الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

على قيد القصيدة

على قيد القصيدة
2 أغسطس 2018 02:21

هذه نماذج من قصائد كثيرة لشاعرة كبيرة القدر والتجربة والاشتغال الفنّي، وصل شعرها إلى كلّ القلوب، خصوصاً وقد أكثرت من الحنين والوصف والغزل العفيف واستذكار الديار والأزمنة بكلّ ما في أطلال الزمن من حنين.

 

مما يلفت النظر لدى الشاعرة عوشة بنت خليفة السويدي أنّ بحورها جاءت بمجملها سريعة الوقع الموسيقي، ليّنة، تحمل ألفاظاً بدويّةً أصيلةً ومعاني لافتةً تؤكّد أنّ الشاعرة لن تغيب رغم رحيلها، وستبقى بكلّ إحساسها المرهف على قيد الحياة في قصائدها السخيّة التي تظلّ مرسومةً على شفاه الشعراء المحبين الذين قبسوا منها كلّ هذا الإحساس.
إنّ وقفةً مع أيّ نموذجٍ لـ «فتاة العرب» تجعلنا نثق جداً بتوافر قصائدها على عناصر أدبيّة مبررة فنيّاً لأن تُقرأ وتُدرّس، لاستنباط جمال الصّورة الفنيّة، والتركيب اللغوي؛ بمعنى أنّ الشّكل والمضمون لدى الشاعرة تآلفا وانسجما دون أن يطغى أحدهما على الآخر، وتلك ميزة مهمّة لشاعرة لا يزال شعرها كأنّه اليوم، مع أنّه شعرٌ يضعنا بجوّ الشاعرة التي ظلّت تنبض قصائدها بالحداثة في قالبٍ قديم.
ومعنى ذلك أنّ الجيل الشّاب، حتى مع وجود ألفاظ من جيل الشّاعرة التي راكمت ما يزيد على عقود تسعة من التجربة والحياة والشعر وتداول الفكرة، لن يُعرض عن شعر عوشه السويدي، وما ذاك إلا لأنّها عرفت كيف تمسك بقوّة التشبيه وطزاجة الموضوع والتقاط الفكرة لبناء قصيدة، جعلت المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، يشاكيها لمزيد من الشعر، لتتدفّق بقصائد كانت ولا تزال محطّ إعجاب الخليج والعرب وانتظارهم لمفاجآتها، لتتسمّى بعد ذلك «فتاة العرب»، كشهادة لها من الشاعر الكبير صاحب السّمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدّولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، الذي أوحى لها بقصائد، وساجلته بروح الشّاعرة الحقيقيّة ذات النَّفَس الشّعريّ الأصيل.

 

«بارد النسناس»
«بارد النسناس»، القصيدة التي قالتها ردّاً على قصيدة الشّيخ محمد بن راشد آل مكتوم، تبرز فيها الألفاظ الجزلة، وليست الجزلة فقط، وإنّما الألفاظ التي لا تلين لكلّ شاعرٍ بالسهولة التي يظنّ، فحين ينطلق شاعرٌ ليُعجز أو يتحدّى بجرس حرف كحرف «الجيم» كقافية مثلاً، فإنّه حتماً لا بدّ يسقط في شرك النّظم، أو تظهر الصّناعة في بنائه الفنيّ هذا، في حين أنَّ الشاعرة عوشه استطاعت لميزةٍ مهمّة، وهي أنّها امتلكت اللهجة القديمة «الفصيحة» والقويّة المتحدّرة من الصحراء وقساوتها، فجمعت بين صخب الصحراء وفق ما يمليه الظرف اللَّهَجِي، وحساسيّة الشعر، كجنس أدبي رقيق يسعى دائماً إلى بناء المثال والقفز فوق ما هو متاح إلا ما هو مُتصوّر، واستطاعت أن تجعل من الإحساس الصحراويّ البدوي عالياً جدّاً في صورة أو مشهديّة:
بارد النسناس بالنّفح الأريج
يابهنّ العود بالمسك العبوق
والنسايم لي بها الذّكرى تهيج
ما يضمّه نابض القلب الخفوق
ينتعش به كلّ مغلولٍ عويج
لو يجاسي من مصابه ألف عوق.
هذه القصيدة التي تتلاطم كموجٍ هادر يضرب صخرة، بكلّ هذه القوّة شكلاً ومضموناً، تحمل هذا الشعور الذي يتلاطم أيضاً فيه الشوق والذكريات بالإخلاص في تصوّر أو استعادة الذكريات الشفيفة، كما في الأبيات:
عند من في الجيل موزونه يشيج
بالمعاني لي لها في الفنّ ذوق
لؤلؤٍ مفروز من غزر اللجيج
ما يرابح فيه للطوّاش سوق
من وحي لإلهام مبروم النّسيج
أسفرت به شمس دنيانا شروق
مرحباً يا بلسم الجرح الغميج
ساري المفعول في نبض العروق.
إنّ القرب اللفظي بين حرفي القاف - نهايةً للصدر والجيم نهايةً للعجر- في القصيدة، يجعلنا نتيقّن من أنّ إصرار الشاعرة على التّحدي وجعل الحرفين رقيقين متآلفين، مع أنّ أحدهما قد يُقلب جيماً أو قافاً، كما في «شروق» أو «شفوج»، هو تحدٍّ جاء غير مصنوع أو غير ثقيل أو ليس بالْمُتَكلَّف على الإطلاق، وما ذاك إلا لأنّ الشاعرة هي بِنْتُ هذه الألفاظ التي بَنَتْ قصيدتها بالمتاح- اللفظ- والْمُتَخَيَّل- الشّعر- ولذلك كانت القصيدة متدفّقةً بالجمال البنائي، وبالصورة المرسومة أيضاً في مساجلة مع شاعر أولاً هو صاحب السّمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، بما عُرف عنه من إبداع، وثانياً لأنّ هذه الْمُساجلة تأتي كمناسبة، والمناسبة دائماً ما تقلق الشعراء وهم يتخيّرون ويفاضلون وربّما لا يحسنون في النهاية أن يصلوا إلى توليفةٍ ما، لكنّ الشاعرة عوشة عرفت كيف تجعل من المناسبة عالماً اعتياديّاً يضجّ بجمالٍ أخّاذ، الفارس فيه حرف «الجيم» الذي تحمل ألفاظه كلّ هذه الأفكار داخل الفكرة الواحدة:
روح دهن العود والأذفر فتوق
يحمله منّي مع طيب الأريج
كاعبٍ جذّاب فتّانٍ فنوق
بو يديلٍ فوق متنينه طليج.

 

«تختال عيني»
وعلى المنوال ذاته، يظفر القراء أو المتتبع لقصائد الشاعرة عوشة السويدي بقصيدة مهمّة موسيقياً وصوراً فنيّةً وجزالةً، وهي قصيدة «تختال عيني»، القصيدة التي تمتلك فيها «فتاة العرب» كلّ مقوّمات النّجاح الشعري، إذ تستهلّ بقولها:
تختال عيني جملة أريام
ما بين غرس أو عاضد الموز
ويلا عجيد الرّيم قدّام
لي بالغوى والحسن مفروز
لي في الغواني مثله إعدام
بين الذّهب شتّان والروز
فإلي عسنّك دايم أصدام
وأنا بفالك دايم أفوز
وقفت كنّي ماسك ألزّام
لك احترام أوفيّه أحفوز
في شوفة الخدّام لعمام
وانته بهذا الشّان معزوز
وإلا فأنا في هم وأسقام
إتبات لي في يوفي أكزوز.
ولا تخفى قوّة هذا الاستهلال وقافية الحرف الرنّان، وصور الغزلان والحُسن والذّهب والحلم والأمنية، وهي بلا شك تشبيهات بِنْتُ بيئتها، انقادت بمحبّة للشاعرة التي لم تذهب إلى ألفاظ متداولة، بل وجدت في الميزة النسبيّة لألفاظ الصحراء عامل نجاح في الإمساك بالتشبيه المتضمّن في اللفظة بحدّ ذاتها حين تجتمع الألفاظ في مشهد بديع، كما في قولها وتذلّلها أمام هذا الذي طغى على فكرها، إذ تقول: «وقفت كنّي ماسك ألزّام/‏‏‏‏‏ لك احترام أوفيّه أحفوز/‏‏‏‏‏ في شوفة الخدّام لعمام/‏‏‏‏‏ وانته بهذا الشّان معزوز»، وتلك صورة بديعة جداً تعضدها صور البعد والحرمان والشّوق والعتاب، إذ تقول: «وإلا فأنا في هم وأسقام/‏‏‏‏‏ إتبات لي في يوفي اكزوز/‏‏‏‏‏ مقدار اعاتبكم ولو دام/‏‏‏‏‏ هجرك وضيقي بالغ الحوز/‏‏‏‏‏ ولو مرّ بي عامٍ ورا عام/‏‏‏‏‏ رضيت به لو كنت ما يوز/‏‏‏‏‏ كم أبعدتني عنك لايّام/‏‏‏‏‏ وأنا مقيم ولا لي أخوز/‏‏‏‏‏ أسأل عنكم برد لأنسام/‏‏‏‏‏ وأرتاح به لو كنت مفلوز».

 

«يوم الدّجى»
من قصائد الشّاعرة الغزليّة أو الوجدانيّة التي تدخل في باب الاستذكار والحنين، قصيدة «يوم الدّجى»، وهي قصيدة عذبة ومميزة، تتألق فيها «الياء»، ذلك الحرف الدّال على الملكيّة أو «الخصوصيّة» بمعنى أدق، أو كحرف إشباع يستوعب كلّ هذا الشعور، وهو الحرف الذي يحمل راحةً نفسيّةً أودعتها الشاعرة في ثناياه، لدرجة أنّ الألفاظ قليلة العدد والبحر السريع الحزين المشوب بالقلق والخوف، أمورٌ تجعل من القصيدة برقيّةً سريعة التأثير، إذ تقول عوشه السويدي:
يوم الدّجى والليل جنّي
بي همّ.. بي جرحٍ سباني
ما شيّ عنكم مشغلنّي
يا زين يا عذب الثّماني
عن وصل غيرك والله أنّي
شلّيت بشراع أو مياني
أيّام هجرك ذكّرني
بسعود وصلٍ من زماني
يضحك وأنا أبكي مولّعني
وجدي وسيدي في تهاني.
هذه المشهديّة الآسرة في الاشتغال على المتناقضات، حيث الضّحك والبكاء وحيث مقوّمات صارخة بالجمال والوصف، كلّ هذا فضلاً عن اشتغال الشاعرة الفطري غير الثقيل على تجاور الحروف في لوحة صوتيّة عذبة مميزة تنمّ عن ثقافة عالية بالمكان العربي والأجنبي، وحسن أوصاف البشر وطبائعهم وبلدانهم.

 

قزّرت ليلي في هواجيس
هذه القصيدة تعتبر من روائع «فتاة العرب»، التي استهواها حرف «السين» بكلّ ما فيه من ميزة يعرفها الشعراء، حيث الوقف الهادئ، و«تناوب السين» بين حرفي الياء والواو في نهاية الشطر ونهاية العجز، ولا شكّ أنَّ في ذلك صناعة خفيفة لا يحسّ القارئ إلا بجمالها ورونقها، في قصيدة تقف فيها الشّاعرة منتصف الليل صادقةً في الوصف قد ألحّ عليها الشّوق وألهمها الهدوء استعادة الذّكريات، إذ تقول:
قزّرت ليلي في هواجيس
يوم الخوالي ذهّل انعوس
جنّي ربيطٍ في المحابيس
عليه ترقب جند محروس
بي وجد حبل العامري قيس
بأشواق ليل هوب مدسوس
ظبيٍ من الخود المكانيس
لي له ابطور الزّين ناموس
حطّ ابحشايه عرش بلقيس
وله امعلوقي كرس إيلوس.
وهذه لوحة بديعة، تشبيهاتها مضيئة وفطريّة مريحة تتقبّلها النفس لما فيها من دفقات حارّة لا تتعثّر بصعوبات التلقي أو معيقات الإيصال.
إنّ الصّورة الغزليّة ليست مبتذلةً أو «رخيصةً» في العرف العذري، فهي صورة نبيلة لكنّها غير جافّة، فالأوصاف النبيلة - الجسديّة والحسّيّة - تتناوب على هذا الذي تزهو صورته لدى الشاعرة عوشه، فهو «حشيم عن تبع المدانيس/‏‏‏‏‏ لي ما يبيع الطّبع بفلوس».
بقي القول إن جماليّة التشبيه وكونه ابن بيئة الشاعرة، هو الذي جعل شِعرها مغنّىً وزاد من توصيله إلى الناس الشاعر المتألق الإماراتي ميحد حمد بكلّ إحساسه الموسيقي والبدوي أيضاً، خصوصاً في قصائد من مثل قصيدة «حدّ مثلي بات مشجنّه»، التي تقول فيها الشاعرة «فتاة العرب»: «حدّ مثلي بات مشجنّه/‏‏‏‏‏ حلم طيفٍ مرّ خطّافي/‏‏‏‏‏ واغتنم من وجدي الونّه/‏‏‏‏‏ يوم كلٍّ بالكرى غافي/‏‏‏‏‏ جرح في جاشي امخفّنه/‏‏‏‏‏ والخوافي ضربهن خافي/‏‏‏‏‏ لي محبٍّ منّي أو منّه/‏‏‏‏‏ حبّ مثل الجوهر الصّافي».
وهي القصيدة التي يبدو حرف «الفاء» اختياراً موفّقاً، نظراً لصفاته الجماليّة العريقة عروضيّاً أو موسيقيّاً، مثلما يصرخ حرف «السين» في «هبّ شرتا» للشاعرة «فتاة العرب» وهي القصيدة التي غنّاها ميحد حمد، وألقتها الشاعرة بصوتها المميز المنفعل بما تحمله القصيدة من أفكار تهديها إلى صاحب السّمو محمد بن راشد آل مكتوم، وتقول في مطلعها:
هبّ شرتا لافحٍ ترسا
من فيوي دبي نسناسه
ياب لي في مسمعي همسا
حرّكت من قلبي أجراسه
لي بذوقه تنطق الخرسا
والبليد يرجّع إحساسه
حيّ قولٍ به زها الطرسا
يشبه الديباج بالماسه
لو قوافي كالصخر ملسا
المنقّا من حجر ماسه
كم درشته بالذكا درسا
واسفر اليه نور نبراسه
غِصْت به قوع ابحرٍ غلسا
يتعب اليدّاف مفراسه.
وهي قصيدة طويلة تشتمل على إعجاز لغوي وموسيقي وصور فنيّة دقيقة يدخل فيها البحر والصخر والقوافي والمدح اللائق بالشعر القويّ في بحرٍ موسيقيٍّ يسير مغنّى وجميل.

 

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©