الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المدينة المقدّسة.. بالثلاثة!

المدينة المقدّسة.. بالثلاثة!
24 يناير 2018 22:21
هاشم صالح قبل أن نتحدث عن القدس كعاصمة روحية للأديان الثلاثة، دعونا نلقي نظرة على تاريخها الطويل العريض، فهي ليست مدينة حديثة العهد، وإنما قديمة بل وقديمة جداً جداً. وقد تعاقبت عليها السلالات الحاكمة والأديان والأعراق والشعوب المختلفة. فقبل ثلاثة آلاف سنة، كانت القدس موجودة، وكانت تدعى أورشليم في اللغة العبرية، وهي تعني مدينة السلام في أحد معانيها، وأمجاد اليهود فيها تعود إلى الماضي البعيد، بل والبعيد جداً، وأكاد أقول المنسي. هذا في حين أن أمجاد العرب من مسلمين ومسيحيين متواصلة منذ الفتح العربي قبل ألف وأربعمائة سنة على الأقل. تقول لنا كتب التاريخ ما معناه: في عام 1003 قبل الميلاد اتخذ الملك أو النبي داود عليه السلام من أورشليم عاصمة لمملكته وكمركز ديني للشعب اليهودي. وبعد أربعين سنة من ذلك التاريخ قام نجله سليمان ببناء الهيكل أو ما يدعى بهيكل سليمان الأول. وكرّسه كمركز ديني وقومي وثقافي للشعب اليهودي، ويقال إن النبي سليمان طوّر المدينة، إلى درجة أنها أصبحت عاصمة مزدهرة لإمبراطورية مترامية الأطراف تمتد من العراق وحتى مصر. من هنا نتج ذلك الشعار الشهير المخيف: حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل. واستمرت الأمور على هذا النحو حتى عام 586 قبل الميلاد، حيث تحطمت أمجاد الشعب اليهودي على يد الملك البابلي نبوخذ نصر، ومعلوم أنه غزا فلسطين واحتل أورشليم وحطّم الهيكل الأول للنبي سليمان وهجّر الشعب اليهودي إلى بابل، ولكن بعد نصف قرن من ذلك التاريخ احتل الفارسيون بابل وقضوا على إمبراطورية نبوخذ نصر، وبعدئذٍ سمح ملك الفرس سيروس لليهود بالعودة إلى فلسطين، ومنحهم الحكم الذاتي. وفي تلك الفترة بالذات بنى اليهود الهيكل مرة ثانية في ذات الموقع، الذي كان يحتله الهيكل الأول، كما وقاموا بإعادة إعمار المدينة من جديد. وبعد عودة اليهود من المنفى العراقي أو البابلي عام 538 قبل الميلاد استعادت أورشليم مكانتها كعاصمة مركزية للشعب اليهودي لمدة خمسة قرون أو يزيد، ثم انهارت أحلامهم مرة أخرى عام 70 بعد الميلاد عندما اصطدموا بالإمبراطورية الرومانية الجبارة. وبعدئذٍ لم تقم لليهود قائمة في فلسطين، حتى عام 1948 تاريخ تأسيس دولتهم الجديدة. غلطة الدالاي لاما ألفان من الأعوام مرتا واليهود منقطعو الصلة بفلسطين، اللهم إلا على المستوى الديني الروحاني، ومعلوم أنهم على مدار ألفي سنة كانوا يتوجهون في صلاتهم اليومية نحو القدس قائلين: العام القادم في أورشليم! ولم تتحقق أمنيتهم العنيدة هذه إلا بعد قيام دولة إسرائيل، ولهذا السبب قال لهم الزعيم البوذي الشهير الدلاي لاما عندما زارهم مؤخراً على سبيل المزاح: أرجو ألا أنتظر مثلكم ألفي سنة لكي أعود إلى بلادي العزيزة التيبت! أرجو ألا يطول منفاي كل هذه الفترة الخرافية! وهذا يعني أنه هضم السردية اليهودية عن الموضوع وتبناها تماماً وهو الأريب الفهيم. وكان ينبغي عليه أن يتأنى قليلاً قبل أن يقول ما قاله، ولكن بصفته من الشرق الأقصى البعيد فإنه غير مطلع على تاريخ المنطقة بشكل دقيق. إنصاف وحجة لحسن الحظ، فإن المفكر الماركسي الشهير واليهودي الأصل مكسيم رودنسون لا يرتكب الخطأ نفسه، وإنما يعترف بالحقيقة التاريخية التي تقول إن هذه الأرض عربية فلسطينية، وقد انتزعت بالقوة من أصحابها الشرعيين، ولكن لليهود بها علاقة روحية دينية لا تنكر، وما حصل قد حصل بعد أن وقعت الفأس بالرأس كما يقال، وهناك أمر واقع يدعى دولة إسرائيل، وهي دولة تقف وراءها أو وراء مشروعية وجودها كل أمم الأرض تقريباً خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وبالتالي فقد تحولت إلى حقيقة موضوعية لا تقهر. وعلى أي حال فان خطة السلام العربية تعترف بها بشرط أن تعترف هي بحقوق الشعب الفلسطيني. هذا هو الوضع. أياً يكن من أمر، فإن حائط المبكى الموجود في القدس يمثل قدس الأقداس بالنسبة للديانة اليهودية، فأمامه يبكي اليهود على هيكل سليمان المدمر ويقيمون عليه الحداد ولذلك سمي حائط المبكى، ولكنه يهم المسلمين أيضاً كما سنرى لاحقاً. والمشكلة هي أن هذه المقدسات اليهودية موجودة في القدس الشرقية لا الغربية! ولهذا السبب فإن الرئيس الأميركي ترامب يتخذها حجة وذريعة لتبرير قراره الأخير الظالم الذي انتهك قرارات الشرعية الدولية. مكانة القدس.. إسلامياً بعد أن استعرضنا بكل موضوعية التاريخ اليهودي لأورشليم القدس، آن الأوان لكي نتحدث عن القدس العربية ذات التاريخ المجيد. كم هو عدد العلماء والمثقفين والكتّاب والشعراء والفلاسفة العرب الذين أنجبتهم مدينة القدس على مدار العصور؟ من يستطيع أن يعدّ كبار المقدسيين؟ وكم أثروا ثقافتنا العربية وتراثنا الإسلامي كما المسيحي؟ على أي حال ليس هذا موضوعنا الآن. موضوعنا هو مكانة القدس الروحية بالنسبة للمسلمين، وهي ضخمة وعظيمة وتأتي مباشرة بعد مكة والمدينة، ولذلك تدعى بأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وقد دعيت بأولى القبلتين لأن المسلمين الأوائل كانوا يتجهون إليها في صلواتهم، قبل أن يقرر النبي (صلى الله عليه وسلم) تحويل الوجهة (أو القبلة) إلى مكة المكرمة. وفيها يوجد المسجد الأقصى المدعو بثالث الحرمين الشريفين لأنه يأتي من حيث الأهمية بعد المسجد الحرام في مكة والمسجد النبوي في المدينة، بل ووضعه شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب مؤخراً في المكانة نفسها. وهنا ينبغي التوقف قليلاً عند نقطة مهمة، فما يدعوه اليهود بحائط المبكى يدعوه المسلمون بحائط البُراق، وبالتالي فهو مقدس لدى كلتا الجهتين الإسلامية واليهودية، وإن لم يكن للسبب نفسه، فالمسلمون يقدسونه لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، صعد إلى السماء من هناك، والبُراق هو اسم الكائن الذي أسرى عليه الرسول من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى المبارك في القدس الشريف. وقد ربط الرسول هذا البُراق على هذا الحائط، ثم عرج عليه صعداً إلى السماوات العلى. قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «أتيت بالبُراق فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التي يربط فيها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصلّيت فيه ركعتين، ثم عرج بي إلى السماء». رواه مسلم. وقيل البراق هو اسم الدابة التي يركب عليها الأنبياء، وعلى هذا النحو حصلت قصة الإسراء والمعراج. مكانة القدس.. مسيحياً بعد أن تحدثنا عن مكانتها بالنسبة لليهود والمسلمين، لم يبق إلا أن نتحدث عن مكانتها بالنسبة للمسيحيين. فهي، أي القدس، مقدسة ثلاث مرات لا مرة واحدة. وهنا نلاحظ أن مكانتها عظيمة جداً ولا تقل أهمية عن مكانة مكة المكرمة بالنسبة لنا نحن المسلمين. والسبب هو أن كنيسة القيامة موجودة فيها. وهي لا تقل قداسة بالنسبة للمسيحيين عن الكعبة الشريفة أو المسجد النبوي بالنسبة للإسلام. يضاف إلى ذلك أن كل الملحمة المسيحية جرت فيها أو حواليها، وهي الملحمة التي انتهت بالصلب طبقاً للاعتقاد المسيحي. ومعلوم أن كنيسة القيامة تعتبر أقدس الكنائس المسيحية على الإطلاق. إنها أهم من الفاتيكان وغير الفاتيكان بألف مرة. وذلك لأنها تحتوي على القبر المقدس أي قبر السيّد المسيح. وقد دعيت بكنيسة القيامة لأنها تدل على قيامة يسوع من بين الأموات بحسب الاعتقاد الديني. ولهذا السبب، فإن كبار كتّاب أوروبا كانوا يحجون إلى القدس في القرون الخوالي كما نحج نحن إلى مكة. نذكر من بينهم شاتوبريان الذي بعد أن نشر كتابه «عبقرية المسيحية» ونال نجاحاً باهراً منقطع النظير قرر السفر إلى الأراضي المقدسة للحج. وقد استغرقت الرحلة عدة أشهر بين عامي 1806 - 1807. لقد أراد أن يرى بأم عينيه تلك الأرض الطيبة التي مشى عليها السيد المسيح. ثم جمع كل ملاحظاته ومشاهداته التي سجلها على مدار الرحلة في كتاب: «المسار من باريس إلى القدس». وصدر عام 1811. يقول ما معناه: «عندما شرعت بالرحلة إلى ما وراء البحار، كانت القدس أصبحت شبه منسية بالنسبة لنا نحن الفرنسيين. والسبب هو أننا كنا قد عشنا قرناً مضاداً للدين هو القرن الثامن عشر الذي توج بالثورة الفرنسية المعادية للمسيحية بشدة»، ولكن شاتوبريان لم يكن الوحيد. فالمفكر الشهير إرنست رينان قام بالرحلة أيضاً إلى فلسطين، لكي يرى القدس عياناً ويكتب عن موضوع المسيحية كتباً تاريخية خلدته على مدار الأجيال. تحولات الصراع.. مستقبلاً أخيراً، ماذا يمكن أن نقول عن موضوع القدس وفلسطين كلها؟ سوف أخاطر بنفسي وأقول ما يلي: أعتقد أنه آن الأوان لتجاوز آثار هذا الصراع الرهيب المدمر، الذي قضى على مستقبل المنطقة وأجيالها وأطفأ النور في عيونها. وبهذا الصدد لا يُستبعد أن تتغير طبيعة الصراع ونوعيته مستقبلاً. بمعنى ربما تحوّل من صراع عسكري حربي إلى صراع مدني حضاري. فإذا كان الإسرائيليون يسيطرون بكل دقة على المنهجية العلمية وأحدث الآلات التكنولوجية، فإن العرب مدعوون للسيطرة عليهما أيضاً. إذا كانوا يمتلكون أحدث الجامعات والمختبرات العلمية، فإنه ينبغي علينا أن نمتلك نحن أيضاً ذلك. إذا كانت المناقشات العميقة حول الدين والسياسة والعلمانية متاحة عندهم بكل حرية، فينبغي أن يحصل ذلك عندنا أيضاً، فالعقل العربي ليس عاجزاً عن منافستهم، بل والتفوق عليهم في المجالات كافة، من علمية وفلسفية وطبية وصيدلية ومعلوماتية.. إلخ.. وأصلاً سوف يتحول الفلسطينيون إلى شعب العباقرة والجبابرة لأن النكبات الكبرى تصنع الشعوب العظيمة. والأزمة التي لا تقتلني تقويني.. بمعنى آخر فان الشيء الذي جعل الإسرائيليين يتفوقون علينا وينتصرون في الحروب، ينبغي أن نمتلكه يوماً ما. لا يفل الحديد إلا الحديد. هذا هو معنى الصراع الحضاري الذي أقصده. فالعقلية البدائية للقرون الوسطى لا يمكن أن تواجه العقلية العلمية المتطورة للعصور الحديثة. والهيجانات والعنتريات والشعارات والمزايدات لا تجدي شيئاً. وقد شبعنا منها على مدار السنوات. وأعتقد أنها فقدت مصداقيتها وبريقها، بل وحتى الجماهير تعبت منها وملت على الرغم من كل المظاهر، ولكن هناك أشخاص محترفون في هذه الأشياء التي تضر العرب ولا تنفع القضية على الإطلاق. نعم إن التنافس بيننا وبين دولة الحداثة الإسرائيلية المتقدمة سيتحول أكثر فأكثر من صراع عسكري إلى صراع حضاري، ولكن ذلك لا يمكن أن يتم قبل أن يحصل الشعب المغدور على بعض حقوقه. وأولها تشكيل دولة فلسطينية إلى جانب الدولة الإسرائيلية تكون عاصمتها القدس الشرقية. إذا ما تحقق ذلك فسوف ينتهي أخطر صراع جهنمي في التاريخ، وهو صراع دمّر طاقات العرب وشلّهم شللاً على مدار ستين أو سبعين سنة متواصلة، وربما تحققت أسطورة الأندلس مرة أخرى على أرض فلسطين الطاهرة، بل والعالم العربي كله. من يعلم؟ فالعرب واليهود ساميون وأبناء عم كما يقال. والعربية شقيقة العبرية أو ابنة عمها. كم هو عدد الكلمات المشتركة بينهما بدءاً من سلام/‏ شالوم وأنت طالع؟ ولكن المنطقة تظل عربية في أغلبيتها الساحقة وستبقى. فمن المتوقع أن يصل عدد العرب عام 2050 إلى 500 مليون نسمة، أي نصف مليار! وعندئذ سوف يغرق اليهود في بحر من العرب.. بل إنهم منذ الآن غارقون. وهذا يعني أن السلاح الديمغرافي أي العددي هو الذي سوف يحسم الأمور في نهاية المطاف.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©