الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المدنية والدينية وجهاً لوجه

المدنية والدينية وجهاً لوجه
12 يونيو 2013 20:06
“ابن رشد وفلسفته” كتاب أصدره فرح أنطون أول مرة، عام 1903، وكان في الأصل مقالات دورية ودراسات نشرها أنطون في مجلته “الجامعة”، والتي كانت تصدر من الإسكندرية، كان انطون قد جاء من طرابلس الشام عام 1897 إلى الإسكندرية، وكان رفيقه في الرحلة رشيد رضا، وكان كل منهما على طرف نقيض، وسوف يتضح ذلك في هذا الكتاب، وأسس كل منهما مجلة أحدثت دوياً في الثقافة العربية والإسلامية. كان فرح أنطون معجباً بالفيلسوف القرطبي ابن رشد، ومتأثراً بما حدث له من اضطهاد، وراح يحدث القراء عنه، وكان يرى شيئاً آخر يتعلق بنهوض الشرق، وهو فصل الدين عن الدولة أو عن السلطة. يقول في مقدمة كتابه “لا نعلم كيف يستقبل أبناء العصر هذا الكتاب في هذا الزمان، ولكنا نعلم أن النبت الجديد في الشرق قد صار كثيراً. ونريد بالنبت الجديد أولئك العقلاء في كل ملة وكل دين في الشرق الذين عرفوا أنصار مزج الدنيا بالدين في عصر كهذا العصر، فصاروا يطلبون وضع أديانهم جانباً في مكان مقدس محترم ليتمكنوا من الاتحاد اتحاداً حقيقياً ومجاراة التمدن الأوروبي الجديد وإلا جرفهم جميعاً، وجعلهم سخرية لغيرهم، فإلى هذا النبت الجديد في الإسلام والمسيحية وغيرهما نهدي هذا الكتاب، سوف نلاحظ أنه هنا لم يقل باستبعاد الدين أو إلغائه كما يقول خصومه، بل أراد له أن يبقي مقدساً محترماً، بعيداً عن نزاعات السياسة وصغائرها”. النبت الجديد كان فرح أنطون يراهن على العقلاء أو من أطلق عليهم “النبت الجديد” ليتفهموا الكتاب وما ورد فيه من أفكار وآراء، خاصة ما يتعلق بجوهر فكرة ابن رشد عن التأويل وتأثير فكرته في أوروبا الوسيطة. ظل هذا الكتاب مجرد ذكرى حتى انتبه إليه في العقود الأخيرة بعض المفكرين، وكان من بينهم أستاذ الفلسفة د. مراد وهبة الذي قدم لهذه الطبعة من الكتاب، والتي صدرت قبل فترة وجيزة. بعد أن أصدرت “الجامعة” كتاب ابن رشد وفلسفته، أعلن رشيد رضا في مجلة “المنار” أن “الجامعة” بهذا الكتاب قد أهانت العقائد الإسلامية كما أهانت أئمة الإسلام والمسلمين، وأنها سوف تتولى الرد عليه، إلى هنا، الأمر مقبول، وكانت المفاجأة أن الذي تولى الرد هو الأستاذ الإمام محمد عبده بنفسه، وهو آنذاك مفتي الديار المصرية والعالم الجليل ليس في مصر فقط بل في البلاد الإسلامية كلها. ودار حوار طويل بين الأستاذ الإمام وفرح انطون حول نقاط بعينها استوقفت محمد عبده، ومن أهمها مقارنة فرح بين التعصب والتسامح في الإسلام والمسيحية، وكان رأي فرح أن المسيحية أقل تعصباً لأسباب عدة أوردها في كتابه، وكان من نتيجتها أن تمكنت الدول الأوروبية من أن تضع المسيحية في جانب وتقيم نظمها الاجتماعية والسياسية وفق احتياجاتها العملية وواقعها حتى تحققت نهضتها. راح الإمام يفند هذا الرأي ويرد عليه، وهكذا توالت الردود، والحق أن الحوار كان راقياً إلى أبعد حد، حرص فرح انطون على أن يبدي في كل الردود احترامه الخاص والشديد تجاه الأستاذ الإمام، وكان محمد عبده يبادله الشعور نفسه، على الرغم من امتداد الحوار والنقاش بينهما في أكثر من فكرة وقضية. سوف نلاحظ أن فرح أنطون في ردوده يتهم زميله وابن مدينته رشيد رضا بأنه هو الذي حرض الإمام عليه، وعلى “الجامعة” للرد عليه، وسوف يلح أنطون على هذا المعنى، خاصة أن “المنار” اتهمت “الجامعة” بأنها تستقبل رسائل من بعض العلماء تذم الأستاذ الإمام، وأنها بصدد نشرها، ويقرر فرح أنطون أنه لن يرد على هذه الاتهامات من “المنار” وصاحبها، ويعتبر ذلك التسامح أو عدم الرد “خير عقاب لها على تطاولها على غيرها، ومحاولتها إلقاء الفتنة بين الأستاذ و”الجامعة”، هذا إذا كانت ممن يشعرون بها”. وفي الوقت نفسه راح يؤكد احترامه لمحمد عبده “ونحن نعتذر في خاتمته إلى فضيلة الأستاذ لاجترائنا على مواجهة علمه الواسع بهذه الأجوبة ولولا معرفتنا أن فضيلته من أكثر الناس ميلاً إلى مبادلة الأفكار وحرية القول ما فعلنا. العلماني والسلفي لم يكن فرح انطون يبالغ في موقفه المتخوف من تحريض رشيد رضا عليه وعلى مجلته، كان رشيد رضا سلفياً بامتياز، وكان فرح أنطون مدنياً أو علمانياً، وكان رشيد رضا يتهم فرح أنطون، وهو المسيحي، بأن مجلته “الجامعة” تمس وتهين عقائد الإسلام والمسلمين ورموز الإسلام، لهذا راح ينفي عن نفسه ذلك بالقول، وغني عن البيان أننا عند كلامنا عن المدنية الإسلامية. لم نقصد الحكم عليها من جهة الدين، بل من جهة العلوم والفنون والصنائع والآداب والعادات التي يكون مجموعها الحالة الاجتماعية التي اختصت بها. ذلك لأن عامل الدين لم يكن وحده المؤثر في وجود تلك الحالة الاجتماعية، فهو على ما به من قوة السلطان على الأخلاق لم ينتج إلا أثراً مناسباً لدرجة عقول وآداب الأمم التي سبقت. ذهب فرح انطون إلى أن أوروبا تغلبت بالعلوم وبالفنون والآداب على التعصب الذي انتشر بينهم في العصور الوسطى، وكان تعصباً لأسباب دينية محضة، وكان رأي محمد عبده أن التعصب والعنف الذي شهدته الدول الإسلامية، لم يكن لأسباب دينية أو عقائدية، فالإسلام يرفض ذلك جملة وتفصيلاً، لكن اضطهاد المفكرين والعلماء والاستبداد بالأهالي وقع لأسباب سياسية، وهذا صحيح تاريخياً، لكن الصحيح أيضاً أن الأهداف السياسية للاستبداد لاضطهاد العلماء مثل ابن رشد أخذت أبعاداً دينية، وأساءت إلى العقيدة الإسلامية. يعنينا من هذا الحوار، وذلك الكتاب اليوم، أن موجات من اضطهاد الكتاب والمفكرين والسياسيين بدأت تعلو في واقعنا، وهناك تمجيد للاستبداد السياسي والفكري، وهذا كله يتم لأطماع سياسية أولاً وأخيراً، لكن من يقومون به يزعمون أنهم يدافعون عن الدين ويبغون حمايته، هذا ما يحدث في مصر وفي تونس وفي ليبيا، حتى وجدنا من يهاجمون شيخ الازهر، فضيلة الإمام الأكبر، بل يهاجمون الأزهر نفسه، بدعوى الحفاظ والغيرة على الدين. من المهم أن نقرأ هذا الكتاب بعين وفهم اليوم، حتى ندرك ما يحدث حولنا، على الرغم من أنه يتناول ابن رشد وعصره، وعلى الرغم من أنه كتب قبل أكثر من 110 سنوات بالتمام والكمال. ولنسأل أنفسنا.. لماذا يعشش الاستبداد بيننا إلى هذا الحد، ولماذا يبقى المتاجرون بالدين وبالإسلام كل هذه القرون، يبدو أننا لا نتعلم ولا نعي دروس التاريخ.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©