الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

زوجي الكذاب

زوجي الكذاب
13 يونيو 2013 20:34
لم أكمل دراستي الابتدائية بسبب ظروفنا المالية الحرجة، فنحن عشرة من الأخوة والأخوات، أنا أوسطهم والمجتمع كله حينها لم يكن يهتم بتعليم الفتيات وليس من المستغرب، بل من المعتاد أن تتوقف الفتاة عن تلك المسيرة وربما أحياناً كانوا يرونها من الفضائل والفتاة مصيرها إلى بيت زوجها ولا يشكل التعليم أمراً ذا أهمية في حياتها حتى أنهم أحياناً لا يهتمون بتعليم الذكور، فلم تكن تلك نظرة خاصة بالبنات وحدهن ،كثيرون كانوا لا يهتمون بهذه المسألة برمتها ولكل واحد أسبابه ووجهة نظره وبقيت في بيت أبي انتظر عريساً وتسرب القلق إلى أمي لأنني تخطيت العشرين من عمري، بينما أخواتي الثلاث الأكبر مني تزوجن ما بين الرابعة عشرة والسادسة عشرة وهذا هو عمر الزواج المعتاد للفتيات حينها. كانت الدنيا غير الدنيا والحياة بسيطة، بل غاية في البساطة لا تكلف في المهر ولا شروط ولا قائمة منقولات ولا تعقيدات مما ظهر بعد ذلك فما أن يرتضي والد الفتاة بمن يتقدم لها حتى يتم الاتفاق بقراءة الفاتحة، ثم يتم تحديد موعد الزفاف في أقرب موسم قادم، وكانت المواسم دينية في الغالب أو مرتبطة بمواعيد الثمار أو الحصاد أو جمع أي محصول خاصة القمح والقطن وعندما جاء عريس ليخطبني لم يكن في تلك الأيام شيء اسمه تعارف بين العرسان، فربما تتم الخطبة ولا يعرف أحدهما الآخر لا قبل ولا بعد الخطبة ويكون اللقاء الأول والنظرة الأولى ليلة الزفاف، ومع ذلك كانت الزيجات ناجحة والأمور مستقرة مع بساطة كل شيء. كل ذلك كان ينطبق عليّ فقد تمت خطبتي لهذا الشاب «الغريب» الذي جاء من بلد آخر لم أسمع عنه ولا أعرفه وأعتقد أيضاً أنه هو الآخر لا يعرفني وإنما هي ترشيحات من النسوة سواءً عن معرفة أو عن طريق الدردشة التي لا تتوقف والنميمة والغريب أنه لم يشغلني شيء في هذا كله ولم أكن قلقة مما يحدث إلا قليلاً أحياناً عندما أسرح بخيالي فأتخيل شكله وأتساءل هل هو أسمر أم أبيض طويل أم قصير كبير في السن أم شاب مناسب؟ وقد يكون في الغالب كذلك ولم أجرؤ بالتأكيد على السؤال عنه فقط في بعض الأوقات أتسمع لكلام أمه مع أمي عنه عندما تزورنا. وتحدد موعد الزفاف بسرعة فلم تزد فترة الخطبة على ثلاثة أشهر وأتذكر أنهم قالوا إنه سيكون بعد العيد وكل ما حدث أنهم اشتروا بعض الفرش بلا أثاث يذكر فقد كانت «المرتبة» توضع على الأرض مباشرة ،وقليلون الذين كانوا يشترون الأسرة والأثاث في ذلك الزمن لأن هذا لا بد أن يكون عريساً ثرياً وتم الزفاف وكل ما استجد أنهم جاؤوني ببعض الملابس والمجوهرات والفضة وإناء لشرب الماء مصنوع من الفخار وانتقلت إلى بيت زوجي الذي رأيته ورآني أول مرة في ليلة الزفاف ولم يكن له علاقة بكل ما تخيلته، فقد كان مختلفاً تماماً لكن ليس فيه ما يعيبه. الحياة الجديدة لم تختلف كثيراً عن بيت أبي، فهي نفس الأحوال وطريقة المعيشة، لذا لم أستغربها فقط استغرب الوجوه الجديدة التي أعيش معها، فنحن نقيم في بيت أسرة كبيرة كل زوج يقيم مع زوجته في غرفة واحدة بتلك الإمكانات إلي ذكرتها ربما الفقر هنا يضع بصمته بشكل أكثر وضوحاً والظروف أصعب، لذا فقد كان لزاماً أن يرحل زوجي، حيث المدينة الكبيرة ليعمل بها ويبحث عن الرزق هناك، وحيث فرص العمل أكثر وهكذا يفعل إخوته الثلاثة ويتغيب الواحد منهم شهرين أو ثلاثة، ثم يعود فيبقى في البيت مع الأسرة ما شاء الله له أن يبقى وهذا في الغالب مرتبط بما تبقى معه من مال بعد أن يقدم حصيلة ما جمع للأب الذي يتولى الإنفاق على الجميع وتولت حماتي هذه المهمة بعد وفاته لكنها لم تكن قادرة مثله على إدارة شؤون البيت الكبير الكثير عدد أفراده فاضطرت لأن تترك لكل واحد من أبنائها إدارة شؤون أسرته الصغيرة ومن سنة الحياة أن يستقل كل واحد بزوجته وأبنائه. رأى زوجي أن يصطحبني معه إلى حيث يعمل كما فعل أخواه وقد سعدت بهذا الاستقلال مع أنه كان في غرفة واحدة، بينما المدهش أنني مر على زواجي أكثر من عامين ولم أكن أعرف حتى الآن ماذا يعمل زوجي صحيح أنه غير متعلم وأمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة، لكن اندهشت عندما علمت أنه يعمل ماسح أحذية يفترش الأرصفة في الأماكن المزدحمة ويحب الشتاء لأن الرزق فيه وفير حيث تزيد الأمطار من عمله ويتحسن دخله بشكل ملحوظ، ولكن هذا من الأعمال الوضيعة المرفوضة من المجتمع، فقد كان يخفي مهنته عن جميع الناس ولم أكن أريد أن يصل بي الأمر إلى زوج بهذا الوضع كان يضطر للكذب كثيراً ويراوغ عندما يتحدث عن العمل أو يدعي أنه يعمل في حرفة أخرى لأنه مع ذلك كان يخجل من عمله ومن جانبي تقبلت الأمر وحاولت أن أقنع نفسي بأنه يكفي أن يكون عملاً شريفاً والمهم أننا نعيش حياة معقولة بعيداً عن الشظف والفقر المدقع الذي كنا نغرق فيه. صدقوني إلى هنا ليس لديَّ مشكلة ولا أشعر بأي نقص وأستعد لاستقبال مولودي الأول حتى زارني أخي الأكبر في بيتي الجديد وجاء محملاً ببعض الأطعمة واللحوم والطيور فقد أرسله أبي كما كان يفعل من قبل ويرسل لي هذه المساعدات وأنا في بيت عائلة زوجي وهنا ظهر الوجه الآخر لزوجي ونضح بما فيه وتعامل مع أخي بتعال شديد وادعى زوراً وبهتاناً أنه ليس بحاجة إلى ما جاء به، فهو رجل يعرف كيف يكسب المال ولا ينتظر مثل هذه الأشياء الصغيرة، وقال له من الأفضل أن تردها وتعود بها إلى أهلك الجوعى وقد كان لدى أخي من الصبر والحكمة ما هو كفيل بأن ينزع فتيل أزمة كبرى بينه وبين زوجي، فقد رد عليه بكلمات مقتضبة بأن هذا ليس من قبيل الإحسان ولا العطية قل أو كثر فهو صلة للأرحام ومع ذلك لم يتوقف زوجي عن توجيه النقد لأخي وعائلته ويعيره بفقرهم وتحمل أخي منه كل ما قاله رغم أنه غير صحيح وتجاوز في الأدب وخرج حتى عن أصول الضيافة، وكانت تصرفاته تلك كفيلة بأن يقطع أخي زيارته ويعود من حيث أتى وتجاوز عن تلك الترهات حفاظاً على حياتي الزوجية وكي لا يكون سبباً في فسادها أو تعكير صفوها فلم يقض عندي سوى تلك الليلة. عاتبت زوجي بهدوء شديد ووجهت له اللوم على تلك التصرفات وما كان ينبغي أن يكون تعامله هكذا مع من جاء يحمل إليه كل هذه الأشياء والهدايا وقطع تلك المسافات وعانى وعثاء السفر ليزورنا، لكنه أخذته العزة بالإثم وصدق أكاذيبه التي كذبها أمام أخي وادعى أنه ليس بحاجة لأحد وأعاد ما قاله مرة أخرى مع المزيد من الصوت العالي والسباب لي ولأهلي فاضطرني لأن أرد عليه وأعيده إلى صوابه وإلى رشده وأذكره بواقعه وظروفه وعمله وقد ارتفع صوتي وأنا غاضبة من أسلوبه وادعاءاته وثارت ثورتي ورفضت أن يتعرض لأهلي بهذا الشكل ومن ناحية أخرى لم أقبل كذبه الواضح ووددت ألا يعتاد ذلك ولا يعيده. بكل أسف كلما زارني أحد من إخوتي يكرر زوجي أسلوبه ذاته ويزيد عليها وكثيراً ما يتحملون سخافاته ولسانه السليط ولا يواجهونه بالحقائق التي يعرفونها عنه وخاصة عمله المهين وهو يزعم أنه يعمل بالتجارة والنقل والتوكيلات مع أن حاله ظاهرة وما زلنا نعيش في غرفة رغم أننا رزقنا بأربعة من الأبناء والبنات والنتيجة هي أيضاً نفسها، حيث أواجهه بالواقع وأكيل له ما أستطيع، فلا أقبل منه ما يفعله تجاه أهلي حتى لو كان حقيقياً وأرفض التعرض لهم بهذا الشكل وقد كاد يتسبب في قطيعة بيني وبينهم لولا أنهم حريصون على الوصال معي ويتحملون كل تجاوزاته غير أنني مللت هذا منه، وقد أصبح الكذب يسري في دمه ويعيش فيه مثل التنفس والأدهى من ذلك انه أدخل أبناءنا طرفاً في ذلك وقد اكتشفوا أن أباهم كذاب بشكل غير مسبوق وببراءتهم يواجهونه وخاصة وهو يخلف وعوده معهم فيروغ منهم كما يروغ الثعلب الماكر، لكنه بكل أسف نجح في زرع الفتنة بينهم وبين أخوالهم وجعل بينهم مسافات متباعدة في العلاقات، بل ومع كل أقاربي، ثم امتد نشاطه وأثره إلى أقاربه هو ولم أكن أريد أن يتسبب في هذه القطيعة مع الجميع ولا أجد له مبرراً واحداً ليفعل ذلك إلا أن تكون حالة مرضية نفسية. لم أعد أصدق أي شيء يقوله، فكلما قال أو فعل شيئاً أكتشف كذبه، فإن لم تكشفه الحقائق قام هو بتكذيب نفسه من غير أن يدري لأن الكذاب كثير النسيان، وفقدت الثقة في كل حياتي معه، فهو دائماً يعيش في الأوهام حتى عندما جاءته فرصة عمل بالخارج قال إنه سيعمل «شيف» في فندق خمس نجوم وما كانت له علاقة بهذه المهنة طوال عمره وقد اكتشفت كالعادة أنه كذاب أشر، فقد تبين أن الفندق ذا الخمس نجوم ما هو إلا مطعم شعبي صغير ويعمل فيه في غسل الأطباق ويا للتهويل في كلامه في الرسائل التي كان يبعث بها إلينا كما لوكان خبيراً دولياً في أكثر التخصصات ندرة. كانت رحلة غيابه شاقة بالنسبة لنا ولولا المساعدات التي كان يقدمها لي إخوتي ما عرفت كيف أوفر احتياجات أبنائي وهو يتنكر لهذا كله حتى أنه كرر أسلوبه بصورة طبق الأصل مع أخي الأكبر أيضاً عندما حضر خصيصاً ليسلم عليه بعد عودته، لكن هذه المرة رفض أخي المبيت لدينا وعاد من حيث أتى ومن أجل أبنائي تحملت كذبه كله، لكن أنا وهو الآن قد اقترب عمرنا من السبعين وأتمنى أن يكف عن طبعه المشين والذي أصبح ظاهراً للجميع ولم يعد خافياً على القاصي والداني وقد أصبح كذلك مضرب المثل في الكذب. نورا محمد
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©