السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المسرح.. السِّحر الحلال

المسرح.. السِّحر الحلال
15 يونيو 2011 19:53
“الشعر ضرورة، وآه لو أعرف لماذا؟، بهذه العبارة الرقيقة عبَّر جان كوكتو عن ضرورة الفن، وعبر في الوقت نفسه عن الحيرة إزاء دور الفن في العالم البرجوازي المعاصر” إرنست فيشر (ضرورة الفن). وفي مركز هذا الشعر يوجد المسرح، والذي هو ضرورة حيوية بالنسبة للإنسان المعارض، تماماً كما كان ضرورياً بالنسبة للإنسان القديم. ويبقى أن نتساءل دائماً عن المعنى الحقيقي لهذا الذي نسميه المسرح، والذي هو بالتأكيد قيمة أخرى إضافية، وذلك بحكم أننا في هذا المسرح نحيا حياة أخرى أكثر صدقاً وحقيقة، وأكثر جمالاً وكمالاً، وأكثر إمتاعاً ومؤانسة وسحراً، نحيا حياة مركزة ومكثفة ومضاعفة، وفيه نتعدد بالآخرين، ونتمدد في الآخرين، ونكون نحن كل هؤلاء الآخرين، ونحيا حياتنا الشخصية التي كتبت لنا، ونحيا حيوات غيرنا من الناس، في الأماكن الأخرى، وفي البلدان الأخرى، وهذا ما يمكن أن يسوقنا إلى السؤال المركب التالي: - هل معنى هذا أن حياة واحدة لا تكفي، وأن جسداً واحداً لا يكفي، وأن عمراً واحداً لا يكفي، وأن هوية واحدة لا تكفي، وأن لحظة زمنية واحدة لا تكفي، وأن مكاناً واحداً لا يكفي؟ ولعل أخطر ما في هذه الأعمار التي يحياها الأحياء، هو تلك التجارب الصادقة التي تبقى، بعد أن يمضي كل شيء، وبعد أن تصبح ذكرى، أو بعد أن تصبح تاريخاً، أو بعد أن تصبح إبداعاً أدبياً أو فنياً أو فكرياً يقاوم الزمن، وفي حياتنا اليومية نستفيد من تجاربنا وحدنا، ولكننا في المسرح نستفيد من تجارب كل الناس، الأحياء منهم والأموات، ونصل الى درجة العلم والمعرفة، ونقبض على الحكمة، ونجمع في ذواتنا بين المحسوس والمتخيل، ونجمع في لحظة واحدة بين الكائن والممكن والمحال، ونختزل في المكان المسرحي كل العالم وكل الكون. الحرية الكاملة إن المسرح هو السحر الحلال إذن، أي السحر الذي يعطينا طاقة أخرى إضافية، والذي يوسع من مجال رؤيتنا وإدراكنا، والذي يجعلنا نتحكم في عجلة الزمن، ويعطينا القدرة على أن نعيدها إلى الخلف مرة أخرى، وأن ندفعها الى الأمام مرة أخرى، ويجعلنا نمارس فعلاً شبيهاً بجلسة تحضير الأرواح، فنستعيد من العدم أجساد الموتى وأسماءهم، وأرواحهم، ويكون بإمكاننا أن نراهم، وأن نكلمهم، وأن نستمع إليهم، وأن نستفيد من دروس أخطائهم، يقول إرنست فيشر “من الجلي أن الإنسان يطمح الى أن يكون أكثر من مجرد كيانه الفردي.. بل يسعى الى الخروج من جزئية حياته الفردية الى “كلية” يرجوها ويتطلبها، الى كلية تقف فرديته بكل ضيقها حائلاً دونها، إنه يسعى الى عالم أكثر عدلاً، وأقرب الى العقل والمنطق”. وبحسب ألفريد سيمون، فإن الآلهة في المهابهارتا الهندية تطلب من براهما “شيئاً يرى ويسمع من أجل متعتها”، ويكون جوابه “من شيء مغلف بتظاهرات الحياة المختلفة، وبتجسيد لمختلف عبارات الفعل صنفت المسرح مطابقاً لحركة العالم وللمعرفة القدسية وللعلم وللأساطير ليوجد رباط التواصل وأن يكون للجمهور مجالاً للمتعة، هكذا يكون المسرح”. وفي هذا المسرح تلتقي حركة الأجساد بحركة العالم، وتتقاطع المعرفة القدسية بالعلم الطبيعي، ويلتقي اليومي بالتاريخي. ويكون التلاقي فيه فرصة للخروج من الفردانية الى الجماعية، والانتقال من الواحد الى المتعدد، ويكون الخروج من الجسد - أنا، ومن البيت - الوطن، ومن اللحظة - الآن، ومن المكان - هنا، ويكون الخروج من المألوف والمعروف، ويكون الولوج الى الفضاءات العربية والعجيبة والمثيرة والمدهشة، والتي هي فضاءات جديدة ومتجددة دائماً، وذلك بحكم أنها فضاءات عيدية واحتفالية دائماً وعندما نحتفل نخرج عن العادي والمبتذل، نخرج عن الآني، فنتجاوز الذات وكل قوانين الطبيعة، ومن هنا كان الاحتفال مرادفاً للتحرر من المكان، وذلك باعتبار أنه أبعاد محدودة وجامدة، والتحرر أيضاً من الزمن، إذ أن الاحتفال يكون دوماً في الساعة البكر، وفي اللحظة الوليدة، إنه تحد للواقع، ومحاولة تجاوزه عن طريق خلق واقع فني لتتواصل الذوات المختلفة ويموت فيه الواقع الجامد. وكل فعل مسرحي لا يتوفر على هذه الروح الاحتفالية، فإنه لا يمكن أن يكون مسرحاً حقيقياً، ومن الممكن جداً أن يكون شيئاً آخر، سوى أن يكون مسرحاً. والمسرح أساساً إبداع هكذا هو أو لا يمكن أن يكون، ويصر كثير من مسرحيينا على التقليد وعلى ممارسة الترجمة الخائنة، وعلى اقتراف الاقتباس والاختلاس، وعلى ارتكاب مسرقيات بدل إنتاج مسرحيات حقيقية، شكلاً ومضموناً، ولغة ومنهجاً. من التفرج إلى الاحتفال ولهذا يكون من الضروري أن نبحث في جوهر هذا الاحتفال، وأن نعرف بأنه ملمح الحياة، وبأن به كل التوابل التي تحتاجها بعض الأيام والليالي، وذلك من أجل أن يكون مذاقها مختلفاً ومستساغاً، وأن تكون جديدة، ومجددة ومتجددة، ولعل أهم العناصر في فعل الاحتفال يمثله التحدي دائماً، ويجسده التصدي، وتعكسه الرؤية النقدية، ويؤسسه الموقف الضدي، وهذا هو جوهر المسرح دائماً، وبغير هذا لا يكون في المسرح إلا الفرجة، والفرجة هي المظهر الخارجي والبراني للواقع، وليست جوهره ولا غايته الخفية. في هذا الاحتفال العيدي، لا نكرر الواقع والوقائع، وذلك لأنه - أساساً - فعل إبداعي خلاق، وفي الإبداع لا وجود للتكرار، ولا مكان للاجترار، ولكننا نؤسس واقعاً متخيلاً جديداً، يكون بالضرورة أجمل وأكمل، ويكون أعمق وأصدق، ويكون أعلى وأسمى، وكل (فن) يكون دون مستوى الواقع، ودون مستوى المظاهر، ولا يكون بديلاً جمالياً لها، لا يمكن أن يكون فناً حقيقياً. في هذا الاحتفال أيضاً، لا نستسلم أبداً، ولكننا نتمرد ونقاوم، ولا نرضى بـ “المقسوم” ولا نرضى بعبثية الوجود، ولا بعبثية الواقع، ولا بوحشية الطبيعة، ولا ننخدع لمكر التاريخ، ولكننا نقف موقفاً إيجابياً، وموقف المتفرج السلبي لا يليق بالشاعر ولا بالمسرحي ولا بالمفكر المتفلسف، ولا بالمثقف الذي هو أساساً موقف، ولا بالحكيم الذي يرى أن الفرجة الخالصة خيانة وجودية، وأنها تنصل من المسؤولية، وأنها هروب من مواجهة الأسئلة والمسائل الحقيقية في عالم الناس والأشياء. ومن أعطاب المسرح العربي، أن نجده يؤكد على الفرجة دائماً، وأن يطلبها لذاتها، وأن يحولها الى سلعة، وليس هذا هو الحال بالنسبة للمعنى الحقيقي للمسرح، والذي هو احتفال قبل كل شيء، والاحتفال أكبر من أن يباع أو أن يشترى (فالاحتفال حياة، والحياة لا تباع ولا تشترى، فهو تعبير عن حالات وجودية مختلفة ابتداء من الميلاد وانتهاء عند الوفاة). ولقد ظلت هذه العلاقة التجارية، بين المسرحي البائع، وبين المتفرج المشتري، هي أهم وأخطر ما يمثل التعاقد المسرحي بين شرطي المسرح الأساسيين في المسرح العربي، أي بين من يؤسس هذه الفرجة، وبين من يستهلكها، ولقد دعت الاحتفالية إلى مراجعة هذه العلاقة التقليدية بين صانع الفرح ومشتري الفرح. الخَواء.. مقدمة ونتيجة شيء مؤكد أن ما وصل إليه المسرح العربي اليوم، لم يأت من فراغ مطلق، وبأنه - أيضاً - لا يمكن أن يؤول الى الخواء الكلي، وهو بهذا نتيجة ومقدمة في نفس الآن، نتيجة لما كان، ومقدمة لما سوف يكون، ولا أحد يمكن أن ينكر أن واقع هذا المسرح هو اليوم واقع واقعي وطبيعي، وذلك بحكم أنه نتيجة المقدمات والأسباب التي أوجدته، وأنه نتيجة للسياقات الفكرية والاجتماعية والسياسية التي ساقته الى هذا المساق، وبهذا فإنه لا يعقل أن ندرس هذا حالة هذا المسرح اليوم، وأن نحاول تحديد اختلالاته الجمالية والفنية والفكرية، من غير أن نؤكد على الاختلالات الموجودة أساساً في المجتمع، والموجودة في مسار التاريخ وأعطابه، والموجودة في النظام الفكري والسياسي والجمالي والأخلاقي القديم، وبهذا نكون اليوم في حاجة الى نظام ثقافي عربي جديد. وانطلاقاً من هذه القناعة نقول ما يلي: إن ما يعيشه المسرح العربي ليس أزمة في التأليف أو في الإخراج أو في التمثيل أو في البنايات أو في الملتقيات والمهرجانات المسرحية، ولكنه - أساساً - أزمة فكر متخلف عن الفكر العالمي الحداثي، وأزمة واقع اجتماعي متخلف عن الواقع الاجتماعي العالمي، ويمكن أن نقر بالحقيقة التالية، وهي أن هذا الواقع يحتاج اليوم الى جرعة أكبر من التفتح على العالم، والى جرعة أخرى من الحرية ومن الديمقراطية ومن العلمية ومن العقلانية، ولعل هذا هو ما ظل يمنعنا - وعلى امتداد عقود طويلة، من أن نقوم بتشريح لواقع المسرح العربي، وأن نضع اليد على أمراضه وأعطابه، وعلى أن نرسم لهذا المسرح مساراً جديداً، وأن نقترح له خارطة طريق جديدة، وأعتقد أن هذا قد أصبح اليوم ممكناً جداً، وهذا - بكل تأكيد - هو ما يمكن أن تتضمنه استراتيجية المسرح العربي 2011 - 2020.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©