حنا عبود
لمزيد من التحديد نشير إلى أن الكلام من وحي تجربة جيل من عرب الشمال في النصف الثاني من القرن العشرين، جيل الوعي القومي الهائج والتجارب الخائبة والآمال المهشمة. وربما كانت الخيبة أننا فشلنا- أو أخطأنا أو بالغنا أو تهاونا...- في تحديد هوية الانتماء، فلم يكن لنا آباء محددون، ولا أجداد معبودون، بل خليط من الغرب والشرق، ما هب ودب، من غير تمييز بين ثقافة الانتماء وثقافة الاحتواء، مما جعل الهوية العربية شعاراً لفظياً، ليس فيها خطوط عميقة، ومعالم بارزة.
انجرفنا مع الأفكار القومية نظرياً، ورحنا نختار أي بارقة شعرية أو سيرة أدبية تفيدنا في «مسيرتنا» القومية، حتى أننا خوّنا امرىء القيس لاستنجاده بقيصر، وشتمنا أبا رغال. أما عملياً فكنا مثل الفراخ التي تركض وهي مذبوحة... لا تخطيط ولا هداية عملية، مما أتاح للانقلابيين ولصوص الانزلاق، الدخول من الباب العريض، يرددون باللسان أصداء الصرخات، وبالأيدي ينتزعون الحناجر. بالأمل نُستدرج فنرقص بالبيارق، وبالخيبة نعود بها صفراء مبرقعة، فرحنا نتلهى، كذي الرمة، بلقط الحصى والخط في الرمل، فجمعنا الشيوعية والقومية والإنسانية والوجودية وكل ثآليل الفكر الإيديولوجي... في كيس الساحر، ولم نقدر أن نخرج شيئاً منه، في حين كان «الكبار» ينفذون بالزومبي ما خططوه... وعندما علمتنا الخيبات المتكررة شيئاً، مما سميناه وقتها «الانتقاد الذاتي» كان القطار قد فاتنا، وحلّ عصر العولمة.
![]() |
|
![]() |
نظرنا إلى الواقع نظرة مثالية، فطمسنا معالمنا الحقيقية، وبالطباشير رسمنا صورة الغد الوهمية، واتخذنا الشعارات الهلامية عكاكيز لتجسيد القومية، كالوحدة والاشتراكية... وانجرفنا وراء ما صوّرته أوهام انفعالاتنا، من غير أن نضع الأساس المادي، فأدينا التباريح، وجلسنا إلى الولائم ورحنا نرقص في التفاريح على وهم النصر، وبدر الجمالي يدير رقصة المقابر استعداداً لمباشرة المجازر. واليوم ننظر فإذا الهوية مطموسة، وإذا الذين كنا نستخف بتجربتهم في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية أوعى منا وأفضل. كنا نهزأ من الأفريقيين كيف يؤمنون بأن أجدادهم يزورونهم في المناسبات والأعياد، يطوفون أرجاء القبيلة، ويتفقدون أمورها، واليوم لم يزرنا الأجداد، ولا نحن زرناهم، لأن الاندفاع رفع رؤوسنا كثيراً فلم نر ثعابين الأرض في الأرض تسعى.
![]() |
|
![]() |