الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الدوغمائية في الخطاب النقدي العربي

الدوغمائية في الخطاب النقدي العربي
25 يونيو 2014 22:31
د. صالح هويدي لا تزال المناهج النقدية عامة والعربية خاصة، تمثل إشكالية فلسفية في عالم النقد، وهمّاً يؤرق كثيراً من النقاد والمشتغلين في مجال النظرية النقدية. بل إنها تفتح الباب واسعاً أمام مواقف نقدية وفلسفية عديدة، بين من ينكر الوجود الموضوعي للنص، وبين من يعلي من حقيقته الموضوعية المستقلة عنا، بين من يرى أن ثمة إمكانية للوصول إلى تفسير يمكن الإجماع عليه وآخر ينكر إمكانية الركون إلى تفسير محدد، بل بين هؤلاء وبين من يرى أن بالإمكان ترجيح تفسير للنص، في مقابل من يرى استحالة استنفاد ممكناته الدلالية واستيعابها، إذ يظل النص عندهم من حيث هو كيان، موئل تجدد وتعدد. على الرغم من هذه الحقيقة الواضحة في الممارسة النقدية، فإن السلوك النقدي لجل نقادنا العرب وكثير من النقاد الغربيين يشير إلى عكس ذلك، إذ نراهم يصدرون في نقودهم عن رؤية نقدية محددة لا يتخطونها، تتمثل في إيثارهم منهجاً واحداً يلتزمونه هو المنهج الواحدي. وأقصد بالمنهج الواحدي ذلك المسعى النقدي الذي يصدر عنه نقاد عرب وغربيون، وهم يمضون لقراءة النصوص الأدبية، متخذين من بعض المرتكزات الفكرية التي اعتادوا الصدور عنها، منطلقاً وآلية وحيدة في القراءة والمساءلة والتفكيك، وإن اختلفت مع روح النصوص أو تباينت معها. ولئلا نذهب بعيداً نقول على نحو عام لا سبيل إلى الخوض في تفاصيله هنا، إن من المعروف أن المناهج النقدية نوعان: مناهج تستند إلى نسق المرجعيات الخارجية وأخرى إلى نسق المرجعيات المحايثة، وأن الخلاف وإن كان خفّ بين الفريقين، لكنه لم يتلاش ولم تختف مظاهر التقوقع والرفض وتهميش الآخر لدى كليهما في خطابنا النقدي. المناهج الخارجية على أية حال، ليس بمستطاع أحد نكران إمكانية حضور جانب من حياة مبدع النص، أو ملامحه، أو معتقدات عصره، وثقافته، ومنزلته الاجتماعية، في ما يكتب ويبدع كما يرى دعاة المنهج التاريخي. مثلما لا يمكننا إنكار إمكانية الاستدلال على التركيبة السيكولوجية للمبدع، وعقده ومركبّات نقصه ورغباته اللاشعورية، وخيباته ونجاحاته وطموحاته، في بعض ما ينشئه من إبداع. وعلى النحو نفسه لا يمكننا إلا التسليم بما للنصوص الأدبية من قدرة على التعبير عن الواقع الاجتماعي والثقافي للمجتمع وتركيبته الطبقية. لكن هذا الذي نؤمن به، ومعنا جمهور كبير من النقاد، لا يقف عند حدود المناهج النقدية ذات النسق المرجعي غير المحايث (الخارجية)، وإنما يمتد إلى منهجيات من مثل: المنهج النصي والمنهج السيميولوجي والمنهج الأسلوبي والمنهج البنيوي ومنهج التفكيك ومنهج القراءة والتقبل وسواها. ذلك أن النص الأدبي بنية مجازية، وتركيباً لغوياً، وشفرة دلالية، ونمطاً أسلوبياً خاصاً، ومنظومة من العلاقات البنيوية، وإمكانية دائمة للتجليات والتشكّلات، ما يجعل من المقاربات الأخيرة ذات النسق المحايث مسوغة وممتلكة فاعليتها المنهجية. والسؤال: ما الذي تعنيه هذه الحقيقة؟ إن هذا يعني أن بنية النص الأدبي بنية لها سمة الشمول والتركيب والشفافية التي تجعلها قادرة على عكس جملة من الحقائق والصور والأشياء والرموز، وأن بالإمكان استخدام المداخل المشار إليها لمقاربة تلك النصوص وتفكيك بُناها. لكن علينا أن نوضح هنا أمرين مهمين يفرقان بين نسقي المقاربة المنهجية الخارجي والمحايث، أولهما: إن حضور الظاهرة أو العلامة شيء والمدخل المنهجي في مقاربتها شيء آخر، وأنه ليس من اللازم التوحيد بينهما، فهما ليسا شيئاً واحداً. وثانيهما: نوعي يتمثل في أن نسق المرجعية الخارجي هو نسق لفهم النص وتفسيره (تفسيري)، في حين تبدو المناهج ذات المرجعية المحايثة مداخل تحليلية، تقييمية أو وصفية (إجرائي). فعلى سبيل المثال نقول: إننا استمتعنا كثيراً بما كتبه طه حسين عن المتنبي، وما كشف من صلات وتأثيرات بين الشاعر وبيئته وشعره، مثلما استمتعنا بما كشفه العقاد من نواح سيكولوجية لدى أبي نواس، ومن عقد ومركبات نقص، تولى إماطة اللثام عنها ناقد كبير آخر كالنويهي مثلاً. لكن حجم الإيغال في نسيج النصوص وتفكيك بناها وتحليل مستوياتها وعلاقاتها النصية ودلالاتها السيميولوجية، كان الأقل حظاً في جهود هذا الرعيل من النقاد الكبار، ومساعيهم في البحث والربط والتفسير بين النسق المرجعي الخارجي والظاهرة الأدبية. وإذا كان هناك من معنى يمكن أن يخرج إليه هذا المقال فهو أن ثمة تمايزاً بين النسقين النقديين، يجعل من حضورهما أمراً لازماً أحياناً، إن شئنا الوصول إلى ضرب من التكامل، وأن وضع بعضهما في مقابل الآخر والمفاضلة في ما بينهما، لاستبعاد أحدهما أمر ينطوي على نوع من المغالطة وسوء الفهم. فليس ثمة قراءة صحيحة وأخرى خاطئة بالمطلق، إنما هناك قراءة وجيهة أو مدهشة أو فاعلة وأخرى ضعيفة أو متعسفة أو هامشية. وإذا كان صحيحاً أن صاحب الأثر الأدبي جزء لا يتجزأ من الظروف الخارجية ومعطياتها التاريخية والذاتية جميعاً، فإن ذلك لا يعني بالضرورة معادلة النصوص بمعطياتها الخارجية الحاضنة لها. إن ما هو مهم في تقديرنا ليس تحقيق العلاقة بين الظاهرة الأدبية وحاضنتها، بقدر ما هو مهم الكشف عن نسبة المفارقة المتحققة بين طبيعة التشكل الفني للظاهرة الأدبية والمعطيات المحيطة بها، أي بما يميزها من محيطها ويجعل منها بنية فوقية لا بنية تحتية، إذا ما استعنا بالأدبيات الماركسية. فمن أكبر الخطايا مساواة النص الأدبي بحكايته، أو المبنى الحكائي بالمتن الحكائي. ولعل هذه المفارقة تعني من بين ما تعنيه، أن قدراً من التحريف والتعديل والتأويل، قد طرأ على واقع التجربة الأولية، قبل الارتقاء بها إلى مستواها الإبداعي الناضج، وانتقالها من مستوى الموضوع والخبرة المباشرة الساذجة إلى مستوى البنية الرمزية. من هنا فإن علينا ألا نكتفي بتلمس مظاهر أو تأثيرات سلطة المؤثرات الخارجية على مستوى القراءة، وأن نسعى إلى مباشرة النسيج الفني للنص الأدبي من داخله، من دون أن يعني هذا إنكار الصلة في ما بين النص وأنساقه المرجعية على المستوى الواقعي، كما بدا ذلك في كثير من مواقف التطرف التي شهدتها المناهج النقدية التي ألحت على أنه ليس ثمة ما هو خارج لغة النص أو ألفاظه. إن هذا يعني أننا على مستوى القراءة، قد نتعرف إلى صلات، ونتلمس ملامح علاقات، ونكشف عن دلالات ذات صلة بالظروف المحيطة بالظاهرة الأدبية. وذلك كله مشروع ولا غبار عليه. لكن من غير المشروع ولا المسوّغ أن نتخذ من تلك المعطيات الخارجية تعلات للتوسل بالنصوص، من أجل إثباتها والكشف عنها، لأننا بذلك نسلك نهجاً خارجاً على سنن تشكّل العمل الأدبي الذي يوجب علينا الاستدلال على العلاقة الجدلية مع النسق الخارجي، من خلال البناء الفني الداخلي وليس العكس. لا شك في أن ما أنتجه الخطاب النقدي من رؤى ونظريات استهوت النزوع المعرفي فينا، من قبيل القول بالتناص وبموت المؤلف، وحدّت في الوقت نفسه من نرجسية المبدع الذي كان يحتكر سلطة المعنى، يؤيده في ذلك جمهور من القراء والمحبين والنقاد الذين أشاعوا لحقب طويلة فكرة (المعنى في قلب الشاعر أو في بطنه)، ليتكون وعي نقدي جديد على أنقاض الوعي القديم، يرى أن قراءة نص شعري يمكن أن تتغير إذا ما تمت في ظل مجموعة نصوص أخرى للشاعر. وأن قراءة نص المتنبي تكشف عن تعدد صوره ومعطياته وتأويلاته في كل عصر وحين، وأن قراءتنا لهذا النص في أوقات ضيقنا وإحباطنا تختلف في نتائجها عن معطياتها ونحن في حالات بهجتنا وتفاؤلنا، وأن تلك المعطيات ستتغير في القراءة الثانية أو الثالثة عنها في القراءة الأولى، وهي لا شك ستتغير بتغير منظوراتنا ومناهجنا وقناعاتنا وقراءاتنا. وكل هذا يدل على أنه ليس ثمة معنى محدد واحد أو حقيقة موضوعية مستقلة في ذاتها ينبغي الوصول إليها أو الاتفاق حولها، بل ليس ثمة اكتشاف للمعنى بقدر ما هناك صناعة وتخليق له. وأن هذه المعاني أو المعطيات والتأويلات تدين في تحققها لطبيعة اللغة الإشارية في الأدب من جهة، ولفعالية القراءة وتداخل عادات القارئ وآفاقه مع النص، بمكوناته المحايثة والمرجعية معاً من جهة ثانية، فضلاً عن انبثاق تلك المعاني من طريقة بسط القارئ أو (الناقد) لفروضه ومعتقداته وأولوياته التي تستحضر تفسيراً معيناً أو تركيباً ينسجم وطريقة ترتيب تلك الفروض والأولويات. إبستيمولوجيا أم أيديولوجيا؟ يعكس السلوك المنهجي الذي يغلب على النقد العربي ويمثله بعض نقادنا صورة أخرى لواقع حال الاشتغال المنهجي على النصوص الأدبية، إذ يبدو هؤلاء النقاد وهم يتوزعون على المناهج النقدية الغربية في شكل تكوينات عَقَديّة، ينطلق كل منهم من قناعات نقدية مسبقة وانحيازات أيديولوجية قبْلية في مقاربة النصوص، لينفخ كل منهم أوداجه رافضاً منهجية الآخر ومعلياً من منهجه النقدي، في ضرب من ضروب الحماسة والرفض والتهميش. وعلى الرغم من أن البضاعة النقدية والعدة التي يمارس بها نقادنا العرب آلياتهم المنهجية تعود إلى المنجز النقدي الغربي، فإن السلوك الذي يعكسه كثير من نقادنا العرب، لا يُستمد من مناقبيّة النقاد الغربيين الأكثر مرونة، بقدر ما يُستمد من مكوناتهم الثقافية. لقد كانت المناهج النقدية لدى الغرب اشتغالاً معرفياً وفلسفياً دائباً وطروحات لا تلبث أن تتخلق من خلال الحوار الفكري المثمر في بيئة من الجدل والتأسيس النظري والمبادرات الخلاقة، في الوقت الذي تُختزل فيه هذه المناهج عندنا إلى محض بنى أيديولوجية ومنظومات عقَدية أشبه ما تكون بالمذاهب التي ينافح عنها أصحابها، ويخوضون حولها حروباً صغيرة، مثيرين غباراً وتجاذبات لا تعود على المشهد النقدي العربي والثقافي عامة بالخير. إن تعصب أصحاب المناهج النقدية لمناهج النقد الغربي، ودورانهم في فلكها، واقتناعهم بآلياتها، وإيمانهم بكفايتها واستقلالها، جعل تلك المناهج تبدو وكأنها ضرب من الموضة التي سرعان ما تنتظر ظهور صرعة جديدة لتنفض اليد عنها إلى غيرها تارة، ولتبدو على هيئة سلطة صنَميّة يستمد منها الناقد إيمانه، حارقاً لها البخور، ومستعرضاً لها بأفخم العبارات وأكثر الأساليب خفة وابتهاجاً، أكثر من كونها وسيلة أو أداة في خدمة صاحبها، فضلاً عن كشف هذه المناهج عن ملامح مواقف متطرفة، بعيدة عن التأني، وعن احتواء الرؤى المختلفة، لتجعل كلاً منها يقف على النقيض من الآخر. فإذا آمن دعاة المنهج الاجتماعي بكفاية المنهج ذي الرؤية التاريخية في فهم النصوص وقراءتها، ذهب أصحاب المنهج النصي إلى الاعتصام بحقيقة الوجود النصي وسننه الخاصة المستقلة عن إرادة القارئ والمنتج على السواء. وإذا تبنى أصحاب المنهج البنيوي النموذج اللغوي وسارعوا إلى تعميم أحكامهم، منكرين الإيمان بذات القارئ، جاعلين النص الأدبي مطية للنموذج اللغوي، ورهنا لبنية النسق الداخلي والنظام الفوقي المتحكم فيه، ذهب دعاة الهيرمينوطيقا والتفكيك إلى رفض التسليم بالوجود الموضوعي للحقيقة النصية، وإلى توكيد نسبية القراءة وعدم وجود قراءة يقينية واحدة، في شكل من أشكال الإعلاء من سلطة الذات- كما لم يحدث ذلك من قبل- ليفتح الباب مشرعاً على تخوم قراءات تأويلية تتجاوز رهن النص بأي منها، منتهين إلى عدّ القراءات جميعا نوعاً من إساءة القراءة لديهم أو لدى أصحاب منهج نظرية الاستقبال. إن السؤال الذي يفد على ذهن المتتبع لحركة مسار هذه المناهج هو: أمن الضروري أن تأخذ العلاقة المتحكمة بتلك المناهج صورة ضدية وشكلاً خلافياً، ينفي المنهج فيه الآخر نفياً تاماً؟ وهل من الضروري أن تكون الحقيقة قابعة في هذه الكفة أو تلك، من طرفي المعادلة الضدية، وأن يقود الاحتفاء بمنهج نقدي جديد إلى استبعاد غيره من المناهج وإهماله إهمالاً تاماً؟ وهل حقيقة المناهج النقدية كما نراها في كثير من تجلياتها لدى النقاد العرب الذين يحيلونها إلى عوالم منفصلة محصنة بأسوار منيعة، تحول دون التكامل والتفاعل والتواشج، بله اللقاء بين بعضها وبعض؟ ولعلنا لا يمكن أن ندرك الآثار السلبية الوخيمة لشيوع ظاهرة المنهج الواحدي في النقد من دون أن نقف عند بعض ما تفصح عنه مثل تلك الممارسات المنهجية. المناهج المحايثة وإذا كانت المقاربة النصية، المتمثلة في ممارسات دعاتها على اختلافهم، قد كشفت عن أهمية خاصة حين أولت النصوص عنايتها الفائقة قراءة وتحليلاً سيميولوجياً أو أسلوبياً أو أسطورياً، فإن هذه المقاربة لعناصر النص الجزئية، كان يمكن أن تزداد غنى لو أنها أخذت بمعطيات أخرى، ارتقت فيها المقاربة من تناول الجزئيات إلى تحليل العلاقات الكلية التي تنتظم بنية النص وتكشف عنها المقاربة المركبة، كما هي الحال لدى البنيويين مثلاً. لقد كان ما أصاب النصوص من شحوب وتهميش وإهمال من جراء التركيز على المعاني والمضامين والوقائع والحيوات سبباً كافياً لإحداث النقلة النوعية في الخطاب النقدي الغربي، إذ أعاد لتلك النصوص رواءها وحيويتها، حين أعلى من (سلطة النص) مستبدلاً إياها بالسلطة السابقة على أيدي أصحاب المنهج الشكلاني واتجاه ما عرف بالنقاد الجدد في انكلترا وأمريكا فيما بعد. لقد تسببت سلطة المؤثرات الخارجية في إثقال كاهل النصوص الأدبية بمرجعيات معرفية علقتها على صدرها من دون أن تفلح في إيلاء تلك النصوص العناية الكافية، فجاءت الشروح المدرسية والتنظيرات المعرفية على حساب هذه النصوص التي أصيبت بالفقر والشحوب. فكيف يمكن لنقد يشغل نفسه بمرجعيات النص ووثائقه أن يصل إلى حقيقة النص قبل أن يصاب بالشحوب والإنهاك، إن استطاع الوصول إليه حقاً. لكن التطرف الذي عبرت عنه المقاربات النقدية المذكورة فيما بعد، وإغراقها في المعطيات النصية، وإحجامها التام عن النظر إلى ما هو خارج عن حدود النصوص، دفع بالنقاد إلى التفكير في أفق للانعتاق جديد، فيه ابتعاد عن سلطة الذات الآفلة وسلطة الوجود الموضوعي للنص الذي كرسته المقاربات المذكورة في آن معاً. وقد تحقق هذا في مقاربات المنهج البنيوي الذي تجاوز محور الذات والموضوع معاً، إلى حيث الإعلاء من (سلطة النظام) أو نسق البنية الداخلية المرتبطة بالنموذج اللغوي المهيمن، لولا إصرار هذا المنهج على النظر إلى النصوص الأدبية بوصفها هياكل وعلاقات مجردة، واستبعاده معطيات المقاربات الأخرى، إلى جانب عجزه عن “بلوغ التشعبات والزوايا الدقيقة لمنحنيات الخطاب الخصبة”، والملامح الجمالية لنسيجه الحي، وحرماننا من آفاق قراءات محتملة ثرة، كما ذهب إلى ذلك أحد النقاد العرب. فليس النص الأدبي لغة ولا نحواً ولا نسيجاً أسلوبياً حسب، كما أنه ليس شبكة علاقات محضة أو رموزاً دلالية، تماماً، مثلما أثبتت الممارسات أنه ليس أفكاراً أو معطيات نفسية أو ترجمة شخصية. إن انشغال البنيوية بالبحث عن شبكة العلاقات الداخلية للنصوص، والسعي إلى الكشف عن شفرات النص وانساق الخطاب وثنائياته اللغوية، سرعان ما أوقع تلك المقارنات في إسار النموذج اللغوي ووحدة النزعة الوصفية ومأزق المعالجات النمطية، بسبب انطلاقها من نظرة مسبقة واحدة، واعتمادها على النموذج اللغوي. هكذا قادت المقاربات البنيوية إلى رؤية النص بوصفه وجوداً محكوماً بمنطق آلي داخلي، مستقل عن وعي القارئ والمنتج معاً، منفصل عن وعيهما وإرادتهما. وهو ما عمق من النزعة الهيكلية والتحليل المكتفي بتشريح النص. ومثلما تكشف المقاربة الجزئية للنصوص عن فداحة خسارتها لهذا المعطى، تكشف لنا المقاربة الكلية للنصوص، المتمثلة في المنهج البنيوي عن قصورها وضآلة محصولها النقدي، حين تصر على رؤية النصوص في شكل أنساق كلية وهياكل محضة وعلاقات ثنائية تسعى إلى إثباتها، وإن تجاوزت بذلك بعض المعطيات التي لا تسمح بالخلوص إلى تأسيس تلك الرؤية، ما جعل الناقد آن موريل يرى أن النقد البنيوي إنما يحوّل النص إلى حقل منبسط، يبحث فيه عن مظاهر التوازي والتناسق كما يفعل المسّاح مع الأرض المنبسطة. إن الإبداع وكما هو معروف شيء متميز من الوقائع المادية، كما أنه متميز مما هو معرفي، ما يجعل من العبث فهمه عن طريق الفرز والتصنيف الهيكلي. ولعل هذا هو ما جعل ميشيل فوكو يرى في عطاء دعاته مفيداً فقط لأولئك “الذين يرون الغابة ولا يرون الأشجار”. فكيف يمكن لمثل هذا المنهج أن يميز لنا مثلاً بين نصوص تنتظمها علاقات بنيوية واحدة وتختلف في درجة رقيها، ما بين نصوص استثنائية ووسطى ورديئة؟ هل يمكن مثلاً الوصول إلى جماليات النسيج السردي، من خلال الكشف عن شبكة العلاقات المتضمنة في رواية ما؟ أو الوقوف عند الدور الوظيفي الذي يؤديه حدث قصصي ما؟ لقد قاد إدراك هذه الحقيقة في النهاية إلى رد فعل جديد، ضاق بالآلية وكفر بالنمطية وتمرد على القوانين الفوقية المتحكمة في الفعل الإبداعي، السالبة لإرادة ممارسيه، ما نتج عنه التنكب لـ (سلطة النظام) وإعلاء سلطة جديدة هي (سلطة القارئ) المنتج الحقيقي للنصوص، فأعادت بذلك معطيات المنظور الذاتي مجدداً إلى عالم النقد، مؤكدة استحالة التسليم بصحة قراءة واحدة، داعية إلى ضرورة تحرير النصوص من إسار المنظور الواحد، مطلقة فكرة القراءات المتعددة، سواء عند أصحاب المنهج السيميولوجي أو منهج التفكيك أو نظريات القراءة والتقبل أو المقاربات التأويلية. إن في تبدل السلطات النقدية على امتداد مسيرة النقد الغربي درساً لا بد من استنباط دلالته من قبل نقادنا، وهو أنه ليس ثمة صواب أو خطأ في واقع تلك المناهج، أو قديم وجديد يرشّح منهجاً ليكون المفتاح الذهبي أو الموضة الصالحة لهذا العصر، بقدر ما بين تلك المناهج من حاجة إلى التكامل، بسبب من عجز المنهج الواحدي وقصوره عن الإحاطة المنهجية الشمولية بمعطيات النص الإبداعي المتعددة. فبقدر نضج النص الإبداعي وقوة الاستبصار والثقافة التي يتمتع بها الناقد يكون نجاح المنهج النقدي وكفاءته. وهذا يعني أن العمل الأدبي رهن لمعطيين أساسيين فاعلين: هما النص بما يختزنه من ظواهر ومضمرات من جهة، والقارئ بما يتمتع به من مهارة وحساسية وثقافة شمولية قادرة على أن تحول المنظورات المختلفة التي يقدمها (النص)، إلى علاقة دينامية بين مخططات النص الاستراتيجية ووجهات نظر القارئ المخططة. إن النص بناء لغوي ينطوي على تشكيلات رمزية ومستويات تخييلية وأبعاد مرجعية، ولا يمكن له أن يأخذ معناه النهائي ويحقق وجوده الكامل، بعيداً عن قارئ جاد يفك شيفراته ويدخل معه في حوار جدلي يكسبه أبعاداً جديدة، بعد أن “يخمن (...) علاقات ويملأ فراغات ويقدم استنتاجات ويفحص المشاعر الباطنية” كما يقول فاضل ثامر، وصولاً إلى نتائج قد لا تتفق وقصدية المبدع، ولا يكشف النص- في مستواه الظاهري- عن تحققها. من هنا يبدو مثمراً في الإنتاج المعرفي للنصوص الأدبية، أن تتضافر سلطتا (النص) و(القارئ) معاً، لإنتاج وعي معرفي وجمالي بالخطاب الأدبي العربي، لا يتوقف عند أفق قراءة منغلقة على منهجها. فالنقد بحكم قيامه على محوري النص والقارئ، لا يعدو كونه محصلة إنتاجية لفعالية القراءة تلك، ووصفاً لطبيعة العلاقة فيما بينهما. فبقدر ما لا يسلب النص إرادة المتلقي ودوره، لا ينكر القارئ أثر المعطيات الموضوعية للنص وتأثيرها في وعيه ووجدانه. وفي تقديرنا إن تجريد القارئ من دوره يعد خسارة للعملية الإبداعية، وشلاً للفعالية العقلية الخلاقة، في الوقت ذاته الذي يبدو فيه تجاهل المعطيات النصية والتشكيك في وجودها أمراً ضاراً بالظاهرة الأدبية... إن القراءة النقدية الخلاقة هي تلك التي لا يمكننا معها الجزم بأن للنصوص معانٍ في ذواتها مستقلة عن أذهاننا وأحاسيسنا نحن الذين ندخل في حوارية مركبة من الفعل والانفعال، التأثير والتأثر، كما يقول آن موريل. لكن هل تعني هذه النتيجة إحياء لما ظهر لدى بعض النقاد من دعوات لما سمي ب (المنهج التكاملي) في النقد؟ لا أظن أن ثمة تلازماً بين الدعوة إلى تجنب الصدور عن المنهج الواحدي الذي يقرأ النص وفق افتراضاته المسبقة والدعوة إلى منهج تكاملي. فالمنهج التكاملي لا يعدو أن يكون توليفة تلفيقية غير مجدية، إن لم نقل إنها غير قابلة للتطبيق، لتعارض الآفاق والرؤى التي تنطوي عليها المناهج النقدية المختلفة. إن المنهج النقدي المثمر في تقديرنا هو ما كان نداء النص وراء استدعائه، فلكل نص منهجه أو مناهجه التي تستخرج منه أفضل ما فيه، تبعاً لدرجة خصبه وتعدد مستوياته وعمق ثرائه. وأن استجابة المنهج لنداء النص يحقق الأفق الحر وغير الأيديولوجي الذي يفرضه المنهج الواحدي بشكل فج متعسف، حين لا يقرأ في النص إلا ما يتصل بالمنهج الذي اختاره، ليقمع النص ويؤوله سلفاً، بناء على الرغبة الجامحة في إخضاعه لهواه الأيديولوجي، وذلك حين يمثل الانفتاح على المناهج وتطبيقها في ضوء نداء النص اعترافاً بالتحدي الذي يجابه قناعاتنا وافتراضاتنا المسبقة أو بعدم فاعليتها، كما يرى بول ب. آرمسترونغ. وفي ظني أن خضوع الناقد العربي لآلة النقد الغربي وسلطته التي لا مفر له منها تشوش كثيراً على رؤيته وسلوكه النقدي معاً، وتجعله حريصاً على تبديل مواقفه في ضوء بوصلة المرجعية النقدية الغربية الخاطفة للأبصار المنبهرة به، في وقت كان ينبغي أن يكون ذلك فرصة للتثاقف المنتج المفيد. ولا شك في أن هذا الأمر سيظل على ما هو عليه ما لم ينتقل الخطاب النقدي العربي من دائرة التبعية المطلقة والدوران في فلك الآخر، إلى الإفادة من منجز خطابه، وتحقيق شروط التلاقح المثمر والاستبصار الواعي به، لإنتاج وعي جديد يمكنه من تأسيس هامش إضافة وتحرر نسبي من ضغط الآخر. وهو أمر مرهون بالوضع الذي تعيشه الثقافة العربية والمستوى الحضاري الذي تحياه ثقافتنا الراهنة وليس بوضع الخطاب النقدي وحده. في الوقت الذي يبدو هذا الأمر مرهونا بما لدينا من قدرة على المبادرة والعمل الجمعي، لتدارس منجزنا النقدي دراسة جادة في حلقات درس ولجان يخطط لها، لتحديد ما في هذا المنجز من نواحي ثراء واجتهادات جادة وإضافات مهمة ونقاط تواصل يمكن التقاطها وإدامتها لإنتاج سيرورة نقدية يمكن أن تحيا وتتطور لتشكل بذرة لخطاب مُحاور وفاعل للآخر. ولا أحسب أننا سنبعد عن الصواب إذا قلنا إن مواكبة النقاد والمثقفين العرب لمسار الاتجاهات النقدية الغربية ينطوي في حقيقته على ضرب من ضروب التبسيط النقدي لطبيعة الخطاب النقدي وتجريد له من وظيفته الكبرى، المتمثلة في إنجاز وعي علمي بالنصوص الإبداعية العربية وتحقيق إنتاج معرفي بها، والتحول بدلا من ذلك إلى وظيفة هامشية سلبية، متمثلة في هم المواكبة الآلية لحركة مسار الاتجاهات النقدية الأخرى. لكن هذا لا ينبغي أن ينتهي بنا إلى الدعوة إلى العزلة أو الانكفاء على الذات ورفض حالة التلاقح الثقافي من موقع رد الفعل، فليس للخطاب النقدي أوطان وهويات بل هو إرث عالمي ونشاط إنساني ونتاج معرفي مشاع. لكن هذا لا يمنع من الدعوة إلى الارتقاء بإسهامنا النقدي العالمي وتفعيله تفعيلاً من شأنه أن يحقق الحضور العربي الفاعل في المنجز النقدي العالمي. وما دامت المناهج ليست في حقيقتها النهائية سوى وسائل معرفية ومفاتيح مغالق للعوالم الإبداعية، وسبل للوصول إلى الحقيقة والكشف عن مظانها، وليست مذهباً أو عقيدة مطلقة، فإن علينا ألا نحولها إلى سلطة صنمية (دوغمائية) أو آفاق مغلقة، تحول دون رؤية ما تنطوي عليه المناهج المفارقة الأخرى من فاعلية ومعطيات مضيئة واستبصارات تعيننا على الإفادة من ممكناتها في تحقيق نسيج متواشج يمكن توظيفه لإنجاز قراءة مثلى.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©