الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قصة ليست للنشر

قصة ليست للنشر
23 ابريل 2006
سعاد جواد:
suad-jawad@hotmail.com
لم أتعود خيانة الأمانة، ولا أقصد الأمانة المادية فقط، وانما أقصد أمانة الكلمة وأسرارها، فمعظم القراء يرسلون مشاكلهم إليّ بقصد نشرها، إلا هذه القارئة، لقد عجبت لأمرها، فهي أرسلت لي قصة مؤثرة جداً ولكنها ختمتها برجاء حار بعدم نشرها! أمر عجيب وغريب عليّ، لم اعتده طوال كتابتي للبيوت أسرار·
بقيت مترددة لفترة ولكنني حسمت أمري وقررت نشر القصة لأنني وبدافع حسن النية أحسست بأنها مسؤولية كبيرة سأحاسب عليها ان لم أنقل معاناة تلك الإنسانة وأسرتها إلى النور، فلا داعي لاستمرار المعاناة مادام الحل موجوداً وان الله سبحانه وتعالى قد سخرنا جميعاً لخدمة بعضنا بعضا كل على طريقته الخاصة·
واسمحوا لي ان أنشر القصة كما هي مع بعض التعديلات البسيطة· تقول الرسالة: حكايتي فضفضات جروح غائرة، لست أدري متى ستندمل، فهي على مر السنين بقيت نازفة ولكني سأخط تفاصيلها لأزيح عن قلبي ولو جزءاً بسيطاً من المعاناة، فاسمحوا لي ان أحدثكم عن نفسي·
نشأت وتربيت على أرض هذا الوطن الغالي، الذي لم أعرف غيره· طفولتي، مراحل دراستي كلها، تظللني سماؤه الصافية ويمتد أمام ناظري بحره الأزرق الخلاب، كل ذرة من ترابه يتداخل حبها مع خلايا جسدي وينمو معه يوماً بعد يوم·
بدأت مأساتنا قبل ست سنوات· كان والدي عسكرياً يعمل براتب بسيط، وهو يعيل اسرتنا المكونة من أمي وستة أبناء، انا أكبرهم وكنت طالبة في الثانوية· وعلى الرغم من قلة الدخل وعدم وجود مصدر غيره، إلا ان والدي كان قوياً بصبره واحتسابه، فسارت الأمور بشكل طيب·
بدأت استعداداتي لامتحانات الثانوية بروح عالية، وأملي في الحصول على نسبة لا تقل عن 95 بالمئة، فطموحاتي لا يحدها حد، خصوصاً وانني لا احب تضييع الوقت في العبث وكنت متفائلة جداً··· ولكن! حدث ما لم اكن أتوقعه أبداً·
أحداث مفاجأة
بشكل مفاجئ تمت إقالة والدي من عمله، اتعلمون ماذا يعني ذلك؟ يعني ان يختفي المصدر الوحيد لرزقنا، يعني ان يضيع مستقبلي في الدراسة، يعني ان يبدأ البحث عن عمل جديد كمن يبحث عن أبرة وسط كومة من القش·
حدثت هذه الكارثة أثناء مذاكرتي وقبيل الامتحانات بأيام، فتبعثرت أوراقي، وتاهت أفكاري واختلطت علي الأمور وضاقت بي الدنيا·
بكيت· ولكن ماذا تفيد الدموع؟ حاولت التناسي، حاولت إبعاد الأفكار المؤلمة عن رأسي حاولت ان أذاكر بتركيز، بذلت قصارى جهدي، ودخلت الإمتحان وحصلت على نسبة دمرتني واحبطتني بشدة، انها 72 بالمئة في الفرع العلمي·
لم أتوقع ان ينزل مستواي بهذا الشكل ولكن قدر الله وما شاء فعل· حزنت وتألمت واحسست بأن تعب سنين التفوق كلها قد ضاع مني، ولكني لم ايأس وقررت المواصلة تحت أية ظروف، فوالدي يتخبط هنا وهناك في عملية البحث عن عمل وكان لابد ان أتخذ موقفاً لمساعدته· دخلت دورة كمبيوتر في محاولة للحصول على شهادة تؤهلني للعمل بسرعة·
خرجنا من شقتنا لأنها كانت على حساب عمل والدي السابق، واستأجرنا بيتاً صغيراً بنفس المنطقة·
أكملت دورة الكمبيوتر في ثلاثة أشهر، ثم بدأت رحلة البحث عن وظيفة، فوجدت عملاً بسيطاً بدوامين صباحي ومسائي كمدربة للحاسب الآلي للفتيات براتب ضئيل جداً· حمدت الله كثيراً لأنه اصبح الدخل الوحيد لأسرتي على مدى ثمانية أشهر·
قرار الرحيل
بعدها قررنا السفر الى بلادنا التي لا نعرفها جيداً، حيث كنا نزورها في سنين متباعدة جداً زيارات قصيرة· ثم تقدم ابن خالتي لخطبتي، فوافقت على الارتباط به في محاولة للاستقرار هناك·
لم يكن الأمر سهلاً أبداً، فارتباطنا وحنيننا كله كان للامارات الغالية، فبتنا نحلم بالعودة إليها من جديد· عاد والدي لوحده في محاولة جديدة للبحث عن عمل، وبقي في تلك الدوامة ثلاث سنين وهو على إقامة احد اصدقائه ثم وجد عملاً شاقاً لمن في مثل سنه في شركة خاصة·
اقنعت أمي والدي بالعودة إلى الامارات التي بقيت في قلبي وفي خواطري وطناً أبدياً لا يمكن نسيانه· وافق وعدنا الى الأرض الغالية·
بعد بحث دام سنتين حصل أبي على عمل براتب بسيط، أما انا فلم استطع تحقيق احلامي في إكمال دراستي أو الحصول على عمل، وكانت آمالي كلها تموت أمامي ولا استطيع فعل شيء· تعبت وتألمت وكتبت الأشعار والخواطر والروايات التي بقيت محبوسة خلف أدراج مكتبي، فلا يراها غيري· علامات الحزن رسمت خطوطها على وجهي ولم تعد تفارقه، والإحباط نشر خيمته على حياتي كلها ومنع عني كل أضواء الأمل·
والدتي الحبيبة، التي ربتنا على الخير والصلاح والأدب، كانت تصبرني دائماً وتدعوني للتفاؤل وتدعو اخوتي للصبر وهي تراهم في احباط شديد· فقد أكمل كبيرهم الثانوية وجلس في المنزل· أما الثاني فقد أصابته حالة مرضية نفسية اقعدته عن دراسته بعد إكمال المرحلة الاعدادية· ثم أكملت اختي الثانوية وجلست هي الأخرى في المنزل، ولازالت اختي الصغرى تدرس في الثاني ثانوي وأخي الاصغر في الثاني اعدادي، فما هو المصير الذي ينتظرهم جميعاً؟ والله لا أدري··· اصارع همي وهمومهم، فكلما تخرج الواحد منا جلس في البيت، فلا قدرة على تحمل تكاليف الجامعات الخاصة ولا أمل آخر ينتظرنا·
كل ما مر بنا يهون ويحتمل ولكن الفاجعة الحقيقية هي ما أصابنا قبل عامين، لقد كانت صدمة شــديدة تفوق طاقة احتمالنا·
الصدمة الكبرى
مرض والدي مرضاً مفاجئاً، ودخل على اثره إلى المستشفى· قرروا له عملية سريعة في رأسه، فقد كان مصاباً بورم سرطاني في الدماغ·
هذا المسكين المكافح كان يعاني طوال الوقت بصمت دون ان يدري به أحد· لا احد كان يدري مقدار تعبه وأذاه· بقي في المستشفى بعد ان اجريت له العملية لمدة شهر وعشرين يوماً· ثم كانت الصدمة الأعنف والتي لا يمكنني نسيانها ما حييت· توفى والدي فكانت وفاته القشة التي قصمت ظهر البعير· فهل يمكن لحياتنا ان تستمر بدونه؟ هذا الأمر كان الأصعب·
على الرغم من صعوبة فراق الغالي، إلا ان التساؤلات القاسية فرضت نفسها على تفكيرنا، ماذا سنفعل؟ كيف سنتصرف؟ كيف ستسير الأمور؟ فلا مكان لنا في بلدنا ولا مكان لنا هنا أيضاً، فالغربة اصبحت تلفنا من جميع الجهات·
رحمك الله يا والدي واسكنك فسيح جناته· كنت الأقرب إليه لأنني الأكبر، وكان الأقرب إلى قلبي، ليس لأنه أبي فحسب، بل هو أبي وصديقي وحبيبي· كانت علاقتي به أكبر مما يتصوره احد، وحبي له عميق جداً، وحزني لفراقه جرح نازف لا ينضب، ولا يندمل أبداً·
ها نحن نتخبط في ظلمات الهموم، انا وأمي واخوتي، كل ما نملكه الآن هو راتب أبي الذي لا يزيد عن ألفي درهم ولله الحمد والشكر على كل حال·
لجأت بعد الله تعالى لقلمي ولكتاباتي ولاشعاري ولكن، ما نفع ذلك؟ أريد ان أوظف قلمي فلم اجد باباً يفتح أو اذناً تستجيب، كل الأبواب اجدها مغلقة، فأين أبحث عن عمل؟ وهل يتحقق حلمي البعيد في إكمال دراستي؟ لجأت لأماكن عديدة فلم أجد من يسمعني، فماذا افعل؟ هأنذا أكاد افقد صوابي من سوء الحالة· الأيام تمر وكأنها أعوام، ونحن ننتظر، فما أصعب الانتظار·
أعذروني··· أخط كلماتي وقد حجب الدمع رؤيتي، وما هذه الكلمات إلا نزف يفيض به قلبي، في حين لست أدري لماذا اكتب، ولكنني كتبت وانتهى الأمر· لم أفكر بنشر حكايتي لأن الشكوى لغير الله مذلة، وقد كتبت لك سيدتي لما لمسته من روحك الطيبة من خلال كتاباتك التي أتابعها باستمرار·
تأكدي بانني اتواصل معك في كل حرف تكتبينه، ولا أدري كيف دفعني احساسي للتواصل معك وبث شكواي التي اتعبتني طويلاً·
ليس هدفي هو نشر القصة، فلست أراها صالحة للنشر، ولم اشتك سوى لربي قبل اليوم، ولكني أجد نفسي مشدودة للكتابة لك، وأجد ان قلبي صار يبوح بسهولة كما لم يكن يفعل ذلك من قبل· لا أدري لماذا لست راغبة بنشرها، قد يكون احساسي بان فيها ضعفا أو لجوءا لغير الله، وذلك يؤلمني بشدة· صدقيني عندما تتحسن أوضاعي، ويفرج الله كربتي سأخبرك، لأنني أعلم ان قلبك الطيب يهمه امري، وأمر كل من يتألم ويعاني من صعوبة اختبارات الدنيا ومتاعبها·
أعدك بأن اتواصل معك فيما تنشرينه في هذا الباب من قصص هادفة تشفي الروح وتزيل آلام الجروح، فعندما يرى الناس ابتلاءات غيرهم فإن بلواهم تصبح هينة·
رسالة معبرة
استطاعت صاحبة القصة ان تؤثر بي تأثيراً مضاعفاً بكلماتها الرقيقة الحساسة، مما دفعني إلى عدم الإلتزام بطلبها ورغبتها في عدم نشر القصة، فانا متأكدة بان الله سبحانه وتعالى سيجعل لها سبباً في حل أزمتها، ويسخر لها من يقف إلى جانب عائلتها في هذه المحنة القاسية· وانا متأكدة من ذلك، فلم يسبق ان نشرت قصة تحمل مثل هذه المعاناة الانسانية الصادقة، إلا ووجدت اليد الرحيمة التي تمتد من المجهول فتغير الحال وتنهي المعاناة·
فلتسمح لي صاحبة القصة بهذا التجاوز وعدم التقيد برغبتها في عدم النشر، ولتعلم ان هدفي الأول هو الوقوف إلى جانبها بعد ان تعاطفت معها بشكل كامل، ولأنني كاتبة فإن الأمانة تحتم علي معالجة الأمر بالطريقة الوحيدة التي أملكها وهي إعادة الكتابة والنشر، لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©