الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الموانئ بيوت عائمة وذاكرة لا تشيخ

الموانئ بيوت عائمة وذاكرة لا تشيخ
30 ابريل 2006
إبراهيم الملا:
تكشف الزيارة المكررة للأسواق الغافية على صدر الميناء عن هذا التلامس الغريب بين العين وبين الزرقة الملونة لبضائع البحر··· تتلاطم الأجساد هنا، كما تتلاطم روائح الحبال الرطبة وصناديق التبغ برائحة التوابل الشرقية والأسماك المجففة والليمون الأسود، يهبّ عطر الماء هنا مثلما تهبّ النسائم الشقية لطفولة جامحة رغم التلاشيات المحتملة·
تعرض الموانئ دراما الروائح هذه وكأنها تُمسرح الحدث البحري بعفوية الأداء التلقائي للبائعين والمساومين والعمال اللاهثين خلف أرزاقهم·
يتنشّق العابر قرب الميناء حياته النقية، كما لو أنها قادمة من بخور الأساطير المترفة والعريقة· لقد دوّنت الموانئ على أرصفتها القاموس السرّي الكامل لأبناء البحر، وكانت الشيفرات المطبوعة بخفاء على السواعد والأرواح كفيلة بإقحام رواد البحر هؤلاء في قلب الخطر، حيث لا خطر إلا وهو مقدور عليه·
إنها سمة عشق ومساحة تودد هي التي تجعل العلاقة بين السواحل وبين أهل المرافئ مسنودة بتوالد التاريخ وتراكم الأزمنة، فلا يمكن للموج مثلا أن يشيخ، كما أن الموانئ لا يمكن بدورها أن تهرم على ضفاف النسيان، وهكذا فإن الحركة التي تقود شغبها في الماء، تحول المراكب إلى طاقات مكتنزة بسفر مقيم، وبرحيل متأرجح·
في إحدى إشراقاته اللغوية الساحرة، يصف الشاعر الفرنسي (آرثر رامبو) المراكب الخشبية المتمايلة قرب الأرصفة البحرية بـ (بالمراكب السكرانة)!!
تهب الموانئ أسرارها العصية لمن يجيد ترويضها، ولمن يتعفف عن إغراءات المدينة ويبتعد عن أهوال الأزرق الكبير، وسكان المرافئ هم الأدرى بشعابها وطرائق العيش فيها، لأنها طرائق وعادات جبلت على قلق الإقامة وعلى هشاشة المبيت، لذلك فإن سكان الموانئ يهندسون حركتهم اليومية على مقاس لذتهم المتبخّرة، وعيشهم المنذور لمزاج البوصلة، يحرك البحارة دفة بيوتهم العائمة أينما أينعت رائحة الرزق، وأينما علا صوت الأسواق وضجيج البضائع، وهم بارعون في دوزنة أوتارهم على هوى الشغف الغامض للوقت، وعلى إيقاع الحنين الذاهل في الريح·
تهيئ الأرصفة العالية في الميناء سندا للقوارب وكأنها أحضان طرية تلم تعب الأخشاب ولوعة البحارة، ويوفر سقف المركب ظلا باردا لأهل البيت العائم، كما أنه يمنح الذكريات والقصص فسحة مثالية للشرود والانفلات وتقمص البحر في مده وجزره، وفي فيضه وكتمانه، وفي صمته وجلجلته·
تقول إحدى الحكايات الواردة في (الأوديسا) أن بحارة شعب (اللوتوفاج) في جزر البحر الأبيض، كانوا يتغذون من فواكه زهرة اللوتس ويصنعون منها شرابا يفقد المسافرين ذكريات موطنهم!
إن المكابدة الروحية الهائلة لفعل النسيان لا تلغيها أبدا رغبة البحارة في اختراع أوطانهم الصغيرة والمؤقتة أينما سقطت المرساة، فمسقط المرساة بالنسبة للبحار هو البديل الذهني والبيولوجي لمسقط الرأس، فهذا المكان الجديد والبكر يساهم في توليد ذاكرة البحار من النقطة (صفر)·
يوزع البحارة تذكاراتهم الزائلة في كل ميناء، ولهم في كل مدينة حكايات عشق ناقصة، وزيارات ليلية مشغولة بالتورية والخفاء وبصور نساء عابرات في أمكنة عابرة، وفي أزمنة تتناوب صعودا وهبوطا بين ماء الأعماق وماء الغيوم!
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©