الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حياة سائلة

حياة سائلة
27 سبتمبر 2017 20:20
تقديم واختيار - عبير زيتون في الوقت الذي تمضي فيه حياتنا المعاصرة «كالطيف» في تقلبها وتلونها المتغير بين أطوار تسمياتها الضبيابية بين «الحداثة» وما بعد الحداثة و«ما بعد بعد الحداثة» بشكل أسرع من قدراتنا الإدراكية الآنية على الإمساك بتلابيب مراميها المتغيرة، وهي تُغوينا بألوان السعادة المفترضة إلى مطاردتها، واللحاق بمغرياتها المتبدلة، ووفق شروطها، تحضر أعمال البروفيسور وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (1925 - 2017) بوصفها الأكثر شهرة بعمقها الفكري والإنساني، وهي تجهد في نحت مسار تشكل وتكون مفهوم «الحداثة السائلة» عبر المراقبة، والتحليل لمسار سيولتها، وهي تطغى على كافة مناحي الحياة، وصولا لأرضية معرفية غنية بوعيها الإدراكي تعين إنسان اليوم المطارد باللايقين، والحيرة على الوقوف في سباق الحياة المتحرك. ألّف «باومان» الذي توفي حديثاً (9/يناير/2017) عن عمر (91 عاماً) في منزله في مدينة ليدز البريطانية، أكثر من خمسين كتاباً استبدل في الكثير منها «حداثة صلبة» وحداثة سائلة «بمفهومي/الحداثة/ وما بعد الحداثة/ وربط الكثير من متغيرات العصرالكوكبية«بالنزعة الاستهلاكية» التي ارتفعت وتيرتها، وانتشرت مظاهرها وتعمقت آثارها بفعل العولمة الكوكبية حتى طالت بنية الإنسان السلوكية والنفسية والأخلاقية... هذه الشذريات من أعماله«الحياة السائلة» «الأخلاق في عصر الحداثة السائلة»، وبعض من«الحب السائل» و«هشاشة الروابط الإنسانية». ثمة صلة وطيدة بين«الحياة السائلة» و«الحداثة السائلة»، فالحياة السائلة نحياها عادة في مجتمع حديث سائل، وهو مجتمع تتغير فيه الظروف التي يعيشها أعضاؤه بسرعة لاتسمح باستقرار الأفعال والعادات والأعمال المنتظمة. وهكذا تتغذى«سيولة الحياة» على«سيولة المجتمع» وتستمد طاقتها وحيويتها منها والعكس صحيح. كما أن«الحياة السائلة» تماما مثل«المجتمع الحديث السائل» لايمكن أن تحتفظ بشكلها ولا تظل على حالها وقتاً طويلاً. *** الحياة السائلة حياة محفوفة بالمخاطر يحياها المرء في حالة من«اللايقين الدائم»، وأشدها حس«الخوف» من أن تأخذه على حين غرة، ومن الفشل في اللحاق بالمستجدات المتسارعة، ومن التخلف عن ركب السائرين، ومن إغفال تواريخ نهاية الصلاحية. *** «الحياة السائلة» تبني مجدها على«قبور» لا تحتفظ بعزيز، تُخَلِد ذكراه شواهد القبور الفاخرة. *** الحياة في«مجتمع حديث سائل» يدفعها من الخلف«الهلع» من انتهاء الصلاحية، ومن ثم، فهي ليست بحاجة إلى أن تجذبها«جنة متخيلة» عن النهاية السعيدة. بل يحتاج المرء أن يجري بكل قوته حتى يبقى في المكان نفسه بعيدا عن«سلة النهاية» التي ستكون مصير كل من هم في مؤخرة السباق. *** «التدميرالخلاق» موضة«الحياة السائلة»، ولكن ما يغفله هذا المصطلح ويسكت عنه هو أن التدمير يستهدف حيوات أخرى، بمن في ذلك«البشر» الذين لا يحبون هذه الحياة. *** الحياة في«المجتمع الحديث السائل» هي نسخة مخيفة من«لعبة الكراسي» الموسيقية تحولت إلى واقع حقيقي. ويكمن الرهان الحقيقي في هذا السباق في النجاح«المؤقت» من الاستبعاد والادراج في صفوف الهالكين. **** أيقونة النجاح في عالم الأعمال في«الحداثة السائلة» يتسم باستعداده لتحطيم ما صنع دون اكتراث، وقبوله للتفتيت والتحطيم دون مبالاة، حيث«سكنه» الاضطراب، و«نجمه» يلمع وسط الانفصال والتفكك. *** التحلل من قيود العلاقات، وإمكانية فك الارتباط، هما دليل أهل مدن«الحداثة السائلة» في كل علاقة يدخلونها، وفي كل ارتباط يشرعون فيه. *** ليس بوسع«الإنجازات الفردية» في المجتمع الحديث السائل أن تكتسب صلابة الأشياء الدائمة، ذلك لأن المزية تتحول في لمح البصرإلى«عيب»، والقدرة إلى«عجز»، كما أن ظروف الفعل والاستراتيجيات التي يلجأ إليها الفرد تَقدم بسرعة، ويبطل استعمالها قبل أن نتعلمها على الوجه الصحيح. *** الصراع من أجل«التفرد» الآن هو المحرك الرئيس للإنتاج والاستهلاك الجماهيري، وهذا ما يتطلب من الاقتصاد الاستهلاكي أن يكون استهلاكا لأشياء ينتهي عمرها بسرعة، وتنتهي دورتها في الحال. *** إن الاستقطاب الذي تنطوي عليه«الخصخصة» العنيفة لأهداف الحياة ومرونتها له أبعاد تمس الكوكب بأسره. ففرص عبور الفجوة بين الفردية بحكم القانون، والفردية بحكم الواقع ستبقى غير متكافئة تماما في أنحاء الكوكب مادامت حكومات الغرب المُترف تنفق«350» مليار دولار كل عام لدعم تربية حيواناتها، فإن أبقار أوروبا ستبقى أفضل حالاً من نصف سكان العالم. *** إحدى التبعات المهمة المشؤومة لتلك الإيديولوجيا الجديدة تتمثل في استبدال مقولة«الهوية المشتركة» «لتحل محلها«المصالح المشتركة». *** تنجرف«الهوية» مع تيار الأحداث واحدا تلو الآخر دون وعي بمآلاته ومقاصده، إنها تنساق وراء الرغبة في اجتناب التاريخ الماضي، لا رسم خريطة المستقبل. لذا فهي حبيسة حاضرها إلى الأبد بعد تحريرها من دلالاتها الدائمة بوصفها«أساس المستقبل». *** يتغلغل الشكل السلعي ويعيد تشكيل أبعاد الحياة الاجتماعية التي كانت مستثناة حتى ذلك الحين من منطقه إلى حد تصبح معه«الذاتية» نفسها سلعة تشترى وتباع، بوصفها جمالاً ونظافة وإصلاحاً واستقلالاً ذاتياً. *** في«الثقافة الاستهلاكية» نتعلم تفضيل المنتجات الجاهزة للاستخدام الفوري والاشباع اللحظي مع وعد بتعليم«فن الحب» دون جهد طويل للغوص فيه كحاجة وضرورة، مع التأمين ضد مخاطره مما يُحَول«فن الحب» إلى سلعة أخرى لها مفعول السحر والإغواء، ودون تعب الانتظار أو جهد يحفظ ديمومته كأمنية إنسانية خالدة. *** يرى«العقل الحديث السائل» في الالتزامات الدائمة ظلماً وغَماً، وفي الارتباط المتين إنسانيا تبعية وقيداً، لذلك ينكر العقل الحديث الحقَ في الالتزام والارتباط المكاني أو الزماني. فلا حاجة ولا منفعة يمكن للعقلانية الحديثة السائلة الاستهلاكية أن تبررهما. *** في عالمنا الذي تستحوذ عليه لغة الاحصاءات والمتوسطات الرقمية نميل إلى قياس درجة لاإنسانية الحرب بعدد الضحايا، ونميل لقياس الشر والقسوة والعدوان والبشاعة بعدد ضحاياه رغم أنه لا صرخة من العذاب أشد من صرخة إنسان واحد، ولا عذاب أشد مما يمكن أن يعانيه إنسان واحد، ولا معاناة الكوكب بأسره بأشد من عذاب روح واحدة. *** النجاح الجوهري«لعدوان السوق» على حياتنا البشرية يكمن في الانهيار التدريجي والمتواصل لمهارات الاجتماع والتواصل الإنساني وهذا التراجع السريع«لمهاراتنا الإنسانية» سيستمر طالما نسمح«للحياة الاستهلاكية» بجعلنا نميل نحو معاملة الآخرين باعتبارهم«موضوعات استهلاكية» والحكم عليهم مثل نموذج الموضوعات الاستهلاكية وفق حجم اللذة، ولغة الفائدة. *** إن سياسة«فقدان الاستقرار» التي يديرها القائمون على أسواق العمل، تؤيدها سياسات الحياة وتعزز آثارها، فسياستا العمل المؤقت، والحياة كلتاهما تلتقي في النتيجة نفسها: اضمحلال الروابط الإنسانية، والعلاقات الإنسانية، وذبولها وتداعيها، وتفسخها، فالعهود الماضية بأن (لا يفرقنا إلا الموت) صارت (عقودًا بصيغة مادام الإشباع) وهي عقود مؤقتة وعابرة وعرضة للفسخ من جانب واحد، عندما يكتشف أحد طرفي العقد فرصة وقيمة في الخروج من العلاقة، تفوق محاولات إنقاذها بأي ثمن ومن غير حساب. «حوار» *** «وسائل التواصل الاجتماعي» لا تعلمنا أن نتحاور، فمعظم الأشخاص يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي ليس للاتحاد، ليس لتوسيع آفاقهم إنسانيا، ولكن على العكس، ليخلقوا لأنفسهم«منطقة راحة» لاجدل واختلاف فيها، حيث الأصوات الوحيدة التي تصل إليهم هي صدى صوتهم، حيث الأشياء الوحيدة التي يرونها هي انعكاسات وجههم. وسائل التواصل الاجتماعي مفيدة للغاية، إنها توفر المتعة، لكنها فخ قاتل. «حوار» *** بما أنه لا توجد آليات، ولا حواجز قانونية، أو مؤسسية قادرة على صد الأفعال الإبادية بشكل فعال، فإن دفاعنا الوحيد ضدها سيعتمد على«الرَفع الأخلاقي» أفرادا ومجتمعات، وعلى الضمير الحي روحيا، والإرادة القوية لفعل الخير، على الإنصات إلى الوصية التاريخية:«عليك أن تحب جارك كما تحب نفسك». **** ربما يتطلب«حب الجار» قفزة إيمانية، لكن النتيجة هي«ميلاد البشرية» وهو أيضا الانتقال المقدر من غريزة البقاء إلى رفعة الأخلاق. إنه انتقال يجعل الأخلاق جزءا من البقاء، وربما شرطا لاغنى عنه من أجل البقاء وبقاء للإنسانية الكامنة في الإنسان. فالأخلاق تزعج الوجود المهادن. *** الثقافة الحديثة السائلة لم تعد تشعر بأنها«ثقافة تَعلم»، تتراكم كالثقافات السابقة، بل إنها تبدو ثقافة فك الارتباط، والقطيعة، والنسيان.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©