الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الكتابة و التناسخ

الكتابة و التناسخ
28 سبتمبر 2017 01:56
عبد السلام بنعبد العالي عندما ظهر كتاب عبد الفتاح كيليطو في نسخته العربية متزامناً للكتاب نفسه في صيغته الفرنسية، كان إعلاناً عن ثورة، لا في نظرتنا إلى الأدب فحسب، وإنما في تأريخنا له وانتقادنا إياه. ذلك أن هذا الكتاب لم يكن مجرد «تاريخ للأعمال الأدبية ومؤلفيها»، ولم يكن ليدخل ضمن التأريخ التقليدي للأدباء وأعمالهم، إنه لم يكن يهدف إلى أن يدرُس بعض أشكال الخطاب في قيمتها التعبيرية، أي من حيث إنها تصدر عن «حوافز» «عميقة» وقدرات «إبداعية» و«مشروعات» فردية، خطرت بأذهان مبدعيها وجالت بخلدهم، وإنما كان يهدف إلى أن يتعقبها في أنماط وجودها وتداولها وانتقالها. فهو لا يسأل هنا: كيف تقدر حرية فاعل أن تندرج في كثافة الأشياء لتعطيها معنى؟ كيف تقدر أن تجدد القول عندما تكرره؟ إنه لا يسأل: كيف يقدر الكاتب أو الشاعر أن «ينخرط» بمشاريعه ومقاصده الذاتية ضمن التراث الثقافي؟ وإنما: وفق أيّ شروط، وحسب أيّ أشكال أمكن لشيء مثل المؤلف أن يظهر في منظومة بعض الخطابات؟ أيّ وظائف أمكن أن يمارسها وبخضوعه لأيّ قواعد؟ ومجمل القول، فإن «المؤلف» لا يُسأل هنا كأصل وأساس، وإنما كوظيفة ومفعول لبعض أشكال الخطاب. حفر داخلي يستهل كيليطو مؤلَّفه باسترجاع ذكرى طفولة، حيث نلفي تلميذا مازال حديث عهد بالنصوص الأدبية، تلميذاً لم يتعلم بعدُ قراءة النصوص، يتوجه بالسؤال إلى أستاذه: لماذا الحرص على توقيع النصوص وربطها بمؤلف؟ هذا الحفر في الذاكرة سيصبح داخل الكتاب حفرا في ذاكرة الثقافة العربية الكلاسيكية، حيث يحاول الكاتب فحص «مفهوم المؤلف» في تلك الثقافة. وقبل أن نتساءل عن الصورة التي اتخذتها هوية المؤلف في تلك الثقافة، ينبغي أن نؤكد أن هذه الثقافة ترفض «الغفلية»: «ففي هذه الثقافة لا يكفي لقول ما أن يتوافر على (انتظام خاص) كي يعتبر نصّاً، ينبغي، فضلاً عن ذلك، أن يصدر عن، أو يُرقى به إلى قائل يقع الإجماع على أنه حجة Autorité. حينئذ يكون النص كلاماً مشروعاً ينطوي على سلطة وقولا مشدوداً إلى مؤلف - حجة». وظيفة المؤلف أن يخصص نمطاً معيناً من أنماط وجود الخطاب، فأن يُربط قولٌ مّا باسم مؤلف، أن يمكن القول: هذا كتبه فلان، أو فلان مؤلفُه، فهذا يدل على أن هذا القول ليس كلاماً غفلاً يروج ويعبر ويُستهلك مباشرة، بل إننا أمام كلام يجب أن نتلقاه بشكل معين، كلام يلقى في تلك الثقافة وضعاً خاصاً: «إن الخطاب يظل مجال اهتزاز مقلق واستعداد احتمالي متوحش. ولن يُوقِفَ هذا التساؤلَ المحيّر ويُحدّدَ دلالة الخطاب العائمة إلا الانتسابُ إلى اسم بعينه: فكأن الخطاب، إن لم يحمل اسم مؤلفه، يكون مصدر خطورة ويصير أرضا غريبة تحار فيها الأقدام، وتختلط الاتجاهات لغياب نقطة مرجعية معينة مضمونة». وهكذا يُدرك الخطاب انطلاقاً من الاسم الذي يوقعه: «القطعة الشعرية تدرك انطلاقاً مما نعرفه سابقاً عن مؤلفها»، والنادرة يختلف مفعولها، بحسب نسبتها إلى ماجن أو إلى رجل متزمت. التقليد راعي حياة الكلام في بحثه عن الصورة التي اتخذتها وظيفة المؤلف في الثقافة العربية لا يسأل كيليطو النصوص عن مبدئها المفسر الذي يوحِّد تناقضاتها ويثبت أصولها ويضبط مصادرها، وإنما يتابع النصوص في كيفية تداولها وانتقالها وانتحالها. لذا فهو يفحص مفهوم المؤلف من زاوية السرقات والانتحالات. السرقة والانتحال والتزييف والتقليد ليست هنا أفعالاً مذمومة، ليست أفعالاً أخلاقية. التقليد راعي حياة الكلام. «فلولا أن الكلام يعاد لنفد». فلا وجود للكلام إلا في تكراره واجتراره. وكلما أعدنا الكلام وردّدناه نما وازدهر. «لكي لا يجفّ النبع ينبغي أن يسيل ويبذر المياه ويضحّي بنفسه ويستنفذ». لكل مقطوع شعري ذاكرة. وكل بيت شعري ينقل بيتا آخر، و«مهمة الشاعر أن يرسم رسما فوق آخر»، ويُكتب كتابة فوق أخرى.لا معنى هنا لانغلاق النص: «ألا يولد الاختراع الذي لا ينطوي على أي قدر من التقليد سوى غريب الكلام؟ ألن يكون في نهاية الأمر، إلا سراباً قاتلاً وقضاء على الكلام؟». ولكن، في عالم التقليد والتكرار هل يبقى للهوية وأسماء الأعلام والخصوصية والملكية la propriété، le propre، هل يبقى لهذه المفاهيم من معنى؟ فمن يتكلم وراء النصوص إذاً؟ الظاهر أن النصوص تروي ذاتها. يتضح لنا عند قراءة كتاب كيليطو أن التراث الأدبي يروي ذاته عبر الكاتب أو الشاعر، وأن الأنواع هي التي تُملي على الشاعر أو الكاتب «قواعد» التأليف ونماذجه وصوره. في هذا المجال لا قيمة لأسماء الأعلام: «فالشاعر لا يمدح أميراً بعينه، وإنما يمدح الأمير». والنسيب لا ينصب على امرأة بعينها، ولا يعبر عن عواطف شاعر بعينه، وإنما ينصبّ على المرأة، «وربما أتى الشاعر بأسماء لكثير من النساء في قصيدته تأكيدا على تعلقه بالتراث الشعري». لن يصبح العمل الأدبي، والحالة هذه، تعبيراً عن مؤلفه، إنه ليس انعكاسا لحالات شعورية، فليس المؤلف فاعلاً، وإنما سيمسي هو ذاته مفعولاً، وبالضبط مفعول النوع ووليده. ليس الأسلوب هو الرجل. الأسلوب هنا هو النوع genre. صحيح أن في متناول الجميع أن «يُوَلّد» كلاماً، وأن يضع هذا الكلام على لسان مؤلف - حجة، «في متناول كل متكلم أن يضمّ الألفاظ والجمل. ولكن قبول العملية يتوقف على ذكر الاسم المناسب اللائق. وهكذا يمكن للكلام أن ينمو ويتزايد، بيد أن عدد المؤلفين محدود وينبغي أن يظلّ كذلك. لكل نوع أعلام هي القادرة وحدها على أن تجعل الكلام مقبولاً، ما دامت تتمتع بخلفية نصية معترف بها». والمؤلف لا يمكنه أن يهجر النوع الذي حصره داخله الاعتقادُ الشائعُ الذي حطّ فيه نهائياً. الحركة أمر محظور عليه، «يمكن أن ننسب إليه ما شئنا من نصوص ذلك النوع، ولكنه عاجز أن ينتقل إلى أخرى ليست بيئتَه». ليس الخطاب الأدبي ذهنية سيكولوجية. إنه لا ينطوي على نيات ومقاصد يكون علينا بلوغها لإدراك معانيه. إذ إن الأحكام هنا تقع على ظاهر الأمور كما يقول الجاحظ. فالنص «يُقضى أنه لأبيه، ولعلّه لم يلده الأب الذي ادّعى إليه قط، إلا أنه مولود على فراشه، مشهور بالانتماء إليه». غير أن الظاهر هنا لا يعني المظاهر الخادعة، وإنما هو ظاهر كائن جيولوجي يتكون بفعل تراكم الآثار. ولكن لماذا هذا التكرار؟ لأن الكتابة ميدان تجسيدات متواصلة وتناسخات لا تنقطع. وأهمية باب «السرقات والانتحالات» هو أنه يجعلنا نضع أيديَنا على ذلك التنظيم الذي خضعت له حيوات التأليف، على عمليات الاستنساخ المتواصلة التي تعرفها الكتابة. كل كاتب ناسخ، والنسخ كما يقول لسان العرب هو «إبطال الشيء وإقامة آخر مقامه، تبديل الشيء من الشيء وهو غيره. لكنه أيضاً نقل الشيء من مكان إلى مكان وهو هو». النسخ هو الإلغاء والإبطال، ثم هو النقل والاستمرار. إنه نقل المعاني وتحويلها. لكنه ليس نقلاً لمعنى أصلي. إذ إن المعنى لا يوجد إلا في عودته وتكراره، «ولا إمكان للتكرار، كما يقول دريدا، إلا في الكتابة التي تُكمل نقصا ما مُضيفة لنقص الوحدة الممتلئة وحدة أخرى تجئ لإكمال نقصها». فإذا كان المعنى يخضع لعمليات توليد متواترة «فلأنه يشكو من نقص وحاجة وعدم اكتمال». الأثر والنسيان الكتابة والكلام طرس شفاف palimpseste وبنية التراث هي بنية الأثر trace. «في فجر التاريخ العربي نلفي رجوعاً إلى فجر سابق، إلى أصل وأساس، فجر مضى وامّحى ولم يخلف إلا بعض الآثار». الأثر «يمْثل في/‏‏بمحوه». زمان التراث وحضوره هو حضور الأثر «حيث يكون الحضور أثر الأثر، ما يخلفه محوُ الآثار من أثر، أثر محو الأثر» (دريدا). لتوليد التراث ينبغي محوه وتجاوزه، ولمحوه ينبغي توليده «ونحن نتحرر منه بالفعل ذاته الذي يجعلنا مشدودين إليه». هذا شأن الأحاديث الموضوعة على سبيل المثال: إنها تُجمع وتُنشر وتُحفظ مثل الصحيحة، وبالضبط للقضاء عليها، وتمييز «الموضوعات» من الصحاح. لتناسيها ينبغي حفظها وتذكّرها. ذلك أن النسيان ليس هو الإهمال والإغفال، ليس «قوة» سلبية. النسيان الذي ينصح به المقبل على نظم الشعر، النسيان الذي لولاه لما أمكن نظم الشعر، النسيان «قدرة إيجابية بالمعنى الدقيق للكلمة»، «قدرة تغلق من حين لآخر أبواب الوعي ونوافذه» فتحول دون تدفّق الماضي وسعيه لأن يحضر ويتجمد ويتطابق. «النسيان هو يقظة الذاكرة. إنه القوة الحارسة التي بفضلها يحافظ على سر الأشياء» (نيتشه). حينئذٍ سيصبح الشاعر قبل كل شيء منقّباً عن الآثار التي طواها النسيان أو كاد، وعليه أن يصارع النسيان. إن الشاعر «يتكلم كما لو كان يتذكر، لكن إن كان يتذكر فبفعل النسيان». ....................................... * عبد الفتاح كيليطو، الكتابة والتناسخ، مفهوم المؤلف في الثقافة العربية، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، الطبعة الأولى دار التنوير، بيروت، 1985. صدرت الطبعة الثانية عن دار توبقال سنة 2008. النسيان.. القوة الحارسة النسيان ليس هو الإهمال والإغفال، ليس «قوة» سلبية. النسيان الذي ينصح به المقبل على نظم الشعر هو النسيان الذي لولاه لما أمكن نظم الشعر، النسيان «قدرة إيجابية بالمعنى الدقيق للكلمة»، «قدرة تغلق من حين لآخر أبواب الوعي ونوافذه» فتحول دون تدفّق الماضي وسعيه لأن يحضر ويتجمد ويتطابق. «النسيان هو يقظة الذاكرة. إنه القوة الحارسة التي بفضلها يحافظ على سر الأشياء» (نيتشه). حينئذ سيصبح الشاعر قبل كل شيء منقّباً على الآثار التي طواها النسيان أو كاد، وعليه أن يصارع النسيان. إن الشاعر «يتكلم كما لو كان يتذكر، لكن إن كان يتذكر فبفعل النسيان». لا بد من قائل الثقافة العربية ترفض «الغفلية»: «ففي هذه الثقافة لا يكفي لقول ما أن يتوافر على «انتظام خاص» كي يعتبر نصّاً، ينبغي، فضلاً عن ذلك، أن يصدر عن، أو يُرقى به إلى قائل يقع الإجماع على أنه حجة Autorité. حينئذ يكون النص كلاماً مشروعاً ينطوي على سلطة وقولاً مشدوداً إلى مؤلف-حجة».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©