الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حُمولات روائيّة

حُمولات روائيّة
17 يونيو 2015 22:15
حين ينشأ الروائي – الروائية في فضاء يرصد شهراً من سنته للصيام، فسوف يكون للمرء أن يتوقع حضور هذا الشهر في الكتابة الروائية، بشعائره وتقاليده وتفاصيله، حتى لو لم يكن الروائي – الروائية مسلماً، ما دام شهر الصيام يتخلل المجتمع الذي يكاد يكون الإسلام عنوانه الرئيسي. وبالطبع يحتاج توكيد ذلك، كما نقضه، إلى النظر في مدونة روائية كبرى. لأن النهوض بعمل من هذا النوع «البحث عن تجليات رمضان في الرواية العربية» أكبر مما يمكن لشخص أن يقوم به، أكتفي بهذه المقاربة لعدد من الروايات، يؤمل أن يكون تمثيلها ذا مصداقية، وبخاصة فيما يتعلق بحضور شهر رمضان في روايات السنوات الأخيرة، ولكن بعد التمهيد بما قدم السابقون الذي سأمثل لهم بهذين المثالين من مصر. نجيب محفوظ: بين القصرين في هذا الجزء من ثلاثية نجيب محفوظ التي تعود إلى العقود المصرية الأولى من القرن العشرين، عبر أسرة أحمد عبد الجواد، يتعثر نصيب البنت الكبرى خديجة في الزواج، فتسبقها أختها الأصغر عائشة. ولأن ذلك يورث خديجة المرارة، فهي تشكو عثارها في صلاتها وفي مناجاتها للرحمن. وقد كانت خديجة تجاري أمها منذ الصبا في تدينها، وبخاصة في محافظتها على الفرائض، بخلاف عائشة التي خطبت قبلها، ولا تمارس العبادات إلا في فترات متقطعة ومتباعدة، حين تنتابها الحماسة، حتى إذا فترت، وسرعان ما تفتر، عادت كما كانت. مما تهجس خديجة به نقرأ: «إني أحافظ على الصلاة. أما هي فلم تطق المحافظة عليها يومين متتاليين، وإني أصوم رمضان كله، وأما هي فتصوم يوماً أو يومين، ثم تتظاهر بالصوم على حين تنسلّ خفية إلى المخزن، فتملأ بطنها بالثقل، حتى إذا أطلق مدفع الإفطار هرعت إلى المائدة قبل الصائمين». وإذا كان في هجس خديجة ما يصم عائشة بالنفاق، فهو أمر مألوف في صيام الأطفال بخاصة. لكن خديجة لا يكفيها هذا النيل من شقيقتها، بل هي تذهب بالشكوى أبعد حين تقارن بين ما تثاب به على إخلاصها من سوء الجزاء، وبين ما تثاب به عائشة على تهاونها من حسن الجزاء. أنا سلطان قانون الوجود إذا كانت الإشارة الرمضانية في (بين القصرين) خاطفة ومحدودة، ففي قصة يوسف إدريس (أنا سلطان قانون الوجود) تصير الإشارة الرمضانية هي القصة كلها، بما يعنيه ذلك من اتقاد الفن وانطلاق أشعته من واقعة بعينها في الليلة الأولى من شهر رمضان عام 1972، إلى أغوار النفس البشرية، وإلى أغوار المجتمع والكائنات. تلك الليلة مضى الراوي مع صحبه إلى السيرك: أسود ستة تعبر النفق بين محبسها في الكواليس وبين الحلبة – القفص الحديدي، وأقعت في نصف دائرة كتماثيل أسود قصر النيل، وقد مدت أقدامها الأمامية فوق الحامل الخشبي أمام كل منها، ما عدا الأسد (جبار). وإذ دخل بطل الأسود محمد الحلو، وتنبه على جبار، حاول أن يصحح الخطأ، لكن الأسد لم يستجب. منذ هذا المفصل يبدأ يوسف إدريس – كالعهد به – يسبر أغوار الإنسان والحيوان، ليصلهما من بعد بأغوار المجتمع والبشرية. فمحمد الحلو يتقدم من الأسد محدقاً في عينيه، وآمراً بهما، لكنه ما كاد يقترب حتى تقدم جبار منه وزأر، وهنا كانت ارتدادة الخوف السريعة من المدرب، والتي ستقضي عليه. في مفتتح شهر رمضان يرسم يوسف إدريس السيرك مثل ديوان حكومي، أو حديقة عامة. ويرسم جمهور السيرك مثل جمهور الزحام أمام الجمعيات الاستهلاكية أو في ممرات الأتوبيس، أو الذين يجعلون من (السلطة) على مائدة الإفطار الرمضاني (مسألة حياة او موت) تفنناً في صنعها، انتقاءً لمكوناتها وبهاراتها ومخللاتها. إنها وجوه مصرية ووجوه الأشقاء العرب التي يعجز الراوي عن تأمل ما يرتسم على ملامحها «فالأبخرة الدسمة المتصاعدة من معدات تجأر بمحتويات الإفطار، والعرق المتصبب من تلقاء نفسه من صدور وبطون بالكاد تلهث لتؤدي وظائفها، بالكاد إذا تجشأت تتجشأ». من هذه التعرية لجانب من السلوك الرمضاني المتعلق بالطعام، تمضي القصة من الرجل المفرد محمد الحلو، إلى كل من تضمه خيمة السيرك، لاعباً أو عاملاً أو عازفاً أو متفرجاً. فهؤلاء الذين يرون الحلو بطلهم، تُراهم – يتساءل الحلو – ما عادوا يرونه بطلاً، بعد تلك النظرة بينه وبين الأسد، أم إنهم لم يعودوا يريدون البطل، أي بطل؟ أم إنه الحلو نفسه ما عاد يحفل بأن يكون بطلاً؟ هنا يفتح الكاتب للقصة أفقاً آخر عنوانه البطولة، فنقرأ أن البطل لا يكون إلا في ظل إحساس عام بضرورة البطولة، والبطولة قيمة لا تكون إلا في خضمّ من القيم: لا مجد للبطولة بلا مجد للكرامة، بلا مجد للنبوغ، بلا مجد للشرف، بلا مجد للعمل الصالح. والبطولة لا توجد إلا في جو عام تُعلن فيه اللابطولة. الحيوان الوحيد الذي يخاف منه الأسد، هو الإنسان: يقرر الراوي. ولكي تروض الأسد، عليك أن تروض نفسك أولاً. وها هو محمد الحلو، ينقض ذلك لمرة واحدة لكنها كافية، لأنها قاتلة. ففي الليلة الرمضانية الأولى أدرك الأسد جبار خوف المدرب. وفي الليلة الثانية قتله الأسد سلطان الذي أدرك – وهو المستسلم لقيوده ومصيره وخوفه – إنه كان مخدوعاً، وأنه الأقوى، فقتل، ليستعيد نفسه. وفي رأي الراوي أن الأسد سلطان ما كان يريد لما حدث أن يحدث، ولذلك صام عن الطعام، وقضى الأيام التالية حزيناً. ويورثنا الراوي هذه الواقعة: «فإني أترك المشكلة لكم لتفكروا فيها»، ذلك أننا جميعاً، لو استحلنا إلى أكلة عيش، فسيكون مصيرنا أن تنهشنا أكلة اللحوم، والإنسان اثبت أنه على رأس أكلة لحوم البشر: يقول الراوي، بينما تنتهي القصة بحلول ابن المدرب القتيل محل أبيه، وبهذا الذي يخاطبنا به الأسد سلطان: «إني آسف أيها السادة، شديد الأسف لما حدث لسيدي السابق، شديد الإعجاب بابنه الذي يعتلي الآن ظهور الأسود ويخيفها، آسف ايها السادة، فقانون الغابة ليس قانونها فقط. إنه قانون الحياة والأحياء، ذلك الذي لم تستطع حتى اديان السماء كلها أن تلغيه (..) أنا سلطان قانون الغابة، وقانون الحضارة، وقانون الإنسان، وقانون كل الوجود». في الراهن من ذلك الماضي البعيد في خمسينيات القرن العشرين، من زمن شيخ الرواية العربية وشيخ القصة العربية، أسارع إلى روايات أخرى جاءت فيما انقضى من القرن الحادي والعشرين، لمتابعة الحضور الرمضاني روائياً، والروايات المعنية تتوزع بين الجزائر والعراق وفلسطين، لكأنما تصل بين ما تقدم من مصر، وما سيلي: إسماعيل يبرير: باردة كأنثى صدرت هذه الرواية القادمة من الجزائر عام 2013. وهي مكوية بنار العشرية السوداء التي ودعت بها الجزائر القرن العشرين، ولا تكاد تخلو رواية جزائرية من لفح ما من لفحاتها. بضمير المتكلم يروي الشاب إدريس مكابداته في تلك العشرية. وفي واحد من مفاصل الرواية الحاسمة، حيث يقترب شهر رمضان، يُعثر على رأس عبد الرحمن إلى جانب رأس أستاذ فلسفة، فتنهار الطبيبة وردية زوجة عبد الرحمن، ويشيع الناس الرأس بلا جثة. يهلّ رمضان، وإذا به أبهى منه كل مرة كما يروي إدريس الذي تتأمله وردية على مائدة الإفطار، وتنبئه أن عبد الرحمن قد سجله في صف البكالوريا: «ستنجح هذه المرة»، فأصابته برودة ورهبة، وبينما يرى نفسه في عين وردية «كم أنا يافع وقادر»، يرى نفسه في عينه وفي عين البلاد: «كم أنا هرم وعفن». فجأة يحضر شقيق وردية الوحيد الذي يعمل ويقيم في فرنسا. يبكي الشقيقان، ويخرج إدريس ويهجس بأنه لم يكن لعبد الرحمن سوى معجب أو تابع أو مريد، ويهجس بوردية: «كما سأصبح مريداً فاشلاً لك». وفي ذلك المساء الرمضاني تقوده قدماه إلى حديقة الحرية وسط مدينة (الجلفة). لكن الحديقة ما عادت تستهوي أحداً، والدخول إليها في هذا الوقت – المساء الرمضاني أشبه بالجنون، لذلك يعود إدريس إلى بيته، حيث تفوح غرفته برائحة الغربة، وتهاجمه ذكريات الكتب التكفيرية التي قرأها، والأشرطة المميتة التي سمعها، ويعزم على أن يبحث شخوصها وحالاتها. في الصباح الرمضاني عاد إلى وردية، وغادر شقيقها وهو يوصيه بها خيراً. ويقفز السرد إلى إفطار تسأل فيه وردية عن إدريس، فإلى ليلة السابع والعشرين من رمضان التي قضى فيها محّاد القهواجي، وهو والد حشاوش الذي تلقب بـ (أبو الحسن) وجرف إدريس حيناً في الطريق التكفيرية الإرهابية. وفي غياب الابن الإرهابي، تكفّل أهل الحي بجنازة محّاد، فكان يوم دفنه عابقاً بالقهوة التي حاصرت بلونها ورائحتها مداخل الحي. ويتمنى إدريس لو أن حشاوش (أبو الحسن) الإرهابي حضر الاحتفاء الكبير بوالده الذي كان القهواجي – محضر القهوة في مقهى لجدّ إدريس. وقد حضر العزاء بمحّاد من قتله وقتل جد إدريس بحرمانهما وبحرمان الناس من مسرح الجد/المقهى. وفي تلك الجنازة الرمضانية يروي إدريس أن (الخوانجية: أي الإخوان المسلمين) اختلفوا مع المؤذن الأعور وباقي الشيوخ. فقد طلب الناس أن يُقرأ القرآن، لكن أصحاب حشاوش من الحاضرين رفضوا، متعللين بأن قراءة القرآن في مثل هذا الموقف لا أصل لها، وبأن لا فائدة ترجى من قراءة القرآن على ميت انقطع عمله. وقد خضع الشباب المتحمسون، لكنهم أخذوا ينشدون (الرحبية: متن المواريث الشهير في الجزائر)، لكأنهم أرادوا للقهواجي أن يحفظ (الرحبية) وهو يودع الدنيا، من دون أن يترك إرثاً لوريثه الوحيد: حشاوش. بانقضاء شهر رمضان حلّ العيد هادئاً وخفيفاً، متضامناً مع الأيام، لكأنه استحيا من أن يتبهرج أمام حزنها وفقرها. ويسرد إدريس أن أمه تذكرت قائمة المفقودين، وبكتهم في صباح العيد الباكر. وهكذا ينتهي الحضور الرمضاني في رواية (كأنها باردة) بما تفاعل فيه من الإرهاب والتكفير والذبح، وهو ما سيتواصل فيما يلي من تطوّح إدريس ووردية بين (الجلفة) والجزائر العاصمة، ليكتشف الشاب كم خدعه حشاوش: «لقد خدعني مع جميع الأخوة الخوانجية» بينما وردية تصرخ: «أي وئام ودماء أزواجنا وأبنائنا لم تجف بعد». ميسلون هادي: نبوءة فرعون صدرت هذه الرواية القادمة من العراق عام 2007، مزلزَلة بالزلزال العراقي عام 2003. في واحدة من ليالي الزلزال خرج الابن يحيا من البيت ولم يعد، فيكون للأم بلقيس زلزال فوق زلزال. وفي نهار رمضاني يتوجّه أذان المغرب، تخرج بلقيس ماعوناً من حلاوة الرز المحلاة بالسكر، وبصبغة اللوزينة، كانت في الثلاجة منذ أيام حتى تفطرت، فأفطرت بلقيس عليها ببطء شديد. وحين أنهت إفطارها وجدت الطفلة شاكرين حاملة مرآة يحيا المكسورة. في تلك الليلة الرمضانية بكت بلقيس بكاء مراً لأن يحيا اختفى من دون أن تشعر به، ودون أن تتمكن من أثر له. وفي النهار الرمضاني التالي سمعت المذيعة تقول إنها تبث برنامجها الإذاعي من خيمة منصوبة في ساحة الأمة البغدادية، تحت نصب الحرية، وإنها تدعو المواطنين إلى المواطنة الصالحة وتسليم ما بحوزتهم من أسلحة إلى حواجز معلومها نصبتها قوات التحالف. بحلول ليل رمضاني جديد تتزعزع بلقيس من جديد، وتنكمش على نفسها مثل حيوان خائف ووحيد، وترهف السمع إلى أصوات كائنات الليل، علّها تسمع يحيا يناديها. لكن الخيبة تنتظر، لذلك تمد بلقيس يدها إلى كتاب الله قرب رأسها، وتفتحه بشكل عشوائي، وتقرأ على ضوء نور شحيح «سبح اسم ربك الأعلى» إلى آخر السورة. بتنضيد محكم تنهض رواية (نبوءة فرعون) في ثلاثين قطعة من الذهب - ثلاثين فقرة تتقد لغتها، وتتفجر مراياها بالصور العراقية للاحتلال الأميركي/ التحالف، ولعذابات البشر التي ربما تتجسد في شخصية بلقيس إذ فقدت يحيا، وإذ تسعى في إثره. وفي هذا السعي تمضي في النهار الرمضاني إلى العرّاف الشهير (أبو المراية)، مصطحبة الطفلة شاكرين. ومقام العراف بعد سجن أبو غريب الشهير، والطريق إليه دونه حواجز الجنود الأميركيين، لكن كل أمر يهون من أجل أثر ليحيا. وفيما ينادي (ألف ليلة وليلة) توالي الرواية حكاية بلقيس ومن تصادفهم تحت الشجرة، حتى ينقضي النهار الرمضاني، ومنه تقفز الرواية سنوات في القطعة الذهبية – الفقرة الثلاثين الأخيرة ليظهر يحيا، ولكن في واحدة من أخيولات الرواية التي تنادي الخيال العلمي. أحمد رفيق عوض: القرمطي صدرت هذه الرواية القادمة من فلسطين عام 2001. وهي تحفر في التاريخ إذ تعود إلى (القرامطة)، وعينها على الحاضر والمستقبل، ابتداءً من الإهداء: «إلى الذين يواجهون القرامطة حتى اللحظة». وعلى الرغم مما يبدو في الرواية من وثائقية مكينة لا تكاد تفوت أمراً يتصل باللحظة القرمطية والعباسية التي تتعلق بها، فإن تسريد الوثيقة والمعلومة نجا بالرواية من شبهة التأرخة ومن وطأتها اللتين تناديان جرجي زيدان وذلك النمط الذي اختطه من (الرواية التاريخية). أما الحضور الرمضاني في هذه الرواية، فيقترن بمفصلها الحاسم المتعنون بالإعداد للسيطرة على مكة والاستيلاء على «سرها وجوهرها ومغناطيس القلوب الذي يشد الناس إليها» وهو الحجر الأسود. في دار الهجرة التي بناها أبو طاهر الجنابي في مدينة هجر في البحرين، استعداداً لظهور المهدية، وفي الأيام الأخيرة من شهر رمضان، ينعقد اجتماع عاجل لمجلس العقدانية، ليعرض ابو طاهر تدبيره لغزو مكة. وفيما تسرد الرواية من مداولات ذلك الاجتماع، يتبين الحذر من الغزو، كما يتبين العزم عليه، والمكر في خططه، بينما تظلله في الخارج عتمة آخر شهر الصيام، وصوت أبي طاهر يتحدى: «أريد لما أفعل أن يكون حدثاً لا يغيب حتى ينتهي هذا العالم». وهو يدرك عميقاً ما سيقدم عليه لذلك يأمر المجلس العقداني: «هيأوا لحرب مختلفة. هذه حرب ليست ضد جيش واحد. إنها حرب ضد كل شيء». مثل هذه الحرب تحفها المخاطر، لذلك لا يسلك الغزاة الدروب المعروفة من هجر في البحرين إلى مكة، بل يحضر الدليل فالدليل ليعبر الصحراء ويسلك الدرب المجهولة. في الأيام القليلة المتبقية من رمضان تُعلن حالة الاستعداد للحرب في هجر، وتفتح دار السلاح على مصراعيها، ويُمنح المحاربون ما يحتاجون إليه. ولا تفتأ الرواية تعنى بدخائل شخصياتها، من أبي طاهر والقادة الآخرين إلى قدماء المحاربين ومحدثيهم. وعلى الرغم من أن شهر رمضان في آخره، فقد اندفع المحاربون جميعاً إلى الملذات، كأنهم يودعون الحياة، وكتبوا المواثيق والعهود على أملاكهم وزوجاتهم. ومنهم من طلق زوجته أو منحها حريتها تفعل ما تريد، إذا ما عاد أو لم يعد. وهكذا، وفي غضون أسبوع، عسكر خارج هجر أكثر من عشرة آلاف محارب، وأكثر من خمسة آلاف عبد وقينة وطباخ وضارب دف ومخرق وآخرون غيرهم يتبعون الجيش، ويلتقطون ما يمكن التقاطه من ورائه. وفي الثالث من شوال انطلق الغزاة. ولسوف تتابعهم الرواية في منتهاها وهم يقطعون الصحراء في طريق بكر، ويواجهون عاصفتها، فيقول أبو حفص من القادة، وفيما لا تخفى مخاطبته لزمن الكتابة: «إن عاصفة الصحراء ما هي إلا من عمل الشيطان والأرواح الرديئة التي ترغب في رد الجند عن واجبهم وقدرهم». وقد أكدت الرواية في جملتها الأخيرة على هذه المخاطبة لزمن الكتابة، حيث نقرأ: «الرواية مستمرة...». وقبل ذلك بسطور، قفزت الرواية بالزمن من هدم الكعبة ومذبحة الحجيج، إلى اللد بفلسطين، حيث كان أبو طاهر القرمطي، فأرسل الله عليه الجدري «فظهرت على جلده بثور تنز بالصديد المختلط بالدم، فتبعث رائحة كريهة لا تطاق، وقد اشتد المرض عليه حتى ضرب دماغه، فخيل إليه أنه كلب، فصار ينبح مثل الكلاب، ويعض مثل الكلاب (....) فصار أبو طاهر يأكل لحمه، لما استحكم في خياله أنه كلب، وظل على هذه الحال حتى اكل نفسه ومات». مصطفى فودة: النداء الجديد صدرت هذه الرواية القادمة من مصر عام 1986، وهي واحدة من الروايات التي صدرت في مصر وسوريا بخاصة، وتتعلق بحرب 1973. ولأن هذه الحرب قد وقعت في شهر رمضان، بل واشتهرت بأنها حرب العاشر من رمضان، فقد كان لهذا الشهر حضور ما في تلك الروايات. ويتجلى ذلك في رواية مصطفى فوده (النداء الجديد) عبر الشخصيات المحورية الأربع، وهم ضباط من قرية واحدة، شاركوا في عبور القناة، وبينهم بطرس المسيحي الذي يبلغه قائده بمهمته: النزول بجنوده خلف خطوط العدو قبل أول ضوء. وقد داعبه زميل لاحظ ذهوله لدن تبلغه بالمهمة: «إيه يا حضرة الضابط بطرس، أفق، أم إنك صائم رمضان أنت أيضاً مثلنا». وحين حضر العشاء، لم يستسغ بطرس الطعام على الرغم من أنه لم يذق الطعام نهاراً، مجاملة لزملائه المسلمين. كما استذكر زيارة أبيه على رأس أقاربه في ليالي رمضان في القرية لبيوت المسلمين. ويستذكر مرافقته لأبيه في تلك الزيارات، وخشوع الأب المسيحي حين يرتل الفقيه القرآن. ليلة العبور يأمر بطرس جنوده: بلا سهر رمضاني هذه الليلة، وبعد السحور لا نوم. وبعد اندلاع الحرب، تنتقل الرواية إلى الضابط الآخر محمود وسريته، ثم تمضي إلى القرية، حيث والد الضابط الثالث ووالدته يتهيآن للسحور: أبو أحمد يصلي، وأم أحمد تعد الطعام، والولد حسن المسحراتي ينشد على النقرزان: أنا صنعتي مسحراتي منقراتي في البلد جوالْ لفيت ودبيت كما العاشق ليالي طوالْ ناس كانوا قبلي قالوا في الأمثالْ الرجل تدبّ مطرح ما تحبْ يا عم أبو أحمد يا أبو الأبطالْ أحمد بطل وعم للرجال يعود لنا بالسلامة على رأس الأنوار اصحى يا نايم وحّد الرزاق وفي القرية ايضاً تمضي الرواية إلى والد الضابط الرابع أبو حافظ التاجر الثري الذي رجّته الحرب، فجعلته يقرأ القرآن ويصلي ويأمر بإطعام الفقراء على الإفطار، كما يكلف ثلاثين حافظاً فقيراً للقرآن بقراءة القرآن فيما تبقى من شهر رمضان، ثلاث مرات كل ليلة في السحر، بنية النصر. ويقود أبوحافظ حملة لجمع التبرعات للمجهود الحربي، يتنافس فيها الأغنياء والفقراء، ويندفع إليها المسلمون والمسيحيون، والأخيرون يقودهم القس والد بطرس. ومن (الرمضانيات) التي توردها الرواية، حرص زوجة حافظ الحامل على الصيام، وتنبيه زميلة لها بجواز إفطارها بعلة الحمل، وهو ما سيكرره أبو حافظ أيضاً. *** تلك صور ومقامات شتى لحضور شهر رمضان في الرواية العربية. وقد توزعت بين الأسرة والمجتمع، وبين الإنسان والحيوان، وبين الماضي (التاريخ) والحاضر، حيث تعلقت الصور والمقامات بالحرب والسياسة أيضاً. ولئن كان كل ذلك يثير السؤال عن هامشية الحضور الرمضاني روائياً، فالجواب يتطلب ــ كما أشرت في المقدمة ــ النظر في مدونة روائية كبرى، والنهوض به هو أكبر مما يمكن لمثلي، دون أن يقلل ذلك من مصداقية تمثيل الروايات الست المعينة فيما تقدم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©