الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

موقف تنويري يتأسس جمالياً

موقف تنويري يتأسس جمالياً
25 يونيو 2014 22:23
في الأول من أغسطس المقبل، سوف يكون اختتام معرض «100 قطعة فنية تحكي تاريخ العالم» الذي تقيمه هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، ممثلة في متحف زايد الوطني، المقرر افتتاحه عام 2016، حيث من الممكن اعتبار هذا المعرض «تمريناً» أو تجربة جمالية من نوع خاص، على ما سيكون عليه متحف زايد الوطني مستقبلاً، إذ تمّ استهداف الجمهور بكل أطيافه، مثلما سعت إدارة المتحف إلى استقطاب هذا عبر العديد من الأنشطة الموازية التي تضمنها برنامج ثقافي خاص بهذا المعرض .. ما يلي محاولة لفهم الاستراتيجية التي ينبني عليها متحف زايد الوطني في هذه الأثناء. جهاد هديب بهدف واضح، فإن المقصود من «100 قطعة فنية تحكي تاريخ العالم»، هذا المعرض الذي افتتح في الثالث والعشرين من أبريل، هو «متحف زايد الوطني». وبنص صريح، تقول هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، إن «100 قطعة فنية تحكي تاريخ العالم» يستعرض تاريخ العالم عبر مجموعة مختارة ومتنوعة من القطع الفنية، كما يقدم في الوقت ذاته نظرة شاملة عمّا سيكون عليه متحف زايد الوطني. ويُعد هذا المعرض الثالث من نوعه ضمن سلسلة من المعارض التي تقام بالتعاون مع المتحف البريطاني، تمهيداً لافتتاح متحف زايد الوطني في المنطقة الثقافية في السعديات في عام 2016. ما يعني أن الفئة المستهدفة ها هنا هي الجمهور بكل أطيافه وفئاته وبكل أعراقه وثقافاته، وأن الهيئة تسعى لأن يكون متحف زايد الوطني متحفاً يتصل بتاريخ الإمارات والمنطقة العربية، ومن ثم الإقليم، فثقافات العالم إجمالاً، أي أن تتأسس نواته الأولى بانفتاح على مختلف ثقافات العالم القديم والحديث والراهن أيضاً. المشترك الإنساني من وجهة النظر هذه، فإن «عالمية» متحف زايد الوطني سوف تتحدد بناء على مقدرته على استيعاب أكبر عدد من القطع والأعمال الفنية التي تخص «المشترك الإنساني»، حيث إن هذا «المشترك الإنساني» ما زال مطرح نقاش وجدل وغير متفق عليه في علم بناء المتاحف وإداراتها. هذا العلم الذي انبنى في العالم الحديث، والغرب خصوصاً، على جملة خبرات الإدارة الخاصة بهذا المتحف أو ذاك في التعامل مع المنتج الفني والفنان والجمهور عبر قرابة ثلاثة قرون من نشأة أول متحف، بالمعنى الاحترافي للكلمة، ليكون متحفاً عالمياً يخص الجمهور بكل فئاته وأطيافه، ولا يقتصر على النخب، ويتسع دائماً للمزيد من الأعمال واللقى، وما تنتجه بعثات الأركيولوجيا هنا أو هناك، وما يمكن اقتناؤه من هذه الثقافة أو تلك عندما يكشف عن جديد أو يروي حكاية مختلفة عن حضارة غامضة أو مجهولة، وفي الوقت نفسه، يكون منفتحاً، فيقيم معارض في صالات العرض الخاصة به لمجمل المدارس والتيارات الفنية السائدة والراهنة بصرف النظر عن راهنيتها. والحال، أن إقامة متحف ذي نزعة عالمية في هذا الزمن، تحديداً بكل ما فيه من حدة استقطابات إيديولوجية وسياسية، هي فكرة تجد جذراً لها في نزعة «التنوير»، هذه النزعة التي باتت نادرة الآن مع حدة الانقسامات التي تشهدها المنطقة منذ ما سمي بـ «الربيع العربي». من هنا، تأتي أهمية متحف زايد الوطني بوصفه قيمة معرفية وإنسانية تقدم ذلك المشترك الإنساني بين الثقافات والحضارات. حاجة عالمية إن وجود هذه النزعة التنويرية التي تقف خلف فكرة متحف زايد الوطني، يقتضي أن على البشر، أو مَنْ هم موجودون الآن وهنا، التعرف إلى ما تنتجه البشرية في اللحظة الراهنة بوصف هذا المتحف هو فضاء يتسع لأفكار تنتجها البشرية الآن، ذلك أن أي متحف يتأسس على فكرة «العالمية»، فإن قدره هو أن يكون منفتحاً على الأشكال الفنية كلها والمدارس الفنية كلها أيضاً، مع أنه لا يمكن لمتحف واحد في العالم أن يكون عالمياً وحده، لذلك تعددت المتاحف العالمية في العالم وتوزعت على جهات الأرض الواسعة، وضمتها مدن عريقة، عالمية، ذات طابع كوزموبوليتاني مثل: نيويورك ولندن وطوكيو وسواها، وباتت هذه المتاحف حاجة عالمية تُبرز للعيان خلاصات وشذرات من التجربة البشرية التي تعلي من شأن «الإنساني» القيم والمثل التي تعزز من استمرار هذا «الإنساني» عبر ما هو مشترك في المنجز البشري. فالكل، من هنا أو من هناك، ومن هذه الثقافة أو تلك، ومن هذا الزمن أو ذاك، قد أسهم في التجربة البشرية إلى حدّ أنه لا فضل لأحد على أحد سواه، ذلك أن النزعة الجمالية لدى الإنسان موجودة في كل الحضارات ومنذ فجر التاريخ. وبالعودة إلى «100 قطعة فنية تحكي تاريخ العالم»، وبحسب ما أعلنت الهيئة أيضاً، فإن المعرض يتيح لزواره «إمكانية الانتقال عبر الزمان والمكان حول العالم ليستكشفوا كيف استطاعت البشرية صياغة شكل الحياة في تلك الأزمنة، ويمتد عمر القطع الأثرية إلى نحو مليوني سنة، لتكشف عن مجموعة كبيرة من الأفكار والمواضيع التي جعلت الإنسان يصنع تلك القطع، وكيف كانت حياته ومعتقداته خلال تلك المراحل من عمر الإنسانية». حكايات مخبوءة في هذه المرحلة، الأسبق على المرحلة التأسيسية، يفترض المرء أن متحف زايد الوطني «المستقبلي» سوف تضم أجنحته العديد من الأعمال والقطع الفنية التي هي في الأساس ليست من نتاج متاحف أخرى، أي ليست من صنيع فنانين معروفين بل من نتاج الحفريات والبحث الأركيولوجي وما هو دفين ومخبوء في باطن الأرض، ويروي حكاية ما عن زمن ما وشعب ما وحضارة بعينها، بدءاً من ما هو متوافر إلى حدّ الآن في الإمارات، ومن نتائج الحفريات الأركيولوجية وخلاصاتها. هذا ما تشير إليه الاستراتيجيا التي حددتها هيئة أبوظبي للثقافة والفنون التي على أساسها يقوم الآن بناء متحف زايد الوطني. ونعلم أن هذا المتحف مهما بلغ الأمر به في تحصيل القطع الفنية والأعمال التي تروي حكايات ما زالت مخبوءة عن مجتمعات إنسانية غير مكتشفة؛ فإنه لن يجمع، دائماً، كل ما أنتجته البشرية على هذا الصعيد التي من بينها تلك المفردات الفنية الجديدة. لكنّ الطموح ينبغي أن يتضمن، دائماً، تلك النزعة إلى أن يكون كونياً وعالمياً، وأن يحاول الخروج باستمرار من دائرة ما تجود به الأرض الإماراتية، أي الاكتشافات الأركيولوجية، وحدها هنا وفي المنطقة العربية بأسرها أيضاً، بل هو الانطلاق نحو ما كانت تجود به المخيلة البشرية من إبداعات وأفكار تتجسد في أدوات وأساليب وقطع فنية وأعمال أخرى من المقصود منها التعبير الجمالي الفردي والجمعي، وكذلك ما تجود به المخيلة البشرية الآن. بهذا المعنى، فإن الطموح ينبغي أن يكون هو الوصول إلى الدرجة القصوى للعالمية وليس الدرجة الكاملة والمطلقة؛ إذ إن هذا الأمر لم يتحقق حتى الآن لمتاحف أخرى من طراز اللوفر الباريسي أو المتحف البريطاني أو حتى متحف التاريخ الطبيعي النيويوركي، غير أن الطموح والتخطيط الاستراتيجي في الاقتناء هو الذي جعل من هذه المتاحف عالمية بحق. والأرجح أنه في هذه اللحظة الراهنة لا توجد خيارات أخرى أمام البشرية، وليس أمام إدارة متحف زايد الوطني وحدها فحسب، إذ إن عالمية «المتحف»، أي متحف، تتمثل في قدرته على أنه يستطيع القيام بجمع ما يمكن له أن يجمع من الميراث الإنساني الثقافي في مكان واحد، ليكون بذلك هو المكان، غير الوحيد، الذي يجمع فنون العالم دون تراتبية ثقافية بل عبر سوية واحدة، تتجاوز الدوائر الضيقة للفكرة الثقافية أحادية الجانب، وتتجاور عبرها الثقافات جميعاً دون تمييز أو نبذ أو دحض أو ترفّع، وهذا هو ما نفتقر إليه الآن، ما يعني أن تأسيس متحف زايد الوطني يقدم رهاناً نقيضاً في هذا السياق ويكشف عن الحاجة الماسة إلى «الآخر» عبر العصور المختلفة، بروح لا تقصي ولا تنبذ، بل تروي حكاية التجربة البشرية ذاتها عبر أزمنتها المختلفة، وعبر قطع فنية وأعمال باتت تجسد موقفاً جمالياً ومعرفياً من العالم والحياة والكون بكل تفاصيل هذا الموقف، إذ منها تتشكل الذاكرة البشرية في هذه الأثناء. بهذا المعنى، أن تبني متحفاً الآن وفقاً لهذه الاستراتيجية، فهذا يعني أنك تتخذ موقفاً تنويرياً تجاه كل ما يجري حولك، في هذه المنطقة الأكثر سخونة في العالم التي تقع دائماً على شفير حرب كارثية. أي أنك تذكر بما أنجزته البشرية، أفراداً ومجتمعات، عبر موقف جمالي منفتح ويحتاج استيعابه إلى زمن يستطيع خلاله الناس هضم هذه الفكرة وليس عبر الانصياع للشروط القاسية التي يفرضها عليك زمن راهن و«آخر» لا تتعدى فكرته عن العالم والتجربة البشرية سوى فكرة الحوار عبر الحرب والاحتلال. ما يعني، في المحصلة النهائية، أن «الآخر» هو ما أنجز بالضرورة، وقد تجسد في موقف إنساني وجمالي ذي أبعاد معرفية وليس الفكرة المسبقة عنه. هذا الموقف الثقافي، بكل نزعته الجمالية، هو ما يصبو إليه متحف زايد الوطني، وهذا ما «ينبغي» فهمه، إذا جاز القول، من قبل الزوار المحتملين القادمين إلى هذا المتحف من الثقافات والأعراق كافة على اختلافها واختلاف هوياتها ومرجعياتها. وهذا يعني أيضاً أن متحف زايد الوطني يجري الآن الإعداد له ليكون مليئاً بالإحالات المرجعية التاريخية، سواء تلك التي تتعلق بالفن وتاريخه أو بذاكرة التاريخ المشترك بين الحضارات؛ سواء اتخذ الحوار بينها شكل الحرب أم التبادل التجاري؛ بوصف ذلك الحوار هو المجال الذي انتقلت من خلاله التأثيرات المتبادلة للأفكار والفنون، بل وحتى الأديان أيضاً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©