الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خروج إجباري عن «خطّ» الروتين

خروج إجباري عن «خطّ» الروتين
18 يونيو 2015 00:28
هل رمضان هو الماضي؟ أيحلّ مجدَّداً كل عام ليعيدنا إلى الماضي؟ فنذكر كل ما يتعلق بذلك الماضي من علاقات أسرية، وتنوّع مأكولات وحلويات، وعادات مازال يدغدغنا حضورها الموسمي رغم بداية أفول بعضها. يطل رمضان عادة ويفرض حضوره بقوة على حساب التقويم الإفرنجي الذي يلازمنا أحد عشر شهرا شمسياً. ويكاد يتقهقر أمام سيد الشهور الذي تتنازعه رغبات الجسد ونداءات الروح. ولمَ هذا الكلام عن الجسدي والروحي؟ عن هذا الانشطار؟ في شهر رمضان بالتحديد؟ ربما لأننا نجمع بين الحنين إلى الماضي وبين انجرارنا إلى عصرنا بقوة تقدُّمه وشمولية روحه الاستهلاكية. لذلك نستذكر شخصيات تكاد تكون منقرضة مثل الحكواتي أو الفداوي، ومثل المسحراتي أو بوطبيلة. هضم بالمعدة وهضم بالعين ها قد هلّ هلال رمضان، ولطلّته خصوصية يتمتع بها كل بلد، من فوانيس مصر إلى «البريك» التونسي، ومن عرق السوس الشامي إلى اللقيمات والهريس في منطقة الخليج... وصولا إلى الفضائيات العربية التي تهيئ أطباقها هي الأخرى لكن بطريقة مشهدية هذه المرة! بعد (شق الفطر) كما نقول في تونس، أي بعد وجبة الإفطار، وبعد التمنيات بإفطار شهي وصيام مقبول تبدأ التخمة من الحلويات ومعها البرامج والمسلسلات: نلهث من محطة فضائية إلى أخرى كي لا يفوتنا شيء من المنوّعات والمسلسلات التي تتحفنا بها جل الفضائيات العربية بغثها وسمينها. وهكذا حتى وقت السحور عندما تأتي الغفوة والبطون ممتلئة بما لذ وطاب من مأكولات رمضانية والذهن متعب وواهن من الكم الهائل الذي شاهدته العين، فيختلط المشهد بالمشهد، والحدث بالحديث، وواقع التخمة بكوابيس الهضم في أحلامنا! وأحيانا ترى أبطال المسلسلات، الذين أسعفهم الحظ واشتركوا في أكثر من عمل درامي، وكأنهم لا يزالون في الحكاية نفسها، مع اختلاف المسلسل، لذا ترانا، نحن المشاهدين المساكين، نحاول جاهدين الفصل بين دور وآخر، وكأن هذا الشهر هو للأكل والفرجة فحسب. أي الهضم بالمعدة والهضم بالعين. وما يعزز كلامنا، نظرة سريعة، مسلحة بجهاز التحكم عن بعد، على فضائياتنا العربية. فقد استبقت رمضان بالإعلان عنه، بل بالإعلان عن أطباقها الفرجوية «المتميزة» والتي تنوي بها شد البصائر والأبصار حتى انبلاج النهار. والملاحظ أيضا في هذا الشهر المبارك أننا نفقد القدرة على تحمل بعضنا وسرعان ما نتوتر لأتفه الأسباب وتسمعنا نصرخ بغضب: اللهم إني صائم! وباللهجة التونسية فإن الصائم الذي يفقد السيطرة على أعصابه ويسقط فريسة للغضب الأحمق إنما يعاني آنذاك من (حشيشة رمضان). فرصة لإعادة النظر لن نخوض الآن في الطابع الروحي لهذا الشهر ولن نتحدث عن أهمية الصوم بالنسبة للجسد والروح. ولكن يكفي أن نقول كما اعتدنا، أنه لابد من وقفة تأمل مع ذواتنا ومع إعلامنا ومع فنانينا كي نستطيع رؤية الأشياء على حقيقتها. ولابد كذلك لسياستنا الإعلامية من مراجعة لما هي عليه كي نتمكن من إعطاء هذا الشهر الفضيل ما يستحق. ولعلنا نتذكر في هذا السياق أنّ برامجنا التليفزيونية قبل عقود من الزمن، كانت تسعى خلال شهر رمضان، إلى إنتاج بعض البرامج باللغة العربية المبسطة والمفهومة من الجميع، خصوصا بالنسبة للمسلسلات الهزلية، أو تلك المأخوذة من كتب التراث على غرار بخلاء الجاحظ، لكنها بدأت تندثر في الأعوام الأخيرة مع تقهقر الإقبال على المسلسلات التي تعتمد اللغة العربية أساساً، فضلا عن تقبّل القصص والحكايات المقتبسة من التراث أو من التاريخ. ولابد من الإشارة إلى أن العصر الذي نحن فيه يسعى تحت مسميات عديدة، أبرزها العولمة، إلى تذويب الفروقات التي تميز الشعوب، لا بمعنى العمل على التقارب بينها، بل بمعنى إخضاعها إلى نمط استهلاكي منمزج. وتلعب وسائط الاتصال الحديثة المسموعة والمرئية، وصولا إلى الابتكارات المتتابعة في مجالات النت، دوراً أساسيا في تكريس هذه الصورة النمطية التي باتت تهرب من التركيز وتدمن تدفق المعلومات ضمن التنوع والإثارة الدائمة. ويمكن في مجال الأنشطة الرمضانية ذات العلاقة بالجانب الروحي والثقافي، ذكر التجربة التونسية التي مر عليها أكثر من ثلاثين سنة، وتتمثل في واحد من مهرجاناتها العريقة وهو «مهرجان المدينة». صحيح أنّ المهرجان ذو صلة بشهر رمضان تحديداً، لكنّ إضافة اسم المدينة إليه، تشير إلى المدينة القديمة التي تضم أبرز الأمكنة التاريخية المهيّأة أو المرممة من أجل استقبال تلك الاحتفالات الرمضانية ضمن المباني القديمة للمدينة التي أنشئت منذ نحو 13 قرنا والمصنفة ضمن التراث العالمي من قبل اليونيسكو. ما يميز هذا المهرجان الرمضاني أنه يجمع بين ما هو فنيّ وما هو معماريّ بعد ترميم المواقع والقصور القديمة، واستعادة بعض العروض من التراث العربي والأندلسي، وتنويع العروض لتشمل الموشحات الصوفية والموسيقى الكلاسيكية، بالإضافة إلى موسيقى الفلامنكو والجاز، بالإضافة إلى المزج بين عروض متأصلة وأخرى متفتحة على ثقافة الآخر وحوار الثقافات إجمالاً. كما أن العروض تتم كل ليلة من ليالي مهرجان المدينة داخل معالم تاريخية في المدينة العتيقة، لم تكن سابقاً توظف لغايات ثقافية فصارت اليوم ترتبط بنوع معين من الفن ومن تلقي الفن، إلى ذلك يتميز المهرجان في عروضه بالطابع الروحي والصوفي والغناء العاطفي الراقي، وعدم الاكتفاء بالعروض والأسماء المكرسة ومحاولة مفاجأة الجمهور باكتشافات جديدة. من دون أن يعني ذلك غياب العروض التي يقدمها بعض الفنانين الكبار الذين تخصص لهم فضاءات أوسع تستوعب تدفق الجمهور على عروضهم بشكل أوسع. ومن يقرأ خريطة الأنشطة التي ينظمها المهرجان يجد أن العروض في بعض الدورات تضمنت مسرحيات منتقاة وملائمة لروح المهرجان ولسياسته، والابتعاد عن تكريس العروض الربحية والمراهنة على الأعمال المتميزة مهما تقلص عدد جمهورها. فضلاً عن انتشار العروض في الأسواق والمقاهي علاوة على المعالم التاريخية المتميزة. وقد أدى ذلك إلى ظهور متابعين جادين نشؤوا مع هذا المهرجان في سنواته المتعاقبة، خاصة وأن النشاطات توزّع على معظم المدن التونسية ولا تقتصر على العاصمة، لكن ضمن الرؤية نفسها المتعلقة بالأمكنة المعمارية والأنشطة الرمضانية. وفي الدورة المقبلة، (من 20 يونيو/ حزيران إلى 14 يوليو/ تموز 2015 أي خلال شهر رمضان)، من المنتظر أن تكون الفضاءات القديمة بالمدينة هي الحاضنة لمختلف العروض على غرار دار الأصرم، ومدرسة بئر الأحجار، والعاشورية، والمدرسة السليمانية، إلى جانب العروض الكبرى التي يُخصّص لها المسرح البلدي بالعاصمة. هو زمن جديد إذن، ملحق بزمن قديم، له علاقة بالذكرى وإحيائها، كما أن له علاقة بالأمكنة القديمة أيضا والتي يفترض أنها تقدّم لمسات جميلة ساحرة على تلك الاحتفاليات الفنية والروحانية. فرص لقراءة الذات بعيدا عن الصورة النمطية لشهر رمضان بوصفه شهر الاستهلاك السلبي لما هو مادي - جسدي وثقافي - روحي، والشهر الذي لا يكاد المرء يغادر خلاله جوانب التسلية والفرجة المبتذلة، يمكن إعادة النظر بجد في إمكانية استعادة الأبعاد الروحية لهذا الشهر سواء على المستوى الاحتفالي الروحي أو على مستوى الإبداع المستوحى من هذا البعد الروحي (الموسيقى، الإنشاد، العروض المشهدية، الحلقات الصوفية...) وبالخصوص بوساطة إحياء العادات القديمة التي تبعث على الحنين والتذكر المشوب بدرجة من الأسى والأسف، من خلال تقديمها بطرق تجمع بين التوثيق والابتكار الفني. وربما التجديد أيضا في محاولات ممكنة لإثراء شخصيات الحكواتي وبوطبيلة وحركة الأسواق التي تكون غنية بالأحداث والمواقف الطريفة، لاسيما في البلدان التي اغتنت بجنسيات مختلفة تشكل تنوعاً في العلاقات وفي التسامح بين بني البشر. أهنئ القراء بحلول شهر رمضان المبارك وأتمنى أن يمر هذا الشهر بسلام على الجميع. وليسترح الأطباء قليلا، إذ بعد انقضاء شهر رمضان نبدأ بمراجعة «ميكانيزماتنا» من إزعاج المعدة إلى إنذارات الأسنان... وصولا إلى التفكير الجدي للمرة الألف في مسألة الحمية أو الريجيم! رمضان كريم، فكونوا... أكرم!. يتميز شهر رمضان بكونه يجمع بين الماضي والحاضر المتجدد. هو شهر يختلف عن بقية الشهور بوقفة إجبارية تقريباً، تعيدنا إلى كثير من المحطات المتنوعة بعضها ديني، رحماني، وبعضها روحاني بآفاق أكثر اتساعاً تعكس المحبة والروح الإنسانية المتسامحة مع ذاتها ومع بقية مخلوقات الكون. لكن هذه الوقفة قد تغدو مؤقتة، وعاكسة أيضا لوضع انفصامي لدى الشخص المتوغل في أسباب الحضارة الحديثة بكل محاسنها ومساوئها الساحقة، مع نظرة «نوستالجية» رمضانية تُعيده إلى مراحل تاريخية أو إلى فترات زمنية أكثر قرباً، لها علاقة بالعادات والتقاليد الجميلة المرافقة لشهر رمضان. وقد بدأت تخفّ أو تضمحلّ نهائيا، لتغدو من مشمولات الصورة الحديثة والعروض الفنية المعالجة للماضي، أكثر من علاقتها الحميمة بالواقع اليومي في شهر رمضان كما كان شأنها قبيل عقود قليلة من الزمن.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©