الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وقفة على شرفات منزل "شاعر الحب والثورة".. هنا.. ظلال "نيرودا" العميقة

وقفة على شرفات منزل "شاعر الحب والثورة".. هنا.. ظلال "نيرودا" العميقة
15 أغسطس 2018 20:22

إذا كان للعالم نهاية أو بداية، فهي نهاية الحزن والانكسار، وبداية الأمل والوجود الذي ينتهي بالموت، هي دائرة مغلقة ملأى بخليط من صراع المفاهيم والأحاسيس التي غالباً ما يصعب استيعابها، إلا لمن يقف على شرفات مسكن بابلو نيرودا، القابع على سفح تلال تتهادى حتى تغرق في مياه المحيط اللامتناهي، هناك حيث مساكن الصفيح تلقي بظلالها على الفقراء في مدينة فالباراسيو ذات الأربعمائة وخمسين ألف نسمة، حطوا رحالهم فوق التلال المنحدرة من سلسلة جبال الإنديز، المحيطة بالميناء التاريخي للمدينة، الأهم اقتصادياً لجمهورية تشيلي على المحيط الهادي.
عند الوقوف على شرفات المنزل المتواضع لـ«بابلو نيرودا» الشاعر اللاتيني الأشهر في القرن العشرين، فإن نظرة عابرة إلى أفق المحيط تكفي لنقل الزائر إلى عالم من الخيال يصعب التوقف عن التحليق فيه، حيث حقيقة أنك تقف على آخر نقطة من اليابسة بنهاية غرب الكرة الأرضية، أمام كتلة عملاقة من مياه المحيط المتلاطمة، تمتد لآلاف الكيلومترات، تبدأ من أمام قدميك وتنتهي بلطم شواطئ اليابان وآسيا بالجهة الأخرى من الكرة الأرضية، عند بداية العالم، فهي الحقيقة الواقعية الملموسة، التي لايمكن استيعابها إلا بالخيال.
لكن الإحساس اللاشعوري، الأكثر أهمية الذي يتكون لدى أي من الناظرين يتركز حول ماهية الإنسان، «كم هو الإنسان كائن صغير ومتواضع أمام هذا العالم !». وهو ما يدفعك مباشرة للبحث عن معنى الحياة، جوهرها وماهيتها، وبقدر ما تبحث عن أجوبة لأسئلة تبدو ميتافيزيقية، تقترب من روح أشعار بابلو نيرودا، الذي أطلق عليه لقب «شاعر الحب والثورة»، وفي مرحلة لاحقة وصف بـ «شاعر الشعب».
هنا فقط تستطيع فهم بابلو نيرودا الذي تحول من دبلوماسي «سفير لبلاده تشيلي» ينعم بالامتيازات والحماية إلى شاعر يناصر الحياة والفقراء والمسحوقين وعامة الناس، ويدافع عن مطالبهم وأحلامهم، ويناهض الديكتاتورية والتسلط، وسط نصوص شعرية تمزج بين الواقع والخيال، وتدور في دائرة مغلقة انتهت بأنه دفع حياته ثمناً لذلك فيما بعد، كما يعتقد الكثيرون من المهتمين بتاريخ نيرودا وشعره وأدبه، برغم أن حقيقة سبب وفاته مازال موضوعاً خلافياً حتى اليوم.
كان يعلم بابلو نيرودا أنه أجل حتمي في نهاية المطاف لكل الكائنات الحية، ولذا لم يبال، ففي ديوانه‏ «كم يعيش الإنسان» يقول:

وكم يعيشُ الإنسان، على أيّة حال؟
هل يعيشُ ألفَ يوم، أم واحداً فقط؟
أُسبوعاً، أم عدّة قرون؟
وكم من الوقت
يستغرقُ في احتضاره الإنسان؟
ماذا يعني أن نقول «إلى الأبد»؟
بينما كنتُ تائهاً في هذه الهموم
جهّزت نفسي لأوضّح الأشياء

نيرودا الإنسان.. كان يؤمن بأن مبادئ الحرية والعدالة ستبقى خالدة، بينما الإنسان يسير نحو نهاية حتمية، ولذا عند الوقوف أمام منزل بابلو نيرودا، ذلك المسكن المنسجم مع بيئته، في حي يقطن غالبيته عمال الميناء، توقن بأن نهاية العالم وبدايته مجرد جغرافيا لاتحدد موقع الإنسان أو أهميته، بل إن مكانة الإنسان في العالم تتحدد بحجم تأثيره في الفكر الإنساني وقدرته على المساهمة في تشكيل الوعي الذي يعزز إنسانية البشر، ويدفعهم أكثر للاقتراب من فهم معنى وجوهر الحياة، ولذا فإن أهمية الحياة لاتقاس بعدد الأيام أو السنين، فلحظة في النور خير من مئة عام في الظلام.. وتلك كانت حقيقة رسالة بابلو نيرودا.
اسمه الحقيقي نفتالي ريكاردو رييز ولد في الثاني عشر من شهر يوليو عام ‏1904 ‏ في قرية بارال بوسط تشيلي، كانت والدته روزا نفتالي تعمل بمهنة التدريس، أما والده جوزيه ديل كارمن، فكان عاملاً بسيطاً في السكك الحديدية.‏
شكل مقتل صديقه الشاعر الإسباني فيديريكو لوركا على يد أتباع الجنرال فرانكو، تحولاً في توجهه الشعري بالتخفيف من الرمزية، والكتابة بلغة ثورية مباشرة لتناول القضايا السياسية والاجتماعية.
رحل نيرودا في ظروف غامضة بعد أيام قليلة من انقلاب الجنرال أوغستو بينوشيه، وإحكام قبضته على تشيلي، لكن الرواية الرسمية لنظام بيونشيه تقول إن نيرودا توفي بسبب إصابته بمرض السرطان.
اختطف الموت والدته قبل أن يكمل الرضيع شهره الثاني نتيجة إصابتها بالدرن‏، وقبل أن يكمل بابلو عامه الخامس عشر كانت إبداعاته الشعرية قد بدأت في الظهور، بدأ ذلك تحديداً عام‏1917‏ عندما كتب قصيدته «عيناي»، والتي وقع عليها باسمه الحقيقي نفتالي رييز، ولكنه عام ‏1920، واختار لنفسه اسماً جديداً هو بابلو نيرودا، والذي ظهر أول مرة في قصيدته التي لم تنشر‏ «جزر غريبة‏».‏
في مارس عام‏1921‏، قرر نيرودا السفر إلى العاصمة سانتياجو، حيث اشترك في التظاهرات الثورية التي اندلعت في البلاد آنذاك، وذلك قبل أن يكتب ديوانه الثاني «الغسق»، والذي اضطر من أجل طباعته لبيع بعض أثاث منزله وساعة اليد التي كان قد أهداها له والده‏.
وأما رائعة نيرودا، فهي ‏«عشرون قصيدة حب وأغنية لليأس»، والتي تعد بحق أول ديوان حقيقي له ترجم إلى لغات عدة، مما جعله أكثر كتبه انتشاراً. وفي هذا الديوان يطغى الحزن وانكسار القلب على روح القصيدة.
في عام ‏1924‏، تخصص في الأدب وكتب ثلاثة أعمال تجريبية.

الشاعر الدبلوماسي
بدأ رحلة تعيينه سفيراً في العديد من البلدان، وانتهت بكونه سفيراً لتشيلي في الأرجنتين عام‏1933‏.
وفي عام ‏1968‏ مرض نيرودا أقعد ذلك عن الحركة، فكتب ديوان «أيدي الأيام» ثم رائعته، «السيف المشتعل» عام‏1970‏، ثم «أحجار السماء» في العام نفسه، وفي ‏21‏ أكتوبر عام ‏1971‏، فاز بجائزة نوبل في الأدب، وعندما عاد إلى تشيلي استقبله الشعب التشيلي باحتفال هائل في استاد سانتياجو، وكان على رأس الاحتفال رئيس البلاد سلفادور الليندي، الذي لقي مصرعه بعد ذلك على يد الانقلاب الذي قاده بينوشيه، وبعدها بأيام توفي نيرودا «متأثراً بمرضه» في ‏23‏ سبتمبر‏1973 وفقاً لرواية حكومة بينوشيه، لكن موت نيرودا ظل موضوعاً خلافياً حتى يومنا هذا، وكانت آخر محاولات الكشف عن الحقيقة جرت في عام 2015 عندما حاولوا إجراء تشريح لرفاة نيرودا في سويسرا، لكن حاكمة تشيلي عملت على طي الموضوع لعدم إثارة القلاقل، وخشية من عدم الاستقرار في البلاد.
في ديوانه «أحجار السماء» الذي كتبه وهو على شفير نهاية نفق الحياة، بينما كان يرى الخلود في مبادئه وشعره، يقول:
لتصلب الأرض
وتتولى الصخور المسؤولية
فوراً
لقد نمت الأجنحة
الصخور
التي ارتفعت
الناجين
طارت
الصاعقة
صرخت في الليل،
علامة مائية،
سيف بنفسجي،
نيزك
إعصار
سماء
ليس فقط الغيوم،
ليس فقط رائحة الأوكسجين في الفضاء،
لكنه حجر من العالم
امض هنا وهناك
انقلب إلى حمامة،
تحول إلى جرس،
في السعة، إلى ثقب ينفخ
في سهم فسفوري،
في ملح السماء.

ونقل عن نيرودا أنه عندما أطاح الجنرال بينوشيه الحكومة الاشتراكية المنتخبة ديمقراطياً في تشيلي، وقتل الرئيس سلفادور أليندي، هاجم الجنود بيت نيرودا، وعندما سألهم: «ماذا تريدون؟» أجابوه بأنهم يبحثون عن السلاح، فقال لهم «إن الشعر هو سلاحي الوحيد».

المدينة المتحف
لازالت مدينة فالباراسيو تعيش في ظلال روح شعر وفكر نيرودا، فليس صعباً على الزائر أن يكتشف ذلك فور دخوله المدينة، فقد انتفض سكانها على الفقر ليحولوا أحلامهم وأمانيهم إلى لوحات فنية رسموها على جدران المدينة كافة في الشوارع والأزقة كافة، ليتحول الفقر إلى أمل منقطع النظير، من خلال الجداريات والرسوم واللوحات التي رسمها فنانو المدينة مستخدمين كل أشكال ومدارس الفن التشكيلي والتجريدي والتخطيطي والهندسي وغيرها، لتتحول المدينة الفقيرة بذلك إلى معرض مفتوح يجذب السياح والزائرين من البلدان كافة، خاصة أولئك الملهمين بشعر نيرودا والذين يبحثون عن روح العالم في نهاياته.
وليسعد الفقراء من جمهور بابلو نيرودا الذين شكلوا همه الأول في حياته وظلوا أساساً لخلوده الأدبي والشعري، ولهؤلاء الذين لم يتمكنوا من تحقيق العدالة الاجتماعية المنشودة، فعلى الأقل يسعدون بإنسانية الفكرة.
وأخيراً لابد من القول، إن رحلتنا من الإمارات إلى تشيلي، لم تكن محض مصادفة، بل جاءت في إطار الجهود التي تبذلها الشركات الإماراتية الكبرى، لتعزيز مكانة دولة الإمارات في مقدمة دول العالم على خريطة الاقتصاد والمال والثقافة والاتصال مع الشعوب الأخرى أيضاً، وكانت بمناسبة إضافة الوجه رقم 161 لخطوط شركة طيران الإمارات التي دشنت وجهتها الجديدة مطلع يوليو 2018 للربط بين دبي وسنتياغو في رحلة مباشرة خمس مرات أسبوعياً، ما يعزز موقع دولة الإمارات مركزاً عالمياً، ذات هوية كونية، قائمة على قاعدة تطوير كل أشكال التعاون مع شعوب الأرض كافة من أقصاها إلى أقصاها، ولتبلغ دولة الإمارات رسالتها الثقافية والحضارية للعالم، ولتؤكد أن مكانتك على خريطة العالم تتحدد بحجم فعلك وفعاليتك لابمكانك الجغرافي.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©