الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سيف غباش.. صوت الحق الإماراتي

سيف غباش.. صوت الحق الإماراتي
25 يونيو 2014 22:25
د. سليمان الجاسم جسد الشهيد الراحل سيف غباش نموذجاً حياً لابن الإمارات المكافح والمجتهد. وخاض معركته مع الحياة باقتدار مصارعاً ظروفها، باحثاً في اعماقها عما يشبع نهمه إلى العلم والمعرفة.. لم يترك فرصة سنحت له إلا واستثمرها في صقل وعيه وإنضاج تجربته الإنسانية والفكرية والسياسية. كان سيف عصامياً في كل شيء.. في الفكر نمّى نفسه وارتشف من رحيق الثقافة وكوّن نفسه بنفسه... في السياسة، كان عروبياً وطنياً يهتم بقضاياه الوطنية والقومية، ومن أجلها مات. في التعليم كافح وتعب ليحصل على مبتغاه... طارد شغفه المعرفي في دروب العواصم العربية المختلفة، وكان في ترحاله الجغرافي قارئا، مفتوح القلب والبصيرة... أما فيما يخص الوطن وبناءه والإخلاص في خدمته، فكان له حضور لا يضاهى، ولعل هذا ما يجعله حاضراً في الذاكرة إلى الآن، وكلما ذكر تاريخ الإمارات، ورجالها الأوفياء، سيكون سيف سعيد بن غباش المري في أول القائمة. ولد سيف سعيد بن غباش المري في 21 أكتوبر 1932، في حي معيريض بإمارة رأس الخيمة، توفي والده سعيد بن غباش بن مصبح بن أحمد بن زايد بن صقر بن أحمد المري عندما كان في 12 من عمره، وتوفيت والدته بعد 3 أشهر من وفاة والده، وعاش بعدها مع عمته في دبي لمدة 3 سنوات حيث التحق بالمدرسة الأحمدية لفترة من الزمن وكان يدرس اللغة الإنجليزية في مدارس ليلية. تعليمه وأسفاره في عام 1946 بدأ مسيرته التعليمية على يد الشيخ أحمد بن حجر حيث تعلم النحو والبديع والبيان والفقه الإسلامي وعلم الفرائض، متميزا عن أقرانه الطلبة بذكائه وسرعة حفظه للأبيات وحل مسائل الفرائض، وقام بتأدية فريضة الحج برفقة جدته وصحبة الشيخ سيف المدفع قاضي إمارة الشارقة آنذاك. وفي خريف عام 1949 سافر إلى البحرين طلبا للعلم والمعرفة، وعلى الرغم من التحاقه بالدراسة في المدرسة الابتدائية الشرقية في المنامة قبل الامتحان النهائي للسنة الرابعة الابتدائية بعدة أشهر فقط، إلا انه نجح بتفوق وامتياز وكان ترتيبه الأول على جميع طلبة البحرين. أثر العدوان غادر البحرين إلى العراق بعد تخرجه في الثانوية العامة عام 1953 وحصوله على المركز الأول، حاملا رسالة توصية تشيد بكفاءته من دائرة المعارف، لبدء رحلته الجامعية في دراسة الهندسة في جامعة بغداد، واجتاز السنة الأولى والثانية بنجاح لافت، رغم أنه لم يدرس دراسة علمية في البحرين، لكن الظروف السياسية التي أعقبت العدوان الثلاثي على مصر حالت دون إتمامه السنة الثالثة، فقد اضطر إلى مغادرة العراق عام 1956 متوجها إلى مصر حيث حصل على بعثة من المؤتمر الإسلامي هناك، لكن كلية الهندسة لم تعترف بدراسته في بغداد، فقرر السفر إلى الكويت ليعمل هناك بوظيفة مساعد مهندس في دائرة الأشغال الكويتية، من دون أن يفقد إصراره على متابعة القراءة والبحث العلمي إلى درجة تحولت فيها غرفته المتواضعة في أحد الأزقة الضيقة إلى محطة لزملائه المفكرين يناقشون فيها أمور السياسة والثقافة والتاريخ العربي والعالمي. إلى غوتة في عام 1959 هاجر سيف غباش إلى النمسا بعد أن توقف برهة في لبنان الذي كان يحتضن حينها معظم المثقفين والسياسيين، وأقام في مدينة كراتس التابعة للعاصمة فيينا حيث انكب على دراسة اللغة الألمانية بشغف واهتمام لينمي ذاكرته بروائع الأدب الألماني مثل الشاعر “غوته”، لكن الظروف المادية وغلاء المعيشة حالت دون التحاقه بالجامعة لمتابعة دراسة الهندسة، فقرر الانتقال إلى ألمانيا وتحديدا إلى مدينة ديسلدورف حيث عمل مساعد مهندس في شركة إنشاءات ألمانية، مصرا على جمع ما يكفي من المال لمتابعة دراسته. وانتقل من ألمانيا إلى سويسرا متقدما للعمل في شركة أخرى كمساعد مهندس، حيث تمكن بذكائه وتفوقه من الحصول على الوظيفة، واستفاد من وجوده هناك بالقيام بزيارات متعددة إلى إيطاليا التي ساهمت في إثراء ثقافته في حقل الآداب والفنون وقدر لا بأس به من اللغة، وفي عام 1963 انتقل إلى العاصمة الفرنسية باريس وفي نيته الاستقرار لإتمام دراسته الجامعية في الهندسة، حيث حاول الحصول على منحة دراسية إلا أن الظروف لم تساعده في ذلك، فحول جهوده نحو تعلم اللغة الفرنسية ودراسة الأدب والفلسفة قارئا لكبار المفكرين والأدباء أمثال ألبير كامو وجان بول سارتر وموليير. العائد إلى الوطن في عام 1969 بعد نحو 20 عاما من الغربة والترحال، عاد سيف سعيد غباش إلى مسقط رأسه في رأس الخيمة، وهو مملوء بالحماس للعمل في خدمة وطنه، وتأمين مستقبل آمن لعائلته حيث رزق تباعا بأبنائه الثلاثة عدنان وعمر وسعيد. كان أول عمل اسند إليه هو رئيس قسم الهندسة في بلدية رأس الخيمة، حيث لعب دوراً كبيراً في تخطيط المناطق الزراعية والسكنية التي كانت الإمارة تخطط لمنحها إلى مواطنيها، فساهم في وضع الخرائط، وتقسيم الأراضي، وتنظيم ملكيتها ومساحتها، بالإضافة إلى مشاريع حماية الشواطئ وشبكة المواصلات الحديثة. وفي تلك الأثناء لم يتوقف أو يغفل عن دوره الثقافي والمجتمعي، فقد سعى إلى بث المعرفة والنهضة الثقافية من خلال كتابة المقالات في مجلة رأس الخيمة؛ حيث كان يترجم كل ما تكتبه كبريات الصحف والمجلات العالمية عن الأحداث المهمة في العالم، كما نشر أفكاره عن مشروع حماية شواطئ المعيريض الشمالية وشبكة المواصلات الحديثة للإمارة، داعما مقالاته بالخرائط والرسومات الهندسية المبسطة. في السياسة رافق سيف غباش صاحب السمو الشيخ صقر بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم رأس الخيمة إلى بعض العواصم العربية والأجنبية بين عامي 1969 و1970. كما شارك ضمن وفد رأس الخيمة في محادثات الاتحاد التي سبقت انسحاب بريطانيا من المنطقة وإعلان استقلال دول الخليج. وفي عام 1971 كان من أوائل الإماراتيين الذين هبوا للدفاع عن أرضهم ووطنهم حيث ذهب ضمن وفد من الإمارة إلى القاهرة، لعرض قضية احتلال إيران الجزر الثلاث (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى) على مجلس جامعة الدول العربية، مدافعا عن عروبة الجزر، ومطالبا بإنهاء الاحتلال الإيراني، كما شارك في إصدار نشرة عن تطورات الوضع بعد الاحتلال وساهم في ترجمة وصياغة البرقيات المرسلة إلى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى. وبعد قيام دولة الإمارات العربية المتحدة في 2 ديسمبر 1971 تم تعيينه في منصب وكيل وزارة الخارجية؛ حيث عمل جاهدا في تنظيم الوزارة وتجهيز العناصر الجيدة من شباب الإمارات لإرسالهم إلى سفارات الدولة في الخارج، كما قام بتنظيم الإدارات التابعة للوزارة ومنها الشؤون السياسية والشؤون القنصلية والمالية والإدارية والسكرتارية، ساعيا إلى تربية جيل جديد من الدبلوماسيين عبر دعوتهم الدائمة إلى تحكيم العقل، والابتعاد عن الانفعال والعواطف، وانتهاج الموضوعية في الحكم على الأحداث التي تمر بها البلدان العربية والأجنبية. في 25 ديسمبر 1973 شكلت وزارة اتحادية جديدة وعين الشهيد الراحل أول وزير دولة للشؤون الخارجية، ليصبح المتحدث الرسمي باسم الإمارات في المحافل الدولية، محاولا بكل جهده إيصال صوت الإمارات إلى العالم ودعوتها إلى صداقة الشعوب واستتباب العدالة والسلام. نصير الفلسطينيين كان من أشد المتحمسين للقضية الفلسطينية حيث ذكّر الأمم المتحدة في خطابه أمام الجمعية العامة عام 1975 بقراراتهم لمنح الشعب الفلسطيني حقوقه الثابتة، واتخاذ قرارات لإجبار “إسرائيل” على الالتزام وفق الفصل السابع من ميثاق المنظمة الدولية. كما كان داعيا إلى إقامة علاقات عربية أوروبية تنطلق من الجذور التاريخية. في عام 1976 شارك في مناقشة قضية الشرق الأوسط أمام مجلس الأمن، وألقى خطابا بارزا ندد فيه بالسلوك العدواني لـ “إسرائيل”، وكان خطابه الأبرز قبل يوم من استشهاده في 24 أكتوبر 1977 وحيث كنت شخصيا من ضمن المشاركين في وفد الإمارات للجمعية العامة للأمم المتحدة، وكان الوفد برئاسة سيف بن غباش الذي أدهش المشاركين في اجتماع الأمم المتحدة بعرض عميق وواضح لمسيرة المنظمة الدولية. اليوم الأسود عند الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الثلاثاء 25 أكتوبر 1977 كان الراحل يرافق عبد الحليم خدام وزير الخارجية السوري آنذاك إلى مطار أبوظبي لوداعه، وعند دخول الوزيرين إلى الصالة الكبرى لمطار أبوظبي وفي طريقهما إلى قاعة الشرف انطلقت رصاصات كانت تستهدف اغتيال خدام لكنها أصابت الوزير غباش في كتفه وبطنه حيث نقل إلى المستشفى وتوفي متأثرا بجروحه. أصداء الرحيل كان خبر استشهاده مفاجأة لنا في الأمم المتحدة وخاصة وفد الدولة، إذ إنه كان معنا بالأمس وها هو اليوم يغتال برصاص الغدر... كما كانت أيضاً مفاجأة لمعظم أصدقائه من الكتّاب والسياسيين الأجانب: في الأمم المتحدة أبدى كل من شارك في الجمعية العامة أسفه البالغ للخسارة الفادحة التي منيت بها الإمارات. في واشنطن توالت البرقيات والمكالمات الهاتفية على سفارة الدولة من رؤساء معاهد وجمعيات وبعض أعضاء مجلس الشيوخ. أما في أوروبا فقد كانت اللجنة العامة للحوار العربي والأوروبي مجتمعة حينما انتشر خبر وفاته فما كان من المشاركين إلا أن قطعوا الاجتماع ووقفوا دقيقة صمتا على روحه. قالوا عنه بعد الوفاة مثال للرجل المسؤول وواحد من خيرة الشباب ممن جاهدوا وسعوا إلى خير العرب ووحدة كلمتهم وتضامنهم زايد بن سلطان آل نهيان انه فلتة من فلتات الزمان وكانت المسؤولية تنتظره كثمرة حان وقت قطافها فتحملها بكل جدية وكفاءة صقر بن محمد القاسمي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©