السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المهدي المنجرة.. المعلّم الذي فارق السرب

المهدي المنجرة.. المعلّم الذي فارق السرب
25 يونيو 2014 22:26
قبل رحيله المادي عنا بجسده إلى العالم الآخر، كان المهدي المنجرة، العالم الجليل والباحث والمحلل ذو البصيرة الثاقبة، قد مارس رحيلاً علمياً أيضاً، حيث غادر سرب المتوسّلين أو اللاهثين وراء الماضي ليجد موطئ فكر له في المستقبل... ترك غيره يصارع مقولات الماضي واستحضاراته واستيهاماته في الراهن، وذهب هو بكامل بهائه إلى الآتي، فكان مفكراً مستقبلياً بامتياز في زمن لا يعير فيه العرب أي قيمة تذكر للمستقبل.. لقد غامر المنجرة في حقل الاختلاف، ذرعه بحثاً ودراسة ليتقرّى صوته، ويرسم هيئته، بل ويستحضر ما يمكن أن يكون عليه بوعي حقيقي، لا على طريقة المنجمين ولا ضاربي الودع الثقافي. صالح سر الختم في هذا الرجل يمكن للمرء أن يقول بوثوقية، من دون أن يرفّ له قلم: هذا عالم حقيقي، من ذلك الطراز من العلماء الذين يمنحون أنفسهم بالكامل لقضاياهم الكبيرة... الطراز الذي يمكنه أن يقلب رأساً بكامل عدّته ويحرثه حرثاً كاملاً في كتاب واحد من كتبه الكثيرة. نعم، كان المنجرة بحق رجل القضايا الكبيرة، فلسفياً واجتماعياً، آمن بتحرر الجنوب من هيمنة الشمال وانتصر لهذه الفكرة تنظيراً وعملاً، ورأى أن ذلك ممكن عبر التنمية ومحاربة الأمية ودعم البحث العلمي واستعمال اللغة الأم.. آمن بقضايا الشعوب المقهورة وحرياتها، ودافع عنها بكل ما أوتي من جرأة وعزم فكري. مارس حقيقته الوطنية على أوسع نحو ممكن، فناهض الصهيونية ورفض التطبيع، وقاوم كل أشكال التمييز والاستباحات الفكرية والعنصريات والشوفينيات والإقليميات الضيقة سواء تزيّت بزي الاقتصاد أو السياسة أو الفكر. ومارس حقيقته الفكرية والإنسانية أيضاً، فسخّر كتاباته لكشف زيف العولمة وتوحشها الأسود، ولقبها بـ «العولمة الجشعة». باحث مختلف على صعيد الاشتغال الفلسفي، يمثل المنجرة باحثاً مختلفاً على مستوى أدوات اشتغاله. وقد ابتكر مفاهيم فكرية جديدة مثل «الاستعمار الجديد» و«الميغا - إمبريالية»، ووقف فكرياً ضد جشع النيوليبرالية - الإمبريالية الجديدة المتوحشة، كما اصطف مع المدافعين عن حق العالم الثالث في التنمية المستقلة، وكتب عن نظام دولي يقوم على العدالة والإنصاف والكرامة لكل الشعوب والمجتمعات، حيث كان يرى أن: «الغرب متغطرس ثقافياً لأن فضاءه الزمني التاريخي محدود. حين تذهب إلى العراق أو الصين أو إلى أميركا الجنوبية ثمة ثقافة متجذرة ومتطورة. في الولايات المتحدة تجد بالمقابل الأكلات السريعة (الفاست فود). إن التقدم العلمي لا يعني آلياً امتلاك ثقافة التواصل مع الآخر. أنا أعتقد أن العالم يعيش حالة انفجار، وهنا أعود لتعبير (الانتفاضة). فالانتفاضة انفجار يحدث حين يبلغ السيل الزبى. ثمة ظلم هائل في العالم، ومن اللازم إيجاد الحلول كي يكون كل الناس رابحين وكي لا يكون هناك خاسر…». مغرب الغد يعتقد المهدي المنجرة أن جل ما يحدث بالمغرب على صعيد تواصل عمليات التنمية، يعتبر إيجابياً، على أن يتم معالجة الأخطاء بنوع من الصراحة وبدرجة من النزاهة السياسية. وهذا مهم مقارنة بالماضي. وهو يعني أن المغرب بدأ يتخلص من بعض المعوقات ليتمكن من تحديد المقاصد التي ستمكّنه من الخروج من وضعيته الحالية. ويصدر المنجرة في رأيه هذا عن دراسة استقصائية عميقة، حيث كرّس الجزء الأكبر من حياته في دراسات استشراف المستقبل. متأملاً أن تحظى هذه الدراسات بالأهمية التي تستحقها في مغرب الغد، وطوّر دراسات وأبحاث حول المستقبل، وأسس مراكز ومعاهد، كان همه، أن تضطلع بتوفير مختلف علوم المعرفة، وتضع لبنة المؤشرات الضرورية للنهوض بمستقل الأمة، حتى تتمكّن من الإمساك بخيوط التطور والتنمية مستقبلاً. وكان يضع بذور الرجاء، بهمّة العالم، يقوده ويحفزه وجدان مشتعل بضرورة طرح تغيير في الرؤى، فيما يخص كل متعلقات نماذج التنمية وأسلوبها الذي اعتمدته البلاد نهجاً. ويرى المنجرة أن المغرب، يجب أن يتخطى حاجز التقليد الذي يبدو كمفروض حتمي على بلدان العالم الثالث، في حين أنه ليس طريقاً حتمياً ولا جبرياً تمر عبر برزخه هذه الدول لبلوغ النتائج. فقط، كل ما عليها أن تفعله أن تتبنى نموذجاً مغايراً للنموذج المعتمد، نموذجاً مؤسساً على تفاعل عوامل داخلية، ومعطيات وقيم اجتماعية وثقافية خاصة به وتستجيب لحاجات المجتمع كما هي معبر عنها ديموقراطياً، وهو نموذج من شأنه أن يمنح مكانة خاصة لمبدأ المشاركة التي لا زالت في بداية مرحلة التجربة في المغرب. عدالة وتنمية وفي رؤيته الفكرية أن المغرب الجديد سيولي أهمية أكبر لمفهوم العدالة، فيما يخص توزيع الثروات المادية دون التقيد بمعايير التموضع الطبقي أو الانتماء الاجتماعي. والسبب يكمن في أن «الجيل الذي سيتولى المسئولية غداً بالمغرب، سيكون جيلاً أقل إحساساً بعقد النقص مقارنة بالأجيال السابقة التي تلت مرحلة الاستقلال في الإطار الوطني للمغرب، كما سيكون جيلاً أقل إحساسا بالتفاوت الحضاري بالنسبة للخارج، خاصة وأنه سيكون معتمداً على ذاته ولديه من الثقة موفوراً أكبر في محدداته الثقافية والاجتماعية وفي قدراته، وأنه جيل تلقى قدراً من العلم، ويتمتع بكفاءة ومعرفة، مما يتيح للبلاد إطاراً متماسكاً من الكفاءة والدراية لم تكن متوفرة في السابق». لكن مستقبل المغرب، وفق المنجرة، ليس مستقبلاً واحداً، بل مستقبل أطر متعددة، ولكي تصل هذه الأطر المستقبلية إلى أهدافها بشكل سليم يجب أن تسلك سبل مناهج محكومة بالمعرفة، وفق تصورات ما سيكون عليه المستقبل من ضرورات واحتياجات البشر المادية والمالية. لا يصدر المنجرة في طروحاته الفكرية ورؤاه هذه عن اجتهاد نظري أو تفلسف كلامي فقط، بل يبنيها وفق معطيات كثيرة من بينها الإحصائيات والأرقام؛ فقد حدد تعداد سكان المغرب في سنة 2020 بما يناهز 45 مليون نسمة، علماً بأن أمل الحياة سيرتفع إلى 65 سنة، وبذلك سيحدث تغيير ملحوظ على مستوى الهرم الديموغرافي؛ أكثر من 50 في المائة من السكان سيكون عمرهم أقل من 25 سنة. ما يعني أن هناك عامل أساسي لا مناص من وضعه في الاعتبار أثناء الاستعداد للغد، وهو العمل على ضرورة توزيع السكان بين الحضر والبوادي. فسكان الحضر في المغرب في 2020 سوف تصل نسبتهم إلى 70 في المائة من مجموع سكان البلاد، الأمر الذي يحتم الاستعداد لمتطلباته وضروراته. وهو يعتقد أن المغرب في عام 2020 يمكن أن يحقق 90 في المائة من الاكتفاء الذاتي الغذائي، وهو ما سيمكّن البلد من تحقيق هامش مهم على صعيد التنمية. خاصة إذا ما تم تقليص الأمية إلى حدود 25 في المائة (55% حالياً)، ويجب أن تأخذ عملية التقليص بُعدين هما: بُعد كمي وآخر نوعي بهدف تحقيق توازن يتعلق بالعالم الحضري، كذلك فيما يتعلق بالمرأة والرجل. وهذا يعني أنه يجب إعطاء الأولوية من الآن للعالَم القروي وللمرأة على هذا الصعيد. ولم يهمل في إطار صيرورة العدالة الاجتماعية حتى التفاصيل الدقيقة في أن ينال المواطن المغربي في عام 2020 نصيبه من الماء الصالح للشرب، وتكريس كرامة الإنسان كأولوية الأولويات. وهذه الصيرورة نحو المزيد من العدالة الاجتماعية من شأنها تفعيل الخلق والإبداع في المجال الفني، الذي يعتبر مؤشراً من المؤشرات التنموية؛ بمعنى أن التنمية لا تنحصر في المظهر المادي فقط. مجتمع المعرفة للمنجرة رؤية متكاملة في المعرفة، ومن بين ما يطرحه أن الخلق والإبداع عنصران أساسيان في سبيل الانتقال إلى مجتمع المعرفة. وهو ما يجعل الإعلام يحتل مكاناً جوهريا، وكلما ظهرت وسيلة من وسائل الإعلام سواء أكانت صحيفة أو مجلة أو كتاب أو أي من أشكال التعبير الجديدة، فإن ذلك يعزز التنوع ويسهم في توسيع مجال الاختيارات وتعدد الرؤى التي يجب أن يتوفر لعموم الناس. وهذا الإبداع الخلاق هو عين ما يجب أن يطبع كذلك البحث العلمي الذي يجب أن تخصص له، وفقاً للمنجرة، نسبة 3% من الناتج العام، حتى يمكن الحصول على التكنولوجيا الجديدة، واستجلاب استثمارات هامة خاصة أن عملية تحصيل المعرفة تتطور بسرعة متصاعدة، وإذا لم يتوفر شرط المسايرة سيكون من الصعب، بل من المستحيل مواكبة الركب. ولا يغفل عالِم المستقبليات عن كون الدول المتقدمة غير مستعدة لنقل التكنولولجيا خاصة المتطورة منها إلى بلدان العالم الثالث، كما أنه لا ينسى البون الشاسع بين العالم المتقدم والبلدان المتخلفة، وأن المغرب تأخر بشكل كبير عن مواكبة تطور البحث العلمي على الصعيد العالمي، ما جعل الباحثون المغاربة يحسون بدرجة من الغبن بسبب تخطي الآخرين لهم في ميدان البحث العلمي، وذلك لاعتبارات سياسية وأسباب اقتصادية وأسباب أخرى مرتبطة بالأمن، خاصة أنه بات من الصعب التمييز بين استخدامات التكنولوجيا المتطورة في المجال المدني والمجالات العسكرية. وهو ينبه، في هذا الصدد، إلى أن عدد الأدمغة والباحثين من أبناء دول العالم الثالث يكادون يمثلون أغلبية على الصعيد العالمي، الأمر الذي يكرس ضرورة أن يدعم تعاون الجنوبي - الجنوبي، سواء على الصعيد الإقليمي أو على صعيد القطاعات أو على صعيد الجامعات والوحدات الإنتاجية. ذلك لأن دول الجنوب في حاجة ماسة لمثل هذا النوع من التعاون، ولأن أي شكل من أشكاله كفيل بتجميع شروط التمكن من أجل قيام بحث علمي مجدٍ، خاصة وقد توفر له الكادر البشري المؤهل والعنصر المادي (المال)، ولهذا، نجده يحذر من أنه إذا لم يكن بالحجم المطلوب فلن تكون له انعكاسات لا على الإنتاج ولا في مجال تحسين ظروف الحياة. لأننا لا نقوم بالبحث العلمي من أجل البحث فقط، وإنما نقوم ببحث ذي هدف ومقصد، من شأنه أن يسهل التطبيق لجني الثمار. ويؤكد المنجرة ضرورة اعتماد دول الجنوب العمل الشبكي، أي العمل عبر شبكات- أو ما يسمى حالياً بلا مادية الاقتصاد - لأن هذا النهج سيقلص من حجم الصرف المادي الذي يصرف على عمليات تشييد البنيات التحتية ومصاريف التسيير والتدبير على صعيد العالم العربي. ويمكن إشراك الباحثين الموجودين بالغرب في تلك الشبكات، لاسيما وسائل الاتصال والتواصل. ومن بين المشكلات التي ستظل تمثل تحدياً بالنسبة لمغرب المستقبل هو حجم السوق، حيث تؤكد الدراسات العلمية أن الحد الأدنى لحجم السوق الملائمة يتطلب على الأقل 100 مليون نسمة، ولا يهم الشكل لضمان هذا الحد الأدنى (منطقة حرة، تجمع اقتصادي جهوي أو إقليمي...)؛ لذا أصبح من الأهمية بمكان مسألة الوحدة المغاربية، لأنها أضحت في واقع الأمر مسألة حياة أو موت بالنسبة لبلدان المغرب العربي وشعوبه. ويعزي غياب قيام هذا الاتحاد المغاربة لغياب الإرادة السياسية الضرورية والكافية لتحقيق هذا الحلم الجماهيري المغاربي. علاوة على عدم إشراك شعوب المنطقة، بشكل أو بآخر، للمساهمة في تفعيل سيرورة هذه الوحدة. ويدعو المنجرة إلى ضرورة منح فرصة لتشكل مفاهيم راسخة تسمح بقيام الاتحاد المغاربي، باعتباره ضرورة من ضرورات التنمية قبل التفكير في أي بديل آخر غيرها. وتزداد أهمية هذه الإشكالية باعتبارها رهان على المستقبل، وهو رهان ثقافي أكثر من أي وقت مضى، وهذا ما أكده كذلك «صامويل هنتيغتون» مدير معد الدراسات الاستراتيجية بجامعة هارفارد في صيف 1993 في مقالته المعنونة «صدام الحضارات» الصادرة في مجلة «مورين أفير»، أي أن الصراعات، من الآن فصاعداً، ستكون صراعات حضارية وثقافية. وهذا ما يفسر تفاؤل د. المهدي المنجرة رغم كل الصعوبات التي تعرفها المرحلة الانتقالية بالمغرب. وباعتبار أن هناك درجة كبيرة من الأمية، فإن رد فعل الشعب عموماً لأي اعتداء أو هيمنة تمس الثقافة والحضارة سيكون قوياً لا محالة. فالثقافة أضحت مفتاح العلاقات الدولية أكثر من أي وقت مضى. ضد التعصب أما فيما يتعلق بالأصولية والتعصب ومستقبل الجماعات الإسلامية، فقد رأى المنجرة أن الاتجاه نحو لفظ الأصولية هو اتجاه حديث لم يكن موجودا قبل 15 أو 20 سنة؛ لأنها لم تكن تمثل التحدي الماثل حالياً، حتى على الصعيد العالمي، بل على العكس من ذلك، كان المسلم إنساناً مسالماً لا يشكل خطراً كما أنه كان من مناهضي الشيوعية يتعبد في المسجد، مشيراً إلى أن عدد المسلمين قارب أن يفوق عدد المسيحيين على الصعيد العالمي، الأمر الذي بات يشكل قلقاً في الغرب. إلا أن المشكل الأساسي، في واقع الأمر، يكمن في كون آليات التواصل الثقافي لم تكن تعمل بين البلدان الأوروبية والآخرين، وهذا عنصر أو سبب بشري وليس سبب ديني. ومشكل عدم التواصل ظل قائماً حتى على صعيد البلد الواحد وليس بين البلدان فقط. المنذر بآلام العالم وصف ميشال جوبير المهدي المنجرة بـ «المنذر بآلام العالم». وقد اعترف صامويل هنتنغتون ضمن مؤلفه صدام الحضارات بمرجعية وأسبقية المهدي المنجرة في طرح مفهوم صراع الحضارات، لكن المنجرة، على خلاف صامويل هنتنغتون، يرى أن الغرض من طرحه لهذه النظرية هو موقف وقائي، فلتفادي الصدام لابد من خلق حوار حضاري بين شمال العالم وجنوبه. أفول منطق القوة قال المنجرة عن عبارة الحرب الصليبية التي استخدمها الرئيس الأميركي السابق بوش الابن، غداة احتلال العراق: «إن عبارة (الحرب الصليبية) التي تبناها بوش الابن في خطابه، وإن بصورة عابرة، تبين ما ذهب إليه من قبله ابن خلدون حين قال إن (القوي يفرض على الضعيف المنهزم قيمه وعباراته ولغته). وهذا الأمر ينطبق على دول الجنوب، وينطبق أيضاً على نظام الأمم المتحدة الذي اثبت صراحة سيره هو الآخر صوب نهايته…». نفدت طبعة أحد كتبه يوم صدورها قضى معظم عمره طائراً.. ومنع من الكلام تعود أصول أسرة المهدي المنجرة إلى السعديين. والده محمد المنجرة الذي أسس سنة 1924م أول ناد عربي مختص في الطيران. وحسب المهدي المنجرة، فقد طار على متن الطائرة مسافات بلغت في مجموعها 5 ملايين كلم، يقول: «بذلك أكون قد أمضيت معظم عمري طائراً». نشأ المنجرة في وسط عائلي تطبعه القيم المسلمة والدعوة الإصلاحية، إذ كان محيطه من رجالات الوطنية والدعوة الإصلاحية مثل: الفقيه محمد بلعربي العلوي الذي كان صديقاً لوالده، وفي وسط شعبي يتميز بنسيج اجتماعي متجانس، إضافة إلى وجود الإسلام حياً ومنظوراً حضارياً. وبسبب علاقات والده مع قيادات كتلة العمل الوطني، احتك الطفل في سنواته الأولى بعالم الوطنية، ورافق والده إلى دار جده المريني، حيث كانت تجرى التجمعات التي يقيمها العلماء. وفي سنة 1941 دخل المهدي «ليسي غورو» لمتابعة تعليمه الابتدائي. ولم تخل دراسته من المصادمات مع المسؤولين الفرنسيين بسبب معاداته للاستعمار، فاعتقل وهو صبي لمدة عشرة أيام، تركت لها أثر في حياته الفكرية والتأمّلية. التعليم العالي في أعقاب حصوله على درجة الباكالوريا في عام 1948م، أرسله والده إلى أميركا للالتحاق بالتعليم العالي، بدلاً من إرساله إلى فرنسا كما كان يفعل جل المغاربة. التحق المهدي بمؤسسة «بانتي»، ثم التحق بجامعة كورنل وتخصص في البيولوجيا والكيمياء، غير أن ميله إلى القضايا السياسية والاجتماعية دفعه إلى المزاوجة بين دراسته العلمية من جهة، والعلوم الاجتماعية والسياسية من جهة ثانية، وفتحت إقامته بأميركا عينيه على العمل الوطني والقومي. ومن هذا المنطلق، كان انشغاله بمكتب الجزائر والمغرب بالأمم المتحدة، كما تحمل رئاسة رابطة الطلاب العرب. وبسبب رفضه التجنيد الإجباري الذي كان مفروضاً آنذاك على كل حاملي البطاقة الخضراء، حيث رفض المشاركة في الحرب الكورية، فضل أن يغادر إلى لندن سنة 1954 لمتابعة دراسته العليا بكلية لندن للاقتصاد؛ حيث قدم أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه حول موضوع «الجامعة العربية، البنية والتحديات». وفي سنة 1957، عاد إلى المغرب ليعمل أول أستاذ محاضر مغربي بكلية الحقوق بجامعة محمد الخامس، وتولى في هذه الفترة إدارة الإذاعة والتلفزة المغربية بعد أن عينه الملك محمد الخامس على رأسها. وقد رفض المناصب الوزارية كوزارة المالية والوزارة الأولى في الحكومة المغربية، مفضلاً التفرغ للعمل الثقافي والبحث العلمي، حيث عُرف بمواقفه المعارضة لسياسة ملك المغرب الحسن الثاني رغم أنه كان زميله في الدراسة، وتعرض لهذه الأسباب للمنع من إلقاء المحاضرات في المغرب. نشاطه الدولي في سنة 1962 عينه «روني ماهو» المدير العام لليونيسكو آنذاك المدير العام لديوانه. وفي سنة 1970 عمل بكلية العلوم الاقتصادية بلندن أستاذاً محاضراً وباحثاً في الدراسات الدولية. وخلال سنتي 1975 و1976 تولى مهمة المستشار الخاص للمدير العام لليونيسكو. وانتخب رئيساً «للاتحاد العالمي للدراسات المستقبلية» سنة 1981. كما شغل منصب منسق لمؤتمر التعاون التقني بين الدول الأفريقية (1979-1980). وكان عضواً بالأكاديمية العالمية للفنون والعلوم، والأكاديمية الأفريقية للعلوم، والأكاديمية الأوروبية للعلوم والفنون والآداب، والجمعية العالمية للمستقبل، والاتحاد العالمي للمهندسين المعماريين، ومنتدى العالم الثالث، ونائب رئيس جمعية الصداقة بين المغرب واليابان. وكان المهدي المنجرة أصغر الأعضاء سناً ضمن نادي روما منذ تأسيس النادي سنة 1968. بعد تأليفه كتاب «نظام الأمم المتحدة» سنة 1973، خرج من هذه المؤسسة الأممية سنة 1976 وتخلى عن جميع حقوقه فيها، بعد تيقنه أن القيم التي تسير عليها الأمم المتحدة، وتخدم لصالحها، هي القيم المسيحية اليهودية. وكان المنجرة أحد ثلاث مؤلفي التقرير الثاني لنادي روما (نال استحسان الجميع من المختصين)، الذي صدر سنة 1979م تحت عنوان: «لا حدود للبحث والدراسة»، والذي ترجم إلى 12 لغة عبر العالم. وفي سنة 1986 منحه الإمبراطور الياباني وسام الشمس المشرقة الوطني، عن بحث بخصوص أهمية النموذج الياباني بالنسبة لدول العالم الثالث. وتولى عمادة الجامعات اليابانية في تسعينيات القرن العشرين، كما وتولى رئاسة لجان وضع مخططات تعليمية لدول أوروبية عدة. اشتهر بكونه المؤلف الذي نفدت طبعة كتاب له في اليوم الأول من صدورها، واعتبرت كتبه الأكثر مبيعاً في فرنسا ما بين 1980 و1990. وخصص صندوقاً خاصاً من تلك العائدات المالية لمنح «جائزة التواصل شمال جنوب»، التي منحها لاسمين من مبدعي المغرب والعالم في مجالات الفنون والكاريكاتير والسخرية والتفكير النقدي، وممن حصلوا عليها وزير العدل الأميركي رمزي كلارك. من هو المهدي المنجرة ? ولد المفكر الاقتصادي وعالم الاجتماع المغربي الدكتور المهدي المنجرة في بلدة مرسا الواقعة خارج أسوار البلدة القديمة في 13 مارس 1933م - وتوفي في 13 يونيو 2014م. ? تخصص المنجرة في الدراسات المستقبلية. وهو أحد أكبر المراجع العربية والدولية في القضايا السياسية والعلاقات الدولية والدراسات المستقبلية. ? عمل (مستشاراً أول) في الوفد الدائم للمغرب بهيئة الأمم المتحدة بين عامي 1958 و1959، وأستاذاً محاضراً وباحثاً بمركز الدراسات التابع لجامعة لندن (1970). واختير للتدريس في جامعات دولية عدة (فرنسا وإنجلترا وهولندا وإيطاليا واليابان). ? شغل مناصب قيادية عديدة (1961 - 1979) في «اليونسكو». وهو خبير خاص للأمم المتحدة للسنة الدولية للمعاقين (1980-1981)، ومستشار مدير مكتب العلاقات بين الحكومات للمعلومات في روما (1981 - 1985)، ومستشار الأمين العام للأمم المتحدة لمحاربة استهلاك المخدرات. ? أسهم في تأسيس أول أكاديمية لعلم المستقبليات، وترأس بين 1977 - 1981 الاتحاد العالمي للدراسات المستقبلية، وهو عضو في أكاديمية المملكة المغربية، والأكاديمية الأفريقية للعلوم والأكاديمية العالمية للفنون والآداب، وتولى رئاسة لجان وضع مخططات تعليمية لعدة دول أوروبية. * حاز عدداً من الجوائز والأوسمة، منها: جائزة الأدب الفرنسي في جامعة كورنيل (1953). وسام الاستقلال بالأردن (1960). وسام ضابط للفنون والآداب بفرنسا (1976). الجائزة الفضية الكبرى للأكاديمية المعمارية بباريس (1984). وسام الشمس المشرقة باليابان (1986). جائزة السلام لسنة 1990 من معهد ألبرت آينشتاين الدولي. * له مؤلفات عديدة بعدة لغات منها العربية والفرنسية والإنجليزية واليابانية وقد طبعت عدة مرات، علاوة على كتابته لأكثر من 500 مقالة في العلوم الاقتصادي والسوسيولوجية والإنسانية، ومن أهم كتبه: 1- نظام الأمم المتحدة: تحليل، 1973. 2- من المهد إلى اللحد 1981. 3- الحرب الحضارية الأولى، 1991. 4- القدس العربي، 1996. 5- حوار التواصل، 2004. 6- مسار الفكر، حوارات مع حسن نجمي ومحمد بهجاجي، 1997. 7- عولمة العولمة، 1999. 8- انتفاضات في زمن الديمقراطية، 2002. 9- الإهانة في عهد الميغا إمبريالية، 2004. 10- قيمة القيم، 2007. ? توفي في مدينة الرباط في 13 يونيو 2014 م عن عمر يناهز 81 سنة، بعد صراع طويل مع المرض. وفي برقية بعثها العاهل المغربي محمد السادس معزياً عائلته قال إن المغرب فقد أحد رجالات الفكر والمناضلين المخلصين عن حقوق الإنسان والمساهمين في تكوين الأجيال المغربية التي تتلمذت على يديه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©