الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

من ألواح الطين إلى «آي باد»!

من ألواح الطين إلى «آي باد»!
14 يونيو 2012
منذ أن شهدت التقنية الحديثة تطورات متلاحقة خاصة في مجال الاتصالات، وبدأ استخدامها في وسائل الإعلام، وبدأنا نسمع عن ما يسمى بالصحف الإلكترونية، والحديث لا ينقطع بأن هذه الأخيرة سوف تلغي الصحف الورقية. مضت أعوام والتقنية على مختلف توجهاتها - خاصة في مجال الإنترنت - تزيد من رسوخها، بل باتت أكثر شعبية وفي متناول أيدي الجميع، ولم تعد النخب أو المهتمين هم من يستخدمها وحسب، فجميعنا نشاهد الأفراد على مختلف ميولهم وجميع مستوياتهم وطبقاتهم يشاهدون الأخبار والتحليلات بواسطتها، بل حتى الأفلام وكافة المواد السمعية جميعها تشاهد ويستمع لها بواسطة الهواتف الذكية التي هي أشبه بالكمبيوترات الصغيرة - إذا لم تكن فعلا كمبيوترات - فما الذي يجعل هذا الشغف بمتابعة الصحف الورقية مستمر؟ وما الذي يجعل لها هذا البريق والإقبال المستمر؟ برغم هذا التساؤل فإن صناعة النشر بأسرها تأثرت بنمط هذه التطورات التقنية، كذلك سمعنا عن عقبات وصعوبات تواجه النشر الورقي، والمختصين يصفون هذه المرحلة بأنها مرحلة دامية في هذه الصناعة، وأنها تواجه عدة معضلات: فمن ارتفاع قيمة الورق مروراً بارتفاع أثمان الأحبار والمواد التي تستخدم في الطباعة، إلى عزوف لدى القراء، فضلاً عن مشاكل التوزيع المعتادة. احتضار وولادة يقول أحد الناشرين، إن العرب يوصفون بأنهم أمة لا تقرأ فكيف هو الحال الآن؟ وهو يشير إلى أن المشكلة سوف تزداد تعقيداً. من هذا السيناريو يحلو للبعض وصف مستقبل صناعة النشر الورقي بالمظلم، وأنها تتجه نحو الإفلاس والتوقف. أصحاب هذه النظرية يستدلون بإجراءات اتخذتها عدة صحف عريقة في العالم مثل “الواشنطن بوست” و”التايمز” و”الفايننشال تايمز” و”وول ستريت جورنال”، وغيرها، حيث توجهت لنشر محتواها إلكترونيا وبيعه، وبدأت صحف أخرى الاهتمام بشكل مماثل بصناعة النشر الإلكتروني والبيع بواسطة الإنترنت. أما في الوطن العربي، وخاصة في دول الخليج، فتطالعنا الصحف اليومية بمواقع في غاية من جمال التصميم وتقنية متطورة تساعد على التصفح والبحث عن المعلومات والتفاعل مع الجمهور. وعلى الرغم من كل هذا، فإن الكتاب الورقي أو الصحيفة الورقية لهما حضورهما، ولهما مكانهما في عقولنا، ولا يمكن أن نتخيل أن يأتي يوم ونستغني فيه عن الجريدة والكتاب في صيغتهما الورقية. ولعلنا نتذكر بأن الصحافة الورقية قد تم التنبؤ بوفاتها منذ عقود طويلة، أي منذ أن ظهر الراديو أولاً، ثم تلاه التلفاز، ثم الكمبيوتر وتطوراته المتلاحقة في عالم شبكة الإنترنت. ولقد توفي منذ ذلك الحين من تبني تلك الآراء وبقيت صناعة النشر الورقي ماثلة حتى اليوم، وكأنها صناعة تمرض، كما حدث لها عبر كل العصور، لكنها لا تموت. لكن ينبغي ألا يجعلنا عشق الكتاب، أو الصحيفة الورقية، والاعتياد عليهما، ينسينا الخطورة الفعلية التي تحيط بهما وبمجمل هذه الصناعة، حيث تقول جمعية الناشرين الأميركيين: “إن مبيعات الكتب الإلكترونية في أميركا تخطت مبيعات الكتب الورقية خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام 2011”. وقبل عام لا أكثر كان حجم تجارة الكتب الورقية تزيد ثلاث مرات على تجارة الكتب الإلكترونية، وتزيد مبيعات شركة (أمازون) من الكتب الإلكترونية الآن على مبيعاتها من الكتب الورقية. ومن المتوقع أن يتسارع الإقبال على الكتب الرقمية، في الوقت الذي تغلق المكتبات أبوابها بصورة متزايدة. وعلى سبيل المثال فإن شركة “بوردرز” الأميركية التي كانت عملاقاً في بيع الكتب بالتجزئة قررت غلق جميع مكتباتها في الولايات المتحدة. ليس هذا وحسب، بل اسمعوا ما تقوله السيدة دونا هايز مديرة دار “هار لكوين” للنشر: “إن الكتب الرقمية نفخت حياة جديدة في الكتب القديمة، فعمر الرواية الرومانسية على رف متجر الكتب يبلغ أربعة أسابيع في المتوسط، لكنها أصبحت متاحة بسهولة الآن من خلال التكنولوجيا الرقمية”. وقامت دار “هار لكوين” بتحويل أكثر من 13 ألف كتاب من كتبها لتصبح متاحة إلكترونياً، وبدأت تنشر بعض الأعمال الرومانسية في كتب إلكترونية فقط لقياس مدى إقبال القراء عليها قبل إصدارها في طبعات ورقية. لكن أيضاً هذه الصناعة تواجه معضلة عظيمة قد تعيق تطورها، وتجعل الصحف والكتاب الورقي خيارا آمنا، وتتمثل هذه المعضلة في القرصنة والسرقات الإلكترونية، حيث يعرف أن هناك من يقرأ كتباً بالمجان على شبكة الإنترنت، بل وجدت مواقع متخصصة في عرض الكتب المجانية والتي يمكن تحميلها على الكمبيوتر ومن ثم يمكنك أن تقوم بطباعتها والاستمتاع بقراءتها. مجلة “الإيكونومست” تلفت إلى أن مثال إسبانيا يبين أن القرصنة الثقافية يمكن أن تُمارس حتى بين الكهول، وفي روسيا أصبحت قرصنة الكتب الإلكترونية ممارسة شائعة. وهي تشير إلى أن عملية سرقات الكتب الإلكترونية باتت سهلة جداً حتى لدى كبار السن، فكيف هو الحال مع صغار السن؟ وكما هو معروف فإن الكتاب الإلكتروني أخف وأقل حجما من الملفات الموسيقية وملفات الفيديو، والتي هي أيضاً تتعرض لقرصنة كبيرة، إذن فالكتاب الإلكتروني أكثر سهولة في السرقة، وبالتالي فإن محاولة استثماره تشوبها مخاطر حقيقية، على الأقل في المدى المنظور، إلا إذا سارعت التقنية وقدمت المساعدة وإني أظنها ستفعل. أقلام الحضارات كل إنسان يمر بمراحل من التطور والتغيير.. إن ذلك الإنسان الذي كان في غابر الأزمان يستخدم الأحجار والكهوف لنحت أشكال تعبر عن هواجسه ومخاوفه، هو نفسه الإنسان الذي تطور وبات يرسم على الجلود والأخشاب، وهو الإنسان الذي تطور وبات يكتب على الورق، ولنفهم سر التحولات البشرية في مضمار الوسائل التي استخدمت في الكتابة، منذ فجر التاريخ الإنساني، وعمق أثر هذه التغييرات في التطور والحضارات كتبت الباحثة آن ماري كريستان، كتاباً بعنوان “تاريخ الكتابة” قامت فيه بدراسة تطور مراحل الكتابات والخطوط في العالم بأسره. تقول آن ماري كريستان: “إن الإرهاصات المبكرة للكلمة المكتوبة كانت في حوض نهر الدانوب الذي شهد قيام حضارة راقية خلال الألفية السادسة والرابعة قبل الميلاد”، وأرجعت تطور هذه الحضارة إلى مهارة أهلها في صنع الفخار والصلصال الذي كان الخامة المفضلة لصنع الإشكال والتماثيل والتصاوير الزخرفية، وتطور فن النقش لتصبح مجموعة من الإشارات والرموز، وتلك كانت البدايات الأولى التي أتاحت للعين أن تتدرب على قراءة هذه الرموز. ثم حدث تطور في حضارة الشرق القديم - الكتابة المسمارية - حيث استخدم قلم محدب لعمل علامات ذات أبعاد ثلاثية على سطح طين، لكن هذا النوع من الكتابة كان معقداً وهو ما قيد استخدامها في المجتمع، وباتت فئة قليلة من الكتّاب فقط هم الذين كان في استطاعتهم الكتابة، ثم حدث تطور لاحق في بلاد ما بين النهرين عندما استخدموا الصلصال والبوص الذي كان يوجد بكثرة في أرجاء السهل الرسوبي لنهري دجلة والفرات، وبهذه المواد تم صنع ألواح تتم الكتابة عليها، وكذلك صناعة أقلام تستخدم للنقش أو حفر الرموز، وكانت ألواح الصلصال تحتاج إلى تصفية وتنقية طويلة وإضافة عامل مزيل للشحم لوقايتها من التشقق أثناء التجفيف، وبعد فراغ الكاتب من كتابة النص فإنه يترك اللوح لكي يجف. أما المصريون القدماء، فقد كانت لديهم رموز وعلامات تطورت إلى الكتابة الهيروغليفية المعروفة في الحضارة الفرعونية، وبعد تطورات متلاحقة نشأ نوع جديد من الكتابة اعتمد على الصورة المختصرة وسجلت بواسطتها شؤون الحياة اليومية وهو ما يعرف بالهيراطيقي. أما في الصين، فقد كانت كتاباتهم رمزية ومحفورة على عظمة الكتف أو صدفة السلحفاة، والصينيون يعود لهم الفضل في اكتشاف الورق والتمكن من استخدامه، ويقدر بعض المؤرخين أن هذا الاكتشاف كان في بداية القرن الأول من الميلاد، وأنهم استخدموا سيقان نبات الخيزران الوفير جداً في الصين والذي يشكل وجود كبير في كافة مفاصل التاريخ الصيني وله استخدامات عديدة. وهكذا استمر الإنسان في التطور، فقد كتب على الجلود والأخشاب وألواح الطين، وصولاً للورق، واليوم بات يكتب ويقرأ على ألواح إلكترونية (آي باد) ويقرأ بواسطة أجهزة متناهية الصغر. قناعتي كبيرة بالتطور وإيماني بأن التغيير حتمي، وأن البشرية في مرحلة ستقف وتتماشى مع التطورات مهما كان الحنين يجذبنا للقديم، صحيح أن هذا لن يتم خلال بضع سنوات قادمة، بل قد يكون بعد عقود. وخلال هذه الفترة الزمنية التي قد تقصر أو تطول سيظل النقاش محتداً بين أصحاب نظرية النشر الورقي الذين يؤكدون أنه باق ما بقي الإنسان، وأولئك الذين يؤكدون أن النشر الإلكتروني سيزيل النشر التقليدي (الورق).. وبغض النظر عن وجاهة رأي أي من الطرفين، إلا أنني أتمنى أن يتوقف النشر الورقي رحمة بالأشجار التي يتم اقتلاعها من جذورها، فقط من أجل الحصول على الورق. almazrui1@hotmail.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©