرتدي لباساً شبيهاً بما تلبسه فلاحة ذاهبة لتعشيب حقل الأرز. ولم يكن يضع قفازاً أو قماط ساقين، لكن قميصه القطني وبنطاله شبيهان بلباس امرأة.
وكان البنطال كبيراً جداً حول حوضه البارز العظام.
وعلى مسافة قصيرة أمامهما، عبر المرج، كان ينتصب سياج من شبك معدني مرتفع. ورغم أنه كان يسد طريقهما، لكن من الواضح أنهما لم يعيراه أي اهتمام، بل سارا عبره من دون أن يبطئا بسيرهما، وهما يتحركان كالنسيم.
يبدو أن الفتاة لم تنتبه للسياج إلا بعد أن أصبحا على الجانب الآخر منه، فهتفت وهي تحدق بالعجوز بنظرة متسائلة: «يا للعجب! كيف تمكنت من عبور السياج مثلي، ألست شِنتارو؟».
لم يسمعها العجوز. لكنه أمسك بالشبك المعدني وأخذ يهزه بعنف وهو يصيح: «يا له من سياج لعين! ياله من سياج لعين!».
ودفع السياج بقوة شديدة جداً، ولم يتمالك نفسه من الدهشة، حين رأى السياج يتزحزح مبتعداً قليلاً عنه. لكنه تشبث به وهو يترنح، وجسمه متكئ عليه بانحناءة قلقة.
واندفعت الفتاة لتحتضن جسمه من الأعلى وهي تصيح: «انتبه، شنتارو! ماذا جرى لك؟ آه، يمكنك الآن أن ترفع يديك عن السياج». وأردفت مستغربة: «كيف صرت خفيفاً إلى هذا الحد!».
واستطاع العجوز أخيراً أن يقف معتدلاً من جديد. وراح يلهث، وكتفاه ترتفعان وتنخفضان.
قال لها: «شكراً لك»، وعاد ليمسك بالشبك من جديد، إنما بلطف هذه المرة وبيد واحدة. وطفق يتابع كلامه بصوت مرتفع، كما هي عادة الإنسان الأصم: «لقد دأبت، يوماً بعد يوم، على التقاط كرات الغولف في الجانب الآخر من السياج. كان ذلك عملي طوال سبعة عشر عاماً، يا لها من مدة طويلة».
«سبعة عشر عاماً فقط؟ لكنها ليست مدة طويلة، كما تقول!»
«كانوا يقذفون الكرات على هواهم بأية طريقة. والكرات تحدث صوتاً مزعجاً حين ترتطم بالشبك. وكنت أخفض رأسي كلما سمعت الصوت، حتى اعتدت عليه. وبسبب ذلك الصوت فقدت سمعي. يا له من سياج لعين!».
إن السياج مصمم للحماية، وترتكز قاعدته على بكرات صغيرة تمكن من تحريكه في أي اتجاه عبر مضمار اللعب. وكانت الأشجار تنتصب في غير انتظام، لأنها نمت هناك بصورة طبيعية وتركت على حالها عندما جرى تحويل تلك الأجمة الكبيرة إلى مضمار غولف.
راح العجوز والفتاة يبتعدان عن السياج.
قالت الفتاة: «يمكنك أن تسمع الأمواج بصوتها العذب الجميل ذاته». ورغبة منها بأن يسمعها الرجل تماماً، قربت فمها من أذنه وأعادت قولها: «يمكنك أن تسمع الأمواج بصوتها العذب الجميل ذاته».
«ماذا تقولين؟» وأغمض العجوز عينيه، هامساً: «ميساكو، أنفاسك زكية جداً. إنها ما زالت كما كانت في الأيام الخالية تماماً».
«ألا يمكنك أن تسمع الأمواج بصوتها العذب الجميل ذاته؟».
«الأمواج؟ هل قلت الأمواج؟ وصوتها الجميل؟ كيف يمكن أن يكون صوت الأمواج جميلاً، بعد أن أغرقت نفسك فيها؟».
«إنها عزيزة جداً. ها أنا اليوم أعود إلى بيتي القديم بعد خمس وخمسين سنة، وأرى أنك أنت أيضاً أتيت. يا لها من فرصة رومانسية!» ورغم أن الكلمات لم تصله قط، فقد تابعت: «كنت مصيبة في أن ألقي بنفسي في البحر. وبذلك، كنت وسوف أظل قادرة على حبك دائماً، وبالطريقة ذاتها، تلك التي أحببتك فيها يوم مت. وأهم من ذلك أن ذكرياتي وخواطري انتهت في سن السابعة عشرة. وبقدر ما أتصور، فأنت سوف تبقى شاباً إلى الأبد. والأمر ذاته سيكون في ما يخصك، شنتارو. فلو لم أقتل نفسي في السابعة عشرة، ولو جئتَ إلى هنا لتراني، فسوف تجد عجوزاً شمطاء قبيحة. يا له من أمر رهيب! لا يمكن أن أجرؤ على لقائك».
وراح العجوز يتكلم بغمغمة، شأن رجل أصم: «لقد ذهبت إلى طوكيو، لكني لم أفلح فيها. ثم رجعت إلى البيت عجوزاً محبطاً. وحصلت على عمل في مضمار الغولف. إنه المضمار المشرف على البحر، حيث أغرقت فتاة نفسها قهراً، بعد أن فرضوا عليها ألا تراني أبداً. ولقد توسلت إليهم لكي أعمل لديهم هناك، فوافقوا شفقة علي».
«نحن الآن على الأرض التي كانت ملك عائلتك، شنتارو».
«كل ما كان في وسعي أن أعمله.. هو أن ألتقط كرات الغولف في مضمار اللعب. كان ظهري يؤلمني، لكني واصلت العمل. وكان هناك فتاة ألقت بنفسها في البحر، كل ذلك من أجلي. الجرف الصخري الذي قفزت منه قريب منا؛ وحتى عجوز خرف مثلي، كان بإمكانه أن يذهب إلى هناك ويقفز- لكم راودتني هذه الفكرة!».
وتشبثت الفتاة بالعجوز، وهي تقول: «لا تفعلها، شنتارو. كن حريصاً على مواصلة حياتك. إذا رحلت، فلن يكون في هذا العالم أي شخص يتذكرني. وعندئذ سأكون ميتة فعلاً». لكن العجوز لم يسمعها. إنما طوّقها بذراعيه، كما طوّقته تماماً.
وقال: «نعم، دعينا نمت معاً. أنت وأنا في هذه الساعة. لقد جئتِ لتأخذيني معك، أليس كذلك؟».
«معاً؟ لا، حافظ على حياتك، أرجوك». ورفعت الفتاة رأسها عن كتف الرجل، وتطلعت بعيداً، وغداً صوتها مفعماً بالحيوية: «انظر! تلك الأشجار الكبيرة لا تزال هناك. الأشجار الثلاث ذاتها تبدو تماماً كما كانت في الأيام الخالية. آه، لكم تذكرني بتلك الأيام السعيدة!».
وأدار العجوز عينيه نحو الشجرات الثلاث الكبيرة، حالما أشارت الفتاة إليها، قائلاً:
«إن لاعبي الغولف كانوا يتخوفون من تلك الشجرات. وكم أبدوا رغبتهم بقطعها. يقولون إن كراتهم تنحرف دائماً إلى اليمين، وكأن تلك الشجرات تجذبها نحوها بقوة سحرية».
أولئك اللاعبون سيموتون قريباً، قبل تلك الشجرات القائمات هناك من قرون. وهم يتفوهون بتلك السفاسف لأنهم لا يدركون كم هي قصيرة حياة البشر هذه.
«لقد بذل أجدادي عناية فائقة بتلك الشجرات طوال مئات السنين. لذلك، أخذت عهداً من الشارين بألا يقطعوا الشجرات الثلاث يوم بعتهم الأرض».
وحثت الفتاة الرجل العجوز المترنح وهي تقوده بيدها نحو الشجرات: «دعنا نذهب إلى هناك».
ومرت خلال جذع إحدى الشجرات.. وكذلك مر العجوز.
وحدقت في العجوز بذهول شاهقة: «أوه! هل أنت ميت أيضاً، هل أنت شنتارو؟ متى مت؟» لكنه لم يرد.
«أنت ميت. أنت فعلاً ميت، ألست كذلك؟» أستغرب لمَ لم نلتقِ في عالم الموتى؟ والآن، سنرى إنْ كنت في الحقيقة حياً أو ميتاً. إنْ كنت ميتاً، سأدخل في جوف الشجرة معك.
واختفى العجوز والفتاة في جذع الشجرة؛ ولم يخرجا منها أبداً.
وراح شفق المساء يلوح فوق الشجيرات، خلف الشجرات الثلاث الكبيرة. وراح الأفق يكتسي لوناً وردياً شفيفاً، وصوت البحر ما زال يتردد في المكان.

* عنوان القصة «فوشي» باليابانية، وهذا الكاتب الوديع كان مسكوناً بالتراث البوذي وجماله الغارب. والنظرة البوذية للموت واضحة في ثنايا هذه القصة، إذ لا فرق بين الحياة والموت إلا كالفرق بين الماء والجليد، كما يقول أحد الكهنة. وكاواباتا هو أول كاتب ياباني يحظى بجائزة نوبل سنة 1968، احتفاء بالذكرى المئوية الأولى لانفتاح اليابان على الغرب.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©