الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هويّات ذائبة

هويّات ذائبة
4 أكتوبر 2017 20:31
عبد السلام بنعبد العالي الحديث عن الهوية حديث عن المحدِّدات والمميزات والخصائص، حديث عن الروابط والعلائق، عما يوحّد ويَجمع، لكنه كذلك حديث عما يفرّق ويفصل ويميز، إنه إذاً مَوْقَعة ورسم على خريطة جغرافية وسياسية، لكنها أيضاً وربما أولاً، خريطة ثقافية، بما تفترضه الخريطة من خطوط مرجعية، ومن معالم بدلالتها تُرسم الحدود وتُقاس المسافات. حتى وقت غير بعيد كان يبدو من قبيل المشروع التساؤل عما يميزنا ويحددنا، عما ومن يطابقنا، ما ومن يخالفنا. كنّا نحاول تحديد ذواتنا، فردياً وقومياً، داخل عالم محدَّد المعالم. كنا نبحث عن مكان في رقعة مرسومة مُبَوبة، رقعة «معقولة» كان من السهل أن نتخذ مكاننا فيها، فكنا شرقَ غربٍ أو جنوب شمالٍ أو ثالث اثنين، أما اليوم فإننا أصبحنا نتساءل عن الحدود في عالم بلا حدود، ونبحث عن مرجعية في فضاء بلا مرجعيات، وعن لون خاص في عالم بلا ألوان. ما يميز عالم اليوم، أي العالم وقد اكتسحته التقنية، هو غياب الاختلاف، وسيادة التنميط والأحادية. إنه الانتشار الموحَّد لنماذج التنمية والمخططات وتطور أدوات التواصل واكتساح الإعلاميات لكل الحقول، وفرضٌ لمفهوم جديد عن الزمنية، كل هذا لم يعد يخص منطقة من مناطق العالم دون أخرى. إنه العالم المعولم. الكونية لا هوية لها، بل إنها هي التي تحدد اليوم كل هوية. *** الدعوات الأيديولوجية التي تكتفي بتحديد هوية موهومة لتجعل من كل ما عداها آخر، تتناسى، أولا وقبل شيء، العمل الجبار الذي يكون على الذات أن تقوم به لتجعل من الغير آخر«ها» وتتمثله. وهو تمثل أكثر عسراً وعناء من «التمثيل» الطبيعي الذي تقوم به الكائنات النباتية، خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار أنه يجمع بين عمليتي الإدخال والإخراج، التملك والفقدان، التّذويت والموْضعة في الآن ذاته. *** «تملك» الغير هو في الوقت ذاته فقدان وخروج وانفتاح، لكنه أيضاً تمثل واستيعاب: إنه عملية هدم وبناء، تشييد وتقويض، إيجاب وسلب، نفي وإثبات. وهو سعي نحو خلق ما سماه أحد الروائيين الجزائريين مؤخرا: «الغريب الذي يسكنني» L’intranger. *** لا يغدو الغير آخر تلقائياً، فكما أن الذاتي ينبغي تملُّكه، وكما أن الهوية يلزم اكتساحها وغزوها، فإن الغير لا يغدو آخر إلا إذا حُوِّل عن تحديداته المهيمنة. الآخر هو المجال المفتوح لانفصالي اللامتناهي عمّا عداي والتقائي اللامتناهي معه. *** الانفتاح و الانفصال واللاتناهي، مفاهيم تُبعد الهوية عن كل تخشّب واستقرار وثبات، بل وتنفي عنها الانغلاق والتوحّد فترمي بها في تعدّد لا متناه. *** ليست الهوية هي التطابق. على عكس التطابق، فإن الهوية ترعى الاختلاف، وتترك للتفردات نصيبها في الوجود، بل إنها لا تقدم نفسها إلا كحركة لا متناهية للضم والتباعد. أما التطابق، فلا يكتفي بأن يضم كل التفردات في كل موحِّد، بل إنه يلغي أغلبها، ويقضي عليه من أجل إعلاء عنصر على حساب العناصر الأخرى. *** نحن أمام شكلين من أشكال التوحيد، أمام مفهومين عن الوحدة: وحدة تعددية، وأخرى اختزالية لا تقوم بعمليات جمع وضمّ، وإنما بعمليات قسمة واختزال. هناك ما يمكن أن ندعوه التوحيد الميتافيزيقي، ما يميزه أنه توحيد اختزالي هدفه إرجاع العناصر جميعها إلى عنصر أساس وردها إليه، بحيث لا تغدو العناصر الأخرى تفردات تقوم إلى جانبه، وإنما فروعا تصدر عنه. هذا التوحيد هو، في نهاية الأمر، إلغاء للتعدد واختزال له. عن طريقه تؤول العناصر العرقية واللغوية والحزبية والطائفية... إلى أصل أساس، لا يجمع العناصر الأخرى وإنما يلغيها و«يختزلها»، أو يردها إلى مرتبة ثانية ورتبة تالية وموقع ثانوي. *** موقف مخالف عن الوحدة لا يختزل العناصر، وإنما يترك لكل عنصر نصيبه من التميّز، ويتيح للعناصر جميعها حرية الحركة. هاهنا لا يتعارض التوحيد مع التعدد، وإنما يضمه ويحتضنه. نحن إذاً أمام توحيد لا يصالح بين الأضداد، وإنما يعرضها أمامنا متباينة مجتمعة في الحضور ذاته. إننا أمام وحدة لا تتوخى لحظة التركيب، واختلاف لا يرتد إلى التناقض، وهوية لا تؤول إلى تطابق. ليست علاقة الوحدة بالتعدد كعلاقة الكل بالأجزاء، أو المجموع بمكوناته، وإنما كعلاقة الهوية بالاختلاف. فالاختلاف لا يكتفي بأن يقر بتبعثر الكائنات وتمايزها و«تشتّتها»، وإنّما يجرّ بعضها نحو الآخر، فيوحّد بينها بفعل هذا التباعد ذاته. *** يقول هيجل: ليس هناك تعدد أشياء متعددة، وأحوال متناهية، فحسب. بل إن كلاً من هذه الأشياء يدخل في علاقة مع الأشياء الأخرى، مع كل الأشياء الأخرى، بحيث يكون تميّز الشيء تميزه عن كل ما عداه: «فالتميز العام للشيء هو الذي يربطه بالكون كله، وهو الذي يرد الاختلافات إلى الاختلاف الجوهري الباطني، أي اختلاف شيء أو تعيينٍ عن آخره». *** ليس السلب هو الذي يجيء من خارج، ليتعارض مع الذات. وإنما ذاك الذي ينخرها من «الداخل». لكنه داخل مجروح. السلب هو الحركة اللامتناهية التي تُبعِد الذات عن نفسها. فالمساواة (أ = أ)، كما يقول فوكو، تنطوي على حركة داخلية لا متناهية تُبعد كل طرف من طرفيها عن ذاته وتقرب بينهما بفعل ذلك التباعد نفسه. يتعلق الأمر ببعد إيجابي بين المتخالفين: إنه «البعد الذي ينقل أحدهما نحو الآخر من حيث هما مختلفان». *** يميز بلانشو المفارقة عن التناقض: المفارقة تقيم التباعد الذي لا يمكن قهره واختزاله. فالتباعد الذي يفصل، في التناقض، تعيينا عن آخر، يغدو في المفارقة تباعدا ينخر كل تعيين، ويعدّد كل وحدة، ليمنع التعيين عن التعيين، ويجعل الشيء في بُعد دائم عن ذاته. بينما يثبت التناقض (أ = لا أ)، فإن المفارقة تقول: (أ = أ). الصيغة الأولى إنما تثبت، في حقيقة الأمر، علاقة بين طرفين يتحركان نحو التطابق، ويسعيان نحو التوحيد والتركيب، أما الثانية فإنها تجعل كل طرف يفقد، بفضل الآخر، كيانه الذاتي. التناقض مجابهة تثبت فيها الأزواج طريقها نحو الوحدة، أما المفارقة، فإنها تعمل على تصدّع الوحدة ذاتها. *** ليس العود الأبدي للهوية عودة الأمور ذاتها، وإلغاء الاختلافات، إنه يعني على العكس من ذلك، أن الغرابة والاختلاف يثبتان في العودة وعن طريقها. فليست الذات ذاتية إلا في / عن طريق العودة التي لا تنفك تعود. وعندما قال نيتشه بالعود الأبدي فهو لم يكن يعني شيئاً غير هذا: إن العود الأبدي لا يمكنه أن يعني عودة المطابق مادام يفترض، على العكس من ذلك، عالماً يمّحي فيه التطابق ويذوب. العود الأبدي هو الوجود، ولكنه وجود الصيرورة. العود هو ذاته ما يصير. العود هو أن تصبح الصيرورة هوية. العود إذاً هو الهوية الوحيدة، ولكنها الهوية كقوة ثانية. إنها هوية الاختلاف.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©