الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أسئلة مفتوحة وقضايا متوارية

أسئلة مفتوحة وقضايا متوارية
14 يونيو 2012
يستهل فيلم “انفصال نادر وسيمين” للمخرج الإيراني أصغر فرهادي مشهده الافتتاحي بلقطات متلاحقة لآلة تصوير المستندات وهي تقوم بنسخ وثائق شخصية لزوجين يحاولان إيجاد حل لمشكلتهما العالقة في المحكمة، تتوالد شرارة هذه المشكلة عندما تبدي الزوجة رغبتها بالسفر خارج الحدود لتوفير فرص تعليم أفضل لابنتها الوحيدة، بينما يرفض الزوج السفر لأن والده العاجز والمصاب بالزهايمر بحاجة لمن يعتني به ويتابع حالته الصحية الحرجة. هذا الإشكال العائلي سيقود الزوجين إلى اللجوء إلى القضاء حيث تطالب الزوجة (سيمين) ـ تقوم بدورها ليلى حاتمي ـ بالطلاق، بينما يصر الزوج (نادر) ـ يقوم بدوره بيمان معادي ـ على عدم الرضوخ لشرط الزوجة القاسي والتي لم تراع من خلاله حالة والده المقعد والمريض. ومن هذا المدخل المقلق والمتوتر يشرع الفيلم الفائز في العام 2011 بالدب الذهبي في مهرجان برلين، وبجائزة الأوسكار هذا العام كأفضل فيلم أجنبي، في نسج خيوط الحبكة المتمهلة والمتصاعدة مع البناء التدريجي لحالة الشخصيات وما يعتمل في دواخلها من شروخ وصراعات وحيل ومناورات للخروج من هذه المتاهة الاجتماعية والمشاكل الأسرية المحيطة والضاغطة. تقلبات عنيفة وباستخدام تكنيك اللقطة المقربة والمتوسطة نبدأ بالتعرف على شخصيات الفيلم التي نطل من خلالها على إيران المعاصرة، حيث تتداخل ظواهر الإرث الديني الثقيل مع اقتراحات الحداثة وشروطها المقلقة لهذا الإرث، ويتناول الفيلم أيضا وبرمزية عالية الهوة الاجتماعية التي تفصل بين الطبقة الفقيرة والطبقة المتوسطة في المجتمع الإيراني وكيف أن هذه الهوة يمكن أن تزعزع وتخلخل مقاييس العدالة الاجتماعية والاستقرار الأسري وسط عالم خارجي يمر بتغيرات عنيفة ومكبوتة وكأنها تتصاعد من أحشاء بركان، ثم هناك مشكلة البطالة التي تضع عائلات كثيرة على حافة الشتات والحقد العام على الطبقة المتوسطة التي تتمتع بمزايا يفتقدها المهمشون الذين لم يحظوا بفرص التعليم العالي والحصول على وظائف تحقق نوعا من التوازن والرفاهية لهذه الطبقة. ولكن المقولة العامة للفيلم تؤكد وجود أزمات خافية ومتوارية تتعلق بطبيعة العلاقة بين أفراد الطبقة المتوسطة أيضا، والتي لا تخلو بدورها من احتياجات ومطالب غير متوفرة مثل التعليم المفتقر لشروط عديدة، وهذه المشكلة هي جذر وأساس الأزمة بين الزوجين، والمحور الذي تتوزع من حوله تفاصيل وحكايات الفيلم المنفصلة والمتداخلة في ذات الوقت. ينطلق الجزء الأول من زمن الفيلم مع اللحظة التي تقرر فيها سيمين ترك زوجها وابنتها ووالد زوجها العليل، واللجوء إلى عائلتها حتى تبت الحكمة في القرار النهائي المتعلق بطلاقها من زوجها نادر، في هذه الهدنة العاطفية أو المسافة الاختبارية، تتكشف لنا العذابات العميقة التي تعاني منها الفتاة الصغيرة (تيرمه) ـ تقوم بدورها سارينا فرهادي ابنة المخرج ـ والتي تتحمل الجزء الأكبر من تبعات هذا الانفصال، ومن جانبه يأخذ الأب نصيبه من الفراغ الكبير الذي تركته الزوجة، فيضطر لتوظيف من يهتم بوالده أثناء انشغاله بالعمل وذهاب تيرمه إلى المدرسة، وهنا نتعرف على الشخصية المحورية الثالثة في الفيلم وهي (راضيه) ـ تقوم بدورها الممثلة سارة بيات ـ والتي تعمل في منزل الزوج وتراقب والده الذي بات يحتاج لعناية خاصة بعد أن فقد كليا القدرة على التذكر أو التواصل مع العالم المحيط به، راضية بدورها تحمل الكثير من الضغوطات المتمثلة في بعد المسافة التي تقطعها كي تصل لمنزل نادر، وفي ضرورة اصطحاب ابنتها معها ومعاناتها من آلام وأعراض شهورها الأخيرة من الحمل، وهي المعلومة التي خبأتها عن نادر حتى تحظى بفرصة العمل، وحتى تستطيع الصمود وهي وعائلتها الفقيرة في وجه الجنون الاقتصادي والغلاء الفاحش للأسعار. رسائل وتأويلات ويستمر هذا الإيقاع الشقي والمرهق لكل الشخصيات المحركة لمسارات القصة، إلى أن يصل الجزء الأول من الفيلم إلى ذروته والمتمثلة في عودة نادر المفاجئة للمنزل ورؤيته لوالده وهو ساقط على الأرض ويده موثقة بعمود السرير، وفي فورة هيجان وغضب يستقبل نادر راضية، التي قالت إنها كانت مضطرة للذهاب كي تنهي مسألة ملحّة، نادر بدوره وفي ردة فعل عنيفة يقوم بطرد راضية ودفعها بقوة، وهي الحادثة التي تقودنا مباشرة إلى الجزء الثاني من زمن الفيلم، عندما تتصل سيمين بزوجها وتخبره بأن راضية ترقد في المستشفى، وهناك يكتشفان أن راضية أجهضت جنينها ذا السبعة أشهر، وبات على نادر أن يدفع عن نفسه تهمة قتل الجنين، وهي التهمة التي التصقت به إثر معاملته العنيفة لراضية وسقوطها على سلالم منزله، وتتكشف لنا في دهاليز وممرات وغرف المحكمة الكثير من التأويلات والرسائل التي أراد المخرج أن يمررها إلى المشاهد، كي يلخص المرارات والمصاعب والمتاهات التي تخلقها القوانين البيروقراطية والأنظمة الثيوقراطية السائدة في المجتمع الإيراني المحافظ. ووسط هذه المعايير الأخلاقية المرتبكة التي تبرز بقوة في ردهات المحكمة نتعرف على شخصية (حجت) زوج راضية ـ يقوم بدوره الممثل شهاب حسيني ـ والذي يبدو عنيفا في تصرفاته وفي ردات فعله المتأثرة بوضعه الاجتماعي المزري والمحاصر بالفقر والبطالة والديون التي تسببت أكثر من مرة في إيداعه السجن وفي تأجيج اضطرابه السيكولوجي وسلوكه المخيف والخشن تجاه المحيطين به، وهي عوامل ساهمت في لجوء راضية للكذب حول الحادثة الحقيقية التي أدت إلى الإجهاض، وإلى الكذب أيضا عندما لم تخبر زوجها بالعمل في منزل نادر منذ البداية، ولكن تحت ضغط الضمير الديني والمعتقدات الشخصية تعترف راضية في نهاية الفيلم، وعندما تضطر للقسم على القرآن، إلى أن حادثة الإجهاض كان سببها اصطدامها بعربة مسرعة في الشارع أثناء بحثها عن والد نادر الذي خرج بغتة من المنزل دون أن تلاحظ ذلك، وإن إهمالها في غلق باب المنزل كان سببا في كل ولادة هذه المأساة التي جرفت معها ضحايا وجدوا أنفسهم في دوامة هائلة من الإشكالات والتناقضات والآلام التي انبثقت فجأة وعبّرت عن الكثير من الجروح والشروخ المندسة في تفاصيل الحياة اليومية والعابرة، والتي تحتاج لمن ينظر لها بعين فاحصة ومتأملة حتى يتم تفسيرها وتحليلها، حتى لو جاء هذا التفسير من خلال الكاميرا، أو عين السينما التي تفتح أفقا مختلفا من التأويل والمعالجة الرمزية المرهفة والصادمة أيضاً. استطاع فيلم “انفصال نادر وسيمين” أن يحصد عدة جوائز عالمية مهمة على صعيد الإخراج والتمثيل والتأليف أن يلفت نظر النقاد لمخرج يعتمد “الواقعية الجديدة” كمنهج ومسار وأسلوب فني قادر على تفكيك التناقضات الفكرية والغوص في المعضلات الاجتماعية والقصص المتوارية والمؤلمة في إيران المعاصرة، وهو فيلم كما أشار المخرج أشبه بالتحقيق الذي لا نتعرف فيه على المحققين لأنه يقدم نفسه كقضية مفتوحة أمام المتفرج، بحيث يمكن لهذا المتفرج أن يكون شريكا في البحث عن مسببات وبواعث التقلبات الشخصية العنيفة، في مكان يبدو في ظاهره بريئا من تهمة تصديره لهذا النمط المتطرف من السلوكيات المعتمة والمشوهة، واستطاع الفيلم من خلال سيناريو محكم وحوارات مقتضبة ومعبرة عن دواخل الشخوص، أن يلامس خشونة الواقع كما هي، وأن ينسل بهدوء إلى غوامض النفس البشرية، وأن يقحم المشاهد في محاكمة علنية تقول الكثير وتخبئ ما هو أكثر وأصعب من البوح أو الحكم المباشر!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©