الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

يوبيل التسامح لدى المسلمين

يوبيل التسامح لدى المسلمين
18 يونيو 2015 00:28
دوافع كثيرة تقف وراء الصوم: دينية، اجتماعية، سياسية، نفسية، أخلاقية، صحية، فئوية، فردية.. فأحياناً يحرن ولد لا يتجاوز الخامسة من عمره ولا يتناول طعاماً لأن أخاه صفعه أو لأن أباه لم يشتر له عصا يجعلها حصاناً في ساحة القرية، وبعض الأطفال المعاندين يستمرون في الامتناع عن الطعام أكثر من يوم. ويمكن ذكر الكثير من هذه الأنواع ابتداء من حرون الطفل حتى الصيام الراقي الذي أعلنه غاندي في السجن، لممارسة أنصاره العنف. وفي السجون السياسية نسمع كثيراً بالصوم احتجاجاً على ظلم أو تقصير أو ما شابه ذلك، كما فعل الزعيم الزنجي مالكولم إكس احتجاجاً على التمييز العنصري، وفي السجون الإسرائيلية الكثير من الأمثلة... قد نجد حالات فردية جداً، ليس فقط عند الأطفال، بل عند الراشدين، فهذا صام للتخلص من مرض كبدي، أو وجع معدي أو قوباء جلدية، على الرغم من أنه يتعاطى الأدوية اللازمة من نطاسي مختص بهذا المرض أو ذاك. يبدو أن هناك بقايا عقيدة من العقل الجمعي نحتفظ بها، تعود إلى آلاف السنين، بأن الصوم يخلص الجسد من الآفات والآلام.. وقد نرى من نسميهم «الحسابين» أو «البرّاجين» أو «المغاربة» يعمدون إلى بعض الطرائق الخاصة قبل التصريح بما يتراءى لهم، زاعمين أن متخم الكرش تفوته الرؤيا، وما أقربهم إلى الصوفيين في هذا. هناك دوافع يعتقد أنها لاتزال باقية في الأديان الحديثة من الأديان القديمة، ففي الأديان القديمة كانت عملية التنسيب تفرض على المنتسب أن يصوم، حتى تصفو نفسه ويصبح مهيأ- إلى جانب مراسيم أخرى- للانتساب إلى الدين الجديد. وفي حالة الصوم يجري التأكد من أن جسده صالح صحياً للصوم. ولا يعرف الباحثون إن كان المنتسب يمارس رياضة روحية تصله بعالم الغيب أثناء الصوم، أم أنه ترويض جسدي حتى تضعف إرادته ويكون متلقياً إيجابياً للعقيدة الدينية، ويرى مارسيا إلياد أن هناك مقاصد عدة لهذا الصوم. وفي الأديان الحديثة هناك صوم طوعي يقوم به الشخص من دون أي تكليف ديني، مع استخدامه الليتورجيا، فعندما سحبت السلطة في أوائل خمسينات القرن الماضي إلى الخدمة الإلزامية القرعة الأولى غادر القرية عدة شباب، صارت أم أحدهم تصوم صوماً صارماً وتواظب على صلاة الأحد، ولم تكن تفعل ذلك من قبل. ولما سألها خوري الضيعة عن هذا «الإيمان الجديد» أجابته لسلامة ابنها، فعاتبها الخوري «يا عيب الشوم، هذه رشوة لا يقبلها الرب، صلي من أجل سلامة الجميع» فقال زوجها: «إنها تقلد داود الذي ظل يصلي ما دام ابنه مريضاً، فلما لم يشف ومات في اليوم السابع قام واغتسل وتطيب وأكل، كما ورد في سفر صموئيل الثاني». إذن، هناك العديد من الدوافع الخاصة، في العصور القديمة والحديثة، في حالات كثيرة التنوّع... من غير تكليف ديني، كلٌ بحسب اجتهاده، وخلاصة ما نريد تأكيده أن الفرض الديني ليس دخيلاً على الطبيعة البشرية، بل ربما قسا الصائم المجتهد على نفسه أكثر بكثير مما دعاه إليه دينه، وتاريخ النساك مليء بالأمثلة. خارطة الصوم القديم الصوم شرقي المنشأ، يقال إنه يعود إلى الديانة المصرية وربما في الديانة البوذية القديمة، ومن الصعب التمييز بين الصوم في العهود البدائية والصوم في العهود الدينية، ولكن الصوم انتشر انتشاراً واسعاً في البلدان الشرقية، فمعظم دياناتها تعتمد الصوم، إلى جانب أنواع أخرى من التطهر وتنظيف البدن والروح. إلا أن هناك ديناً حارب الصوم محاربة شديدة، وهو الزرادشتية، فأتباعه كانوا يولون الطعام عناية خاصة استعداداً للمعركة الكبرى القادمة بين أهورامزدا وأهرمان، بين إله الخير وإله الشر. وساعد هذا في بناء أجسام قوية استغله ملوك الفرس في إعداد جيش ضخم أمكنهم من بناء أكبر إمبراطورية في زمنها. وهناك أنواع من الصوم في أمريكا، وبخاصة في البيرو والمكسيك، تعود إلى الشرق باعتبارها شعوباً شرقية الأصل. أما في الغرب فلم يعرف الصوم في الميثولوجيا اليونانية، التي عمت أوروبا فيما بعد، كان مقتصراً على العرافين، بتقاليدهم الخاصة، وعلى متلقي الوحي، أو متلقيته، في المعابد الموزعة في جرود المدن. يقال إن هناك صوماً ظهر في الفرقة الدينية التي اتبعت تعاليم أسكولابيوس، وهو صوم صحي، أو المرجح أنه كان صحياً. أما الفيثاغورية، فقد جاءت من الشرق وعادت إلى الشرق، ولم تظهر حركات نسكية قوية في أوروبا ليرافقها صوم نسكي، كما في مصر والهند. الحركات النسكية تأخرت إلى ما بعد انتشار المسيحية، وبرزت جداً في حركة العموديين في الشرق، وامتدت من شمال سورية حتى أقاصي صحراء مصر. وهناك تشابه بين الميثولوجيا الإسكندينافية والديانة الزرادشتية، فما عرف الشماليون صوماً، بل بالعكس، كانوا يستعدون للمعركة الفاصلة بتربية جسدية قاسية، فحتى الفالكيرات كن محاربات. لكن لم يعرف أن ربهم الأكبر أودن تناول طعاماً. ويبقى هناك قاسم مشترك بين كل الأديان الطبيعية وهو موت الطبيعة (إله الخصب والإنبات) وعودتها (عودته من تحت الأرض) سواء تجلى ذلك في تموز أو برسيفوني أو ديونيسيوس... أو أي إله آخر. وهناك إجماع بين الدارسين على أن صوم الصيد (أي الامتناع عن الصيد) يكون في الوقت الذي تتجدد فيه الطبيعة، احتفالاً بعودة رب الخصب، ويمتد «صوم الصيد» أربعين يوماً وأحياناً أكثر. خارطة الصوم الديني لا يوجد تكليف ديني في اليهودية إلا صوم عيد الغفران. أما ما تبقى فمن وضع الكهنوت اليهودي. أما في المسيحية فلا يوجد تكليف ديني في الصوم. كانوا يصومون أربعين ساعة، مدة الغياب في الضريح، لكن المؤسسات الكهنوتية في القرنين التاليين جعلت الأربعين ساعة أربعين يوماً. وفيما بعد جعلت للميلاد صوماً ولكل قديس صوماً، حتى كادت أيام الصوم تربو على أيام السنة. وتراجعت الكنيسة الكاثوليكية عن تشددها فجعلت الصوم اختيارياً في منتصف ستينات القرن العشرين. أما البروتستانتية فمنذ نشأتها جعلت الصوم اختيارياً، سوى أن بعض المتشددين من البروتستانت، وبخاصة الحركة البيوريتانية، وقفت ضد أي صوم، لعدم وجود نص مقدس يفرضه. وتحوّل اهتمام هذه الفئة، أو الفئات، من الفروض الكهنتوية إلى الفروض الدينية النابعة من النصوص المقدسة، وشددت على أخلاقية السلوك البشري، لخلق علاقات سليمة بدلاً من تلك الفروض النافلة التي وضعها رجال الدين في العصور الوسطى. حتى منتصف القرن الماضي كنا نلاحظ التشدد الديني لا يزال فعالاً، فمن لا يصوم، ويكون عادة رقيق الالتزام بالتقاليد الدينية، يقابل بما يشبه المقاطعة من أبناء الضيعة (لم يكن ذلك ظاهراً في المدن) وأحياناً لا يمرّ المتشددون على منزله لمعايدته تأديباً له. الجزيرة العربية في الإسلام هناك تكليف ديني، ولكنه لا يرتبط بمناسبة شخصية أو غير شخصية، وإنما غايته خلق نوع من العلاقات السليمة بين أبناء الدين الواحد، من غير أذى لأي دين آخر، ولولا الإسلام لما استمر دين من الأديان في جغرافيا الإسلام. فرمضان صوم لا يخالف الطبيعة البشرية ولا بيئة الجزيرة العربية، التي يحاول بعضهم تصويرها كأنها فوضى وجهل واعتباط... بل عرفت الجزيرة العربية أرقى أنواع تنظيم الجماعات، فكانت هناك أشهر حرم، يتوقف فيها القتال والصيد، لا صيد المواليد الجديدة من الطير والحيوانات فقط، بل أيضاً يتوقف صيد الأمهات، لتربية المواليد. وبما أن هناك مواسم طبيعية في كل الفصول (كالحل والترحال والحج وتقلبات الفصول) فقد توزعت الأشهر الحرم بحيث تحافظ على البيئة الطبيعية والبيئة البشرية. وبالطبع تباح الحرب الدفاعية في الأشهر الحرم، ولا يعتبر ذلك خرقاً. أما إن كانت الحرب مقصودة فتسمى حرب الفجار. وأيام الفجار معروفة ومرصودة في كتب التاريخ. هذه الأشهر الحرم (وأضيف إليها رمضان بعد الإسلام) بعددها الكبير وتوزيعها على فصول السنة، لا مثيل لها في العالم أجمع، إنها أرقى ما وصلت إليه المجتمعات في العصور الوسطى. نبع هذا التكليف المقدس من التراث الإنساني عامة، والبيئة العربية خاصة، فالصوم الرمضاني، لا يكلف من يصاب بضر من الصوم، أو من يعجز عنه، كما في الحج والزكاة، فما المقصود إذلال الجسد، وإنما الحدّ من الجيشان الاجتماعي والعودة إلى الهدوء والتأمل والتروي لتنمية علاقات المودة واللحمة الاجتماعية، لتأكيد التواصل النبيل بين الناس. ورضا الله والرسول مطلب يقصد منه هذا الجوّ، لصالح الجماعة، وإلا فما أغنى الله عن صلاة العبد!. إن رمضان من أهم أسباب لحمة العرب والمسلمين، بدءاً من ذوي القربى، وحتى آخر الأصدقاء، وهل أفضل من أن يكون هناك شهر للتسابق على الخير والتعاون ومساعدة المحتاجين وتقوية الإرادة البشرية؟!. ولو أردنا أن نقارنه بما سبقه لما وجدنا له مثيلاً في المرونة والتسامح وتهيئة جوّ الألفة والتعاون والبرّ والصدق... وإذا كان لابد من المقارنة فيمكن القول إنه «يوبيل» المسلمين، ففيه يتم التسامح والمصالحة ومساعدة المحتاجين وزيارة الأقارب والمعارف، مما يهيئ النفس لاستقبال نشاط جديد بعيداً عن أي تعقيد، فكأن هناك نشوة روحية جماعية يبعثها رمضان بعد مصالحة الصائم مع النفس ومع الآخرين، وبعد أن تجعله الزكاة راضيا عن عمله وكسبه. ومن واجب المسلم أن يؤدي الزكاة قبل حلول صلاة العيد، وإلا عدّت صدقة. ورمضان يأتي في كل عام وتطبق أحكامه وتقاليده بمعظمها، بينما لم يذكر المتخصصون بالدراسات الدينية والتاريخية أن اليوبيل طبق، وبخاصة يوبيل الخمسين، مما جعلهم يرجحون أنه كهنوتي. وبما أن رمضان قمري فلا بد أن يمرّ بكل الفصول، بما تفرزه الأجواء المتغيّرة من قضايا جديدة. إن رمضان هو يوبيل العرب والمسلمين، ولولاه لكان لنا تاريخ آخر وقصة أخرى، ربما انتهت فصولها بعد الخلفاء الراشدين، من غير أن تظهر معجزة الجزيرة العربية. إننا مدينون لرمضان بهذه الاستمرارية في التسامح والرحمة والتصالح مع الآخرين ومع الذات، ولا عجب إن قال غوستاف لوبون: «لم يعرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب» فلولاهم لما بقيت الأديان والطوائف والمجموعات الأخرى، ولا انتقلت مكونات النهضة إلى الغرب. وعيد رمضان عيد محتشم، فلا تقام الاحتفالات الفاجرة والأفراح الصاخبة في يوم العيد، وإن كانت الأماسي الرمضانية قائمة في كل أيام الصوم ضمن مراعاة التقاليد. وكنا من قبل نسمع الكثير من المآخذ على هذه الحشمة، أما اليوم فصرنا نسمع بانتقادات ضد الكرنفالات الضخمة، وما فيها من تبذل واستهتار، واستسلام للغرائز الدنيا، ومبالغة في البهرج (وبصورة خاصة في كرنفالات أمريكا اللاتينية، وأهمها كرنفال ريو دي جانيرو المشهور، وثلاثاء المرفع في ألمانيا، حيث يطلق على أيام الكرنفال الثلاثة اسم «الأيام المجنونة» فيمارسون ما لا يمارسونه في الحياة العادية) بل هناك ميل دائماً إلى الحشمة حتى في الأفراح، ورمضان مثال أعلى في نشوة الروح وراحة الجسد وطهارة القلب، بلا تبذل ولا استهتار ولا مبالغة في شيء. وقد أبدى كثير من أهالي أمريكا اللاتينية ذوي الأصل العربي استياءهم من تقاليد تلك الكرنفالات التي لا تليق بالكرامة البشرية، مقارنة بتقاليد رمضان المحتشمة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©