الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ثقافة الاستبداد

ثقافة الاستبداد
25 يونيو 2014 22:31
لا حظّ للإنسانية في البقاء في ظل انعدام الحق والحرية. فقد يبقى للإنسان جسده النابض بحياة فيزيائية في أحسن الأحوال أو أسوأها، ولكن إنسانيته هي التي تقتل بالتأكيد، في صور مختلفة لا حصر لها. ألوان الاستبداد التي يمارسها البشر في عالمنا تفوق ألوان الطيف تعدداً. أخطرها، وهو الأصل المولّد لكل أشكال الاستبداد الأخرى، هو الاستبداد الفكري الذي قد يتبدى بمظهرين متباينين في الأسلوب: استبداد القهر وتكميم الأفواه وقتل حرية الكلمة والرأي والموقف بشكل تقليدي مباشر، واستبداد هيمنة فلسفة العولمة وقيم نظام العالم الجديد بصيغة أحادية وذلك بفرضها فرضاً قسرياً بأساليب غير مباشرة ولكنها أشد وأعمق فتكاً وأوسع مدىً وأطول ديمومةً. سمر حمود الشيشكلي منطقتنا بالذات كان حظها كبيراً في معايشة خبرات البشرية في الاستبداد مجتمعة. تعاونت على ذلك أياد محلية وعالمية وتناوبته، بدءاً من سيطرة النظام الأبوي على العقل العربي، الذي تعمل بعض النظم الحاكمة بكل طاقتها لتكريسه لضمان بقاء لا يستطيع أي منطق أن يجد لاستمراره مبرراً. لكن تزعّم الولايات المتحدة للعالم الرأسمالي في هذه الحقبة، وتأكدها من أنها فوق فكرة العقاب، أعطى لاستبداد نظام المال العالمي فرصة ذهبية لينطلق يعيث فساداً في العالم على أفظع صورة عرفتها البشرية حتى الآن. وفظاعة الصورة ليست بالجديدة طبعاً لكن تكثيف شراستها، وامتداد أذرعها الأخطبوطية لتشمل كل الزوايا وكل الشعوب، وانكشاف وقاحتها التي تجاوزت المعايير الأخلاقية، هي ما سيثير فزع الإنسانية لعقود طويلة قادمة. مكمن الخطر خصت منطقتنا بدراسات الاستشراق المكثفة والطويلة الأمد، التي صبت جميعها في بنك خدمة الاستعمار واستبداده بإنسان المنطقة عقلاً ومصيراً، ولكن الاستعمار لم يكن بلاءنا وحدنا، فقد اكتسحت قوى الشمال الجنوب، ورصدت كل الإمكانات لنجاح هذا الاكتساح، فكانت هناك معاهد أبحاث متخصصة بكل منطقة تدرسها تاريخياً واقتصادياً وأنثروبولوجياً، لضمان نجاح خطط هذه القوى التي ترسم أهدافها البعيدة المتأنية على ضوء هذه الدراسات ببراعة وحرص. الخطورة تكمن في فلسفة النظام العالمي ورؤيته لشعوب العالم الأخرى، ومفهومه الاستعماري الذي هيأت له الأسس العلمية، من مفكرين ومنظرين ومؤسسات علمية مختصة. تقوم هذه الفلسفة على مبدأ استبداد النظام العالمي في رؤيته للكون، وأن على الجميع أن يقدم من أجل الصالح العام للنظام وإلا سينتهي الحال بأن تدفع الثمن عاجلاً أو آجلاً. ولا أدل على ذلك مما يحدث في أنحاء عديدة من العالم، أفغانستان، ومن ثم دول عديدة في العالم العربي. على سبيل المثال، في مقال مترجم بعنوان «سياط الغرب وظهورنا» عرضت فيه صورة لاستراتيجية الغرب في الهيمنة على الشعوب، جاء في بعض منه أن المرض والمجاعات هي أسلحة حرب استراتيجية تستخدم إلى جانب الحروب الأهلية للحد من عدد السكان في العالم. وهي تأتي وفق فلسفة خطيرة تبين أن المستعمر كان مهتما في وقت ما بتوفير البقاء للشعوب المستعمرة عن طريق واردات الأغذية التي تستكمل إنتاجهم المحلي، وكذلك عن طريق تشجيع سياسات الصحة العامة إلا أن الأمر لم يعد كذلك، إذ أصبحت الحاجة إلى عدد أقل – ولكنه أفضل تأهيلاً – من العمال، وفائض السكان المترتب بالنسبة لاحتياجات الاقتصاد العالمي ليس مكلفاً للنظام فحسب، بل هو لا يتوافق مع أساليب السيطرة غير المرئية. ولا ينبغي استخدام قوة أسلحة التدمير الشامل أو غير الشامل إلا كملجأ أخير. بل ينبغي تطبيق وسيلة «يقتل بعضهم بعضاً». (تابع خطوط المناطق المشتعلة والساخنة في العالم). ويحتاج دفعهم إلى تطبيق تلك الوسيلة: «أن يقتل بعضهم بعضاً» أسلحة نفسية وفيزيائية معاً. هناك أسس نفسية درست بعناية لتأجيج العنف، مثل سياسات الهوية التي إن تم تشجيعها ولو بطرق مواربة فسيكون الإحساس بالتعرض للاضطهاد هو بمثابة بيئة مناسبة لتوليد العنف. فالناس الذين يتعرضون للحرمان نتيجة التآكل التجاري أو الإيكولوجي لقاعدة مواردهم يصابون باليأس ويصبحون هدفاً ممتازاً للقادة الشوفينيين أو المتطرفين، وحالما يصوغون هوياتهم المنفصلة يمكن إثارتهم ضد جماعات أخرى. ولا شك في أنه توجد في كثير من مدن العالم الثالث الكبيرة ظروف مبشرة لتطوير نماذج نزاع تقوم على هذا الأساس، بيروت والجزائر وكولومبو وغيرها على سبيل المثال. وتظهر قوائم معهد السلام في أوسلو مؤخراً أن الأغلبية الساحقة من هذه النزاعات هي ظاهرياً حروب أهلية، والأطراف المتنازعة هم أبناء الوطن الواحد، بينما في باطنها، حتى أنه لم يعد يخفى على أحد، هي حروب دول ومصالح، وأن هناك ترابطاً شديداً بين ارتفاع المديونية الخارجية وبين نشوب هذه الحروب، وأن تاريخ التدخل القوي من جانب صندوق النقد الدولي يرتبط كذلك ارتباطاً قوياً بكل أشكال النزاعات السياسية والمسلحة. فعدد ترتيبات صندوق النقد الدولي وشدة شروطه أمور حاسمة بالنسبة لحدوث كل من الاحتجاج السياسي والنزاع الأهلي. (1) وتوضح دراسات كثيرة في العالم اليوم فلسفة استبداد الغرب الرأسمالي، كاشفة عن معايير تطرح نفسها كقوة كونية متجاوزة خصوصية الآخرين ضمن منظور أحادي للكون. الدور المشبوه لصندوق النقد تقول الدراسات، وأخص بالذكر كتاب نعومي كلاين «عقيدة الصدمه» إن إفريقيا وجنوب شرق آسيا وجنوب أميركا، ودول أوروبية أخرى، تقع في قبضة صندوق النقد الدولي الشديدة، مما يثبت أنه حتى النمور السابقة ليست بمنجى، فديونها المذهلة وكثافة سكانها تجعلها مرشحة جيدة للاستراتيجيات الرئيسية التي تخدم النظام العولمي. فلا بد من اقتناع الحكومات أو إجبارها إن لزم الأمر (طبعاً لا يشكل هذا فرقاً أبداً) على السير قدماً بأهداف هذا النظام، بما في ذلك التصرف السريع بعناصر تكوينها لإدارة مجتمعاتها بما يخدم مصالح هذا النظام أيضاً. وطالما أن السلطات المحلية تؤدي هذه الوظائف أداءً سليماً، فليس ثمة حاجة أو مبرر للتدخل الأجنبي المباشر كما تقول كلاين. وتتساءل: أيمكن للاستراتيجية العلاجية، استراتيجية الحرب، أن تنفذ دون عائق، دون أن تحاول جماعات «دعاة الإنسانية» دس أنوفهم لوقفها؟ لم تعد النزاعات التي تولدها الأحقاد والمنافسات الإثنية أو حتى الأيكولوجية الأساس لتثير في مجموعها كثيراً من التعاطف في الشمال. لقد انقضى عصر المعارضة السياسية القوية وجبهات التضامن الواسعة مثل الحركات المناهضة لحرب فيتنام أو المدافعة عن شيلي أو جنوب إفريقيا. وعلى العالم المتحضر، في عرضه لمعارك «الفقراء» المعاصرة بسياستها المحيرة ومذابحها العشوائية الحمقاء، أن يوحي دائماً بأنها تحدث بين برابرة ومتوحشين، وينبغي أن ينظر العالم المتحضر لهذه النزاعات باعتبارها مزرية وطائشة وغير قابلة للحل، وبذلك يصبح الغرب أكثر تماسكاً ضد الآخر كما ترى نعوم كلاين. الدراسة تشدد طبعاً على عناصر أخرى للرؤية المذهلة لاستراتيجيات الهيمنة والاستبداد إلى جانب الجوع والحروب (التي تضمن الرواج الدائم لتجارة الأسلحة)، مثل: زيادة تحرير التجارة، التقنيات الزراعية الحديثة، ربط الزراعة بمحاصيل تصدير يحصر تنوعها، وهذا يتطلب بالضرورة توريد بذار حديثة معاملة جينيّاً ومدخلات مصنعة، عادة ما تكون في غير متناول الزراعيين الصغار الفقراء. ومازال من الممكن استخدام المعونة الغذائية لتحقيق غاية طيبة! والظهور بمظهر ملائكي. وعلينا فهم مسألة التوقيت فهماً جيداً. ينبغي أن تصل المعونة الغذائية قبل الحصاد المحلي مباشرة أو معه، لأن المقادير الكبيرة من الغذاء الأجنبي ستدفع الأسعار المحلية إلى ما دون المستويات المجزية للمزارعين المحليين، ويمكن تجنيد الوكالات الخيرية للمساعدة في التوزيع (مما يفهم منه أن الوكالات الإنسانية ليست حرة في إغاثة الضحايا كما قد تبدو، وهي تفهم تماما أنها تُستغل وأنها واقعة في الشباك لأنها لو نددت بما يحدث حقيقة ستجبر على مغادرة البلد وترك ضحايا المجاعة لمصير ليس بأقل سوءاً). ينبغي إثارة الجوع وسوء التغذية...الخ. باختصار، كل ما قد يكفل التبعية الاقتصادية. طبعا يتمكن قارئ هذه الدراسة وغيرها من الدراسات التي يكشف عنها جانب الضمير الحر للعالم الأول من آنٍ لآخر، أن يفهم ولو جزئيا حقيقة ما يدور في الخفاء، وحقيقة استبداد نظام المال العالمي، واستبداد الولايات المتحدة الأميركية، وروسيا تشاركها اليوم، في رسم خارطة العالم الجغرافية وفق مصلحة لوردات المال والسلاح والبترول في العالم، وهما تمسكان بخيوط الدمى تلعبان بها على المسرح الدولي؛ تقوّي هذا على ذاك بأن تغض الطرف أو تساند وتدعم، وتنسق بين كل تلك الأدوار متحالفة وراء الكواليس. سيتمكن القارئ أيضاً من فهم السر وراء غلواء الحملة الشرسة على أفغانستان والعراق، ثم سوريا مؤخراً، وغيرها في المستقبل القريب. سيفهم تماما حقيقة ما حصل في الحادي عشر من أيلول وما سيحصل على شاكلته، ومن كان وراء ذلك بالتحديد، واستعداد هذه القوى التي تلعب بالخفاء وبحرفية بالغة، بمصير البشرية، حتى لو استلزم الأمر دفع عدد من أبناء جلدتها، قل أو كثر، كقرابين على مذبح مصلحتها الخاصة. سيفهم كيف توصلت أميركا لتنصيب نفسها شرطياً دولياً يفرض قوانين يدعي بأنها دولية وهو بالأصل لا يحترم القوانين الدولية. سيفهم لماذا تنجح النخب الحاكمة لدول المحيط من البقاء، وكيفية استمرارها رغم رفض شعوبها الكامل لسياساتها بمجملها. كما سيفهم لماذا يعسكر الغرب العلاقات الدولية ويثير الفزع من التهديد بالحرب دائماً، بل واستخدام الحرب فعلا في إخضاع الآخر وجر المجتمع الدولي وراء ما يطلقه من أحكام القوة عن طريق الإصرار على ضرب بعض الدول كالعراق مثلا، رغم الثمن الغالي الذي دفعه ويدفعه العراق وبالتالي كل الأمة العربية في سبيل تهدئة غضب أميركا المفتعل، ومسايرة سياساتها في المنطقة التي بالغت فيها حتى أريقت على أقدام جبروتها كرامة الأمة بكاملها. كل الرضوخ لم يجد، على العكس زاد من التمادي في سبيل تحقيق الهدف الحقيقي وراء هذه الحملة، وهو السيطرة الكاملة على المنطقة بثرواتها. تفريخات الاستبداد طبعاً لن يمحى من ذاكرة الأيام أن أميركا نفسها هي من خطط لحدث غزو العراق للكويت، لإيجاد المبرر الشرعي لجلب قواتها بهذا التواجد العملاق في منطقة الخليج. تدخلها في السودان استهدافا لمصر والسودان معاً. العمل على إشاعة الفوضى وعدم الاستقرار في شمال إفريقيا عبر الجماعات المسلحة. مساعدة طالبان في البداية لمحاولة التغلغل في وسط آسيا، ومن ثم ضرب طالبان وإشعال الحرب في أفغانستان وعلاقة هذا ببترول قزوين، وغيرها من الصراعات والمنازعات المسلحة في العالم. ثم من جهة أخرى، يقوم الطغيان والاستبداد العالمي بتفريخ استبداد محلي هنا وهناك، يطحن تحت عجلاته أمماً ويقتل الإنسانية وقيمها بالنيابة. وما حدث في سوريا ومازال يحدث من مآسٍ وويلات، وهو ما لا يشبهه في مستوى الدمار والخراب الذي خلفته حتى في أيام غزو التتار، ما هو إلا دليل جديد على تجذر فلسفة الاستبداد كثقافة تدير المصالح الكبرى في هذا الكوكب الأزرق الجميل الذي استحال إلى احمر بلون دماء أبنائه. يسطو الاستبداد على النفوس فيفسد الأخلاق ويضغط على العقول... وبناء عليه تكون التربية والاستبداد عاملين متعاكسين في النتائج، فكل ما تبنيه التربية مع ضعفها يهدمه الاستبداد بقوته... الاستبداد مفسد للدين في أهم قسميه، أي الأخلاق. ولهذا تبقى الأديان، في الأمم المأسورة، عبارة عن عبادات مجردة صارت عادات، فلا تفيد في تطهير النفوس شيئاً، فلا تنهي عن فحشاء ولا منكر، وذلك لفقد الإخلاص فيها، تبعا لفقدها في النفوس التي ألفت أن تلتجئ وتتلوى بين يدي سطوة الاستبداد في زوايا الكذب والرياء والخداع والنفاق، ولهذا لا يُستغرب في الأسير الأليف في تلك الحال أن يستعمل كل هذه الرذائل أيضا مع ربه ومع أمه وأبيه ومع قومه وجنسه وحتى مع نفسه. هل يمكن تجنب النتائج الدموية المميتة للاستبداد اليوم؟ الأمم الحية تقوم على فكر ناضر، يعي الخطأ ويرفضه ويقاومه منذ بداياته، فتكون هناك فرصة لضبط الضمير المعتل والفكر المختل لممارسات الطغيان والاستبداد، أما الأمم الفاقدة للوعي، العوجاء الخطى، قد يحسبها البعض أمما حية ولكنها في الحقيقة مغمى عليها... فهي التي ينمو فيها الطغيان ويعرش ويزدهر يقتات على دم الناس في غفلتهم. هوامش: * كتاب «عقيدة الصدمة» نعومي كلاين. * كتاب «عقائد الاستبداد» عبد الرحمن الكواكبي. * مقال «سياط الغرب وظهورنا» مجلة سطور العدد (62).
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©