الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عالم خارج الذات

عالم خارج الذات
14 يونيو 2012
اصدر التجمع الثقافي في البصرة الطبعة الثانية من ديوان “غزالة الصبا” للشاعر العراقي كاظم الحجاج، باعتباره احدى المجموعات الشعرية المهمة في تجربة هذا الشاع، ويتضمن الديوان مجموعة من القصائد القصيرة جدا والطويلة التي كتبها الشاعر في تسعينيات القرن العشرين، وهذه قراءة لعالم الشاعر في هذه المجموعة الشعرية. يتشكل عالم الشاعر كاظم الحجاج في ديوانه “غزالة الصبا” من جمل وعبارات يغلب عليها بساطة التأليف ولغة يومية مألوفة، لبناء عالم قريب من مجريات الحياة في حركتها ورتابة إيقاعاتها، وهو لذلك ينشئ عالما موحدا فيه حنين جارف للحياة البسيطة المتآلفة والمتحابة، حياة العراقي الجنوبي الذي يقول على لسان عريف متقاعد اسمه حطاب: “لا ازرع من اجل الأكل، ولا للزينة لكني ازرع تعويضا”. الجنوبي النبيل ويتنكر لكل مزاج عكر رافضا الزيف والتزلف والخيانة، وتتضح وجهة نظر الشاعر في معظم قصائده التي تضمنها الديوان باتجاه يمجد حياة الجماعة، وهي وجهة نظر قارة اشتغل عليها الشاعر في معظم نتاجه الشعري فهو شاعر لا يملك هموما ذاتية خاصة بل تنحصر معاناته بمعاناة الآخر، المهمش البسيط من الناس، ولذا سنجد في صوره الشعرية وسرده الشعري وتقنياته التي تستفيد من السينما وبقية الفنون توظيفا موفقا لحياة الجنوبي النبيل والكريم وحامل المبدأ الإنساني، الذي يعلي رتبته في قصائده القصيرة والطويلة باتجاه تمجيد متخذا من همومه وضياع حقوقه وتبدد حياته أنموذجا للدفاع عنه مرة بالسخرية المرة من مضطهديه ومرة أخرى بوصف أعماقه وتشوفاته الصافية، بمفارقات يغلب عليها طابع المرح: “مثل خبز الأرياف خرجنا من تنانير أمهاتنا ساخنين ـ لأجل أن نلي .. بفم الحياة!”. انه واحد منهم، ابتدءا من “أنا هو السومري” الذي يهتف: “لأني نحيل لم أكلف الرب طينا ليخلقني”، وصولا إلى العريف حطاب الذي يقول”: “دخلت فيه الحرب، وألبسته طبع الجندي: وأنا فلاح يا بنتي، لكن الحرب قد تلبس فلاحا طبع الجندي وتنمر من يتردد في سحق النملة ويصير الشاعر قناصا!”. ولإيضاح عالم الشاعر هذا سنتخذ نماذج من ديوانه إيضاحا لوجهة نظره في حياة الناس الذين يدافع عنهم وبلسانهم متخذا من تقنية المفارقة الساخرة والمشاهد المكثفة الدالة إضافة إلى التقنيات العديدة التي استثمرها توكيدا على ذلك أنموذجا تطبيقيا بنية المفارقة يتضمن الديوان ثلاثين قصيدة قصيرة أغلبها قصائد تفعيلة، في حين تقتصر القصائد الطويلة على عدد قليل من القصائد، مما يعني أن هذا الديوان مكرس في بنيته الكلية على التكثيف العالي والتوهج والتركيز الذي تتسم به قصيدة النثر، وعلى الرغم من توفر الوزن في معظم هذه القصائد (بحر الخبب أو الرجز) فإن الشاعر يعمد الى عرقلة انسيابية حركتها باستثمار زحافات متنوعة بالحذف أو الإضافة إلى البحور الشعرية باتجاه الإبطاء، الذي يضعها ضمن إطار قصيدة النثر، ولينشئ مجالا بصريا وتأمليا لقارئ هذه القصائد.. ويلاحظ في بنية هذه القصائد أنها تعانق مجرى الحياة في حركته الرتيبة، وسيولة الزمن البطيء فيه، غير أن الشاعر يلجأ إلى المفارقة الساخرة التي تفجر الدلالة وتضفي على الجمل الشعرية الرتيبة حيوية فائقة وامتلاء يعلو بها الى مصافي الشعر الجميل. ونلاحظ ان بنية المفارقة الساخرة في شعر الشاعر كاظم الحجاج، لا تنتمي الى المفارقات اللغوية التي ابتكرها الشعراء العرب من خلال المجازات الشعرية المعروفة كالاستعارة والكناية والتشبيه وغيرها، بل تنتمي الى بنية الصورة الشعرية المستقاة من حياة الناس وتوظيف مفردات الطبيعة وغيرها مما يحيط بالإنسان أو استخداماته المتنوعة، اضافة الى المجازات الحديثة التي كرستها قصيدة النثر في الاستفادة من الفنون المجاورة كالسرد والسيناريو والحوار، كما أن هذه المفارقة تبنى بالتحديد في قصائده القصيرة باستثمار الصور الحسية التي توفرها الكائنات الطبيعية كالنبات والحيوان أو من خلال اشتقاقات مبتكرة من اللغة لتكريس علاقات غير متجانسة لتصبح متآلفة ضمن النسيج اللغوي للقصيدة من خلال صور حسية محسوبة بدقة وذكاء. ففي قصيدة توحيد يتصاعد نداء موجه الى (قريتنا) بصيغة الحكمة الشعبية كي توحد أبناءها (يا قريتنا لمي ابناءك ايًا ما كانوا..) بمفارقة يستعيرها من الطبيعة مجسدة بحب الرمان (مجد الرمانة حب الرمان) ليتوحد العنوان والمتن الشعري والمفارقة في كل واحد، يصبح فيه النداء موجها نحو التوحيد بالمشاهدة الذكية التي ترى في أمر طبيعي هو احتشاد حب الرمان مع بعضه دالة على إمكانية توحيد البشر على الرغم من أن العلاقة بين حب الرمان ونداء الشاعر علاقة اعتباطية لا يحكمها رابط سوى إضافة كلمة (مجد) المجردة من التشخيص المحسوس إلى مفردة الرمانة لينقلها من شيء جامد إلى فضاء الأنسنة الدال. جمل مشهدية وفي قصيدة “الفجر” يطمح العنوان بحمل دلالة أعمق تخص المستقبل المشرق بإنشاء جمل مشهدية ذات أفعال منفية بما النافية واداة الجزم (لم) تصور حشودا ساكنة وغير فاعلة من الفلاحين والعمال والرعاة وحشد من الجميلات باستثمار واو العطف التي تسهل الانتقال من مشهد ساكن إلى آخر مثله وصولا إلى جملة المفارقة التي تعلن: “فأن صياح الديك وحده لن يصنع فجرا جديدا” ونلاحظ في بنية جملة المفارقة تمردها على الجمل السابقة عليها التي تجيء كتفسير او لتدشين معنى محدد يريده الشاعر، وهذا التمرد يتجسد في المعاني والدلالات التي تنتجها جملة المفارقة إذا قرأت لوحدها، فجملة المفارقة في قصيدة توحيد (مجد الرمانة حب الرمان) هي جملة شعرية مكتفية بذاتها ولا تحتاج إلى ما قبلها كي تنتج دلالة التوحيد فكلمة (مجد) المستعارة من سياق آخركما اسلفنا يضفي على ذلك دلالات متنوعة. وفي قصيدة “تبشير” التي تصف فتاة في غاية الجمال يمكن حذف كثير من العبارات والاكتفاء بعبارة: “اينما مشت تتردد من حولها سبحانك” وفي قصيدة “ورق الأربعين” يمكن الاكتفاء بعبارة المفارقة: “كن مرة شجرا شجاعا واتحد ضد الخريف...”. كإشارة للتمرد على خريف العمر غير أن فصل جملة المفارقة الساخرة عن بنية القصيدة سيكون صعبا في قصائد قصيرة أخرى مثل: رفض، جنوبيون، مراهقة، أجزاء المرآة وغيرها.. فهي تؤكد كلا منسجما ومتحدا بشكل كبير. وملاحظتي عن تمرد جملة المفارقة تؤكد قوة بنية المفارقة نسبة الى الجمل الشعرية المصاحبة في القصيدة الواحدة وهي دالة أخرى على قوة بصيرة الشاعر وقدرته الكبيرة على النفاد إلى عمق الأشياء وتطويعها شعريا، لاجتراح مجازات مبتكرة يتميز بها الشاعر كاظم الحجاج دون غيره من الشعراء، ونلاحظ أيضا أن الشاعر يهتم بالتوصيل وهو يكتب لجمهور واسع من الناس أكثرهم من الطبقات الفقيرة. القصائد الطويلة يكرس الشاعر قصائده الطويلة نسبيا إلى ترميم عالم الناس المغلوبين بالاستفادة من تقنيات فنية كالحوار في قصيدة “لقاء إذاعي” أو السيناريو في قصيدتي “مساء ـ داخلي” و”سيناريو موت جندي” أو دمج التقنيتين في القصائد الأخرى. وفي كل هذه القصائد يلجأ الشاعر إلى تقطيعها بمقاطع على شكل مشاهد حوارية أو مشاهد مصورة تعتمد المفارقة أيضا في انتقالها من المألوف إلى اللامألوف، ليؤثث عالما بعيدا عن الحروب الخاسرة دائما والتهميش والقتل، وليمجد من خلال هذه القصائد علاقات الصفاء والخجل البصري والحكايات الأليفة التي نتعرف على تفاصيلها في أجواء قصيدة غزالة الصبا حيث: “جارنا لا يسلًم من قلبه! في زمان الشناشيل كنا نسلًم من قلبنا! وخدود البنات لم تعد تتورد من خجل صرن يصبغنها”. وهي عودة الى ماضي المدينة بعلاقاته الريفية البسيطة. وفي قصيدة “سيناريو موت جندي في أرض أخرى” نتحسس سخرية الشاعر من النصر المهزوم حين تظهر الكاميرا خوذا خلفتها الهزيمة يرتبها نسق صارم ـ كما تقول اللقطة الأولى ـ وتقود تقدمها..سلحفاة. وخلال ست عشرة لقطة سينمائية تتنقل الكاميرا بين بيت الجندي القتيل وبين ساحة المعركة في تناوب دال، يكثف فيه الشاعر مأساة الحرب على الجانبين، وتلخصها لقطات دالة على الخراب والضياع: “حين يموت الجندي غريبا في ارض أخرى قد يحسد قاتله الموعود بموت لا غربة فيه”. أو هذه الحكمة المستخلصة من الموت في الحرب نهاية القصيدة: “ما يدعى نصرا في كل حروب التاريخ لا يعدل نصر الأم تحدق في المولود الخارج... توا”. أما في قصيدة من ألواح الشاعر السومري “أنا هو” فيكثف الشاعر خلاصة بحثه المضني عن إنسان الجنوب منذ العهد السومري، وفي هذه القصيدة وغيرها استعارات ومجازات مبتكرة وخاصة تضاف الى قاموس ابتكارات الشاعر الذكية والطريفة افي آن بعضها يشتقها من اللغة: “تبصر تعني: كن بصريا” أو هذا الاشتقاق الطريف: “فالصيف يذكر كل الدنيا ببلادي ولهذا... صيف الأوربيين summer!”. أو هذه الصورة الجميلة: “يا أنا هو.. وكلاب الجنوب تنبح الضيف وسط الظلام.. وتمسح أذياله في النهار!”. ان عالم الشاعر كاظم الحجاج شديد الخصوصية باساليبه المبتكرة ومجازاته التي تميزه عن غيره من الشعراء، وهو عالمنا الذي يتحدث عن همومنا وتطلعاتنا ويحمل عبء آلامنا بلغة لا تفتعل الغموض او التعقيد، تطمح الى تواصل المتلقين معه في رحلة ساخرة ينتصر فيها لحياة المظلومين وبسطاء الناس.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©