الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ثلاثيّة فِلّيني..وتحطيم المحظورات

ثلاثيّة فِلّيني..وتحطيم المحظورات
9 نوفمبر 2016 19:34
سارّة القائم ترجمة أحمد حميدة يظلّ لافتاً شريط «ستيريكون» لفدريكو فلّيني، رغم مرور سنين على إنتاجه، فهو عمل إبداعيّ فارق في قائمة أفلام هذا المخرج الإيطاليّ الرّمز، بل في تاريخ السّينما العالميّة. وجاء هذا الشّريط العجيب ليتناول، بالتّمحيص، مواضيع كان فيلّيني قد تناولها أيضاً في شريطي «كازانوفا»، وفي «وتمضي السّفينة (إي لا نافي فا)، التي استهلّت فترة جديدة في مسيرته السّينمائيّة، بعد إنتاجه أفلاماً كانت مختلفة من النّاحية الأسلوبيّة.. مثل«لاسترادا» (الطّريق)، و«لادولتشي فيتا» (الحياة الحلوة). وسيكون فلّيني في هذه الأفلام، سينمائيّ الإفراط في تناوله علامات التفسّخ الحضاري في بلدان الغرب. اقتُبس من رواية منسوبة إلى «بيتروني»، وكان شريط «ستيريكون» مربكاً، بل صادماً، متخلّصاً من إرث الواقعيّة الجديدة، وأعلن هذا الشّريط وجهة جديدة تماماً في أعمال فيلّيني. ففي روما القديمة، وزمن حكم نيرون، يجد المشاهد نفسه مدعوّاً إلى مرافقة طالبين شابّين وسيمين، أنكولبْ وأسيلتْ، في تجوالهما، وهما يتعقّبان المتع المنخطفة العابرة، ولسان حالهما يلخّصه الشّاعر، حين يقول: «كل لحظة عابرة يمكن أن تكون هي الأخيرة، فلتعمل على ملئها حدّ التقيّؤ». هنا.. لا يهمّ التّحديد الصّارم لتفاصيل السّيناريو، بقدر ما تهمّ الرّموز التي ينطوي عليها الدّيكور، والأحداث والاقتباسات من الأعمال الأدبيّة، لأنّ هذا العمل، وبمنأى عن كلّ تأويل، انبثق من خيال مفرط، ومن توهّم هائل، حوّله فيلّيني إلى صور ومشاهد مبهرة. وكتاب بتروني، الذي استلهمه فلّيني، يمكن اعتباره أوّل رواية عن المتشرّدين في أوروبا، ولم يصلنا في الحقيقة إلاّ على شكل مقاطع، وأوضح فلّيني أنّ هذا الكتاب، الذي كان قرأه أيّام الشّباب، هو الذي أنعش فيه جذوة الإلهام من جديد، وأنّ النّقائص التي انطوى عليها، هي التي قادته تحديداً إلى مثل ذلك الفيض من المشاهد والصّور. ولئن كانت القصّة تتعقّب آثار شخصيّتين، هما أنكولبْ وأسيلتْ، فإنّ أغلب المشاهد كانت بحاجة إلى حشد عظيم من النّاس، ومشاهد صاخبة، ملتئمة في مناسبات مثل الولائم والاحتفالات الصاخبة، وإلى العروض المسرحيّة، والمشاهد الفاضحة.. فأكسب كلّ ذلك هذا الشّريط.. ثراء مدهشاً، واستثنائياً. فهو يعدّد وينوّع من الإشارات والرّموز، ومن الاقتباسات، لشعراء قدامى لاتينيّين وإغريق، حيث يزجّ بنا فيلّيني في عالم بالغ الغرابة، ولا يمكن أن يدعنا غير مبالين. وإعادة تركيب الظّروف التي حفّت بانحطاط روما وانحلالها، تَستبعدُ التّأويل التّاريخيّ المحض في هذا الشّريط، وبالتّالي ينبغي لهواة الإنتاجات التاريخيّة الضّخمة (بيبلوم) أن يمضوا في حال سبيلهم، حتّى وإن كان ثمّة قاسم مشترك لستيريكون مع شريط «بَنهُورْ»، من حيث الاستخدام المكثّف لاستوديوهات مدينة سينيتشيتا السّينمائيّة. بصدد ستيريكون كان فلّيني قد صرّح: «إنّ روما الانحطاط، لأبعد منّي بُعدي أنا عن القمر». وقد يجعلنا هذا ندرك كيف تمّ تحديد المكان والزّمان في هذا الطّوفان من الانحلال وأشكال أخرى من الشّطط والغلوّ. فلكأنّ الشّريط قد تشكّل من طبقات عديدة، ومن تأويل متباينة المستويات، تجعلنا بلاغة الخطاب ندرك أنّ فيلم ستيريكون، من حيث أبعاده الإنسانيّة والكونيّة، هو من تلك الأعمال العارمة.. الموهوبة للبقاء. ففيه تتحوّل روما القديمة إلى رحم تنطوي أحشاؤه على كلّ ما يومئ إلى انحدار مجتمع غدا راسفاً في الإفراط، مجتمع بات ينخره الحرص والشّره والتلهّف، تلهّف جامح إلى المتع الغرائزية، حتى التّخمة، وإلى المال.. وكم يبدو ذلك المجتمع شبيهاً بمجتمعاتنا الرّاهنة. أمّا أنكولب واسيلت، المستلهمان للفلسفة الأبيقوريّة هنا، فإنّهما يمثّلان الأوديسة الأبديّة للكائن البشري، في بحثه التّائه.. المضني عن السرّ الملغّز للحياة. مشهد من «ساتيريكون»: وكعمل إبداعيّ عجيب بكلّ المقاييس، يطالعنا هذا الشّريط بعلامات بالغة الشّطط: مشاهد الجزء الأوّل المنغرسة في أروقة مظلمة، مترعة بألوان خالصة، تنحت الفضاء على شكل لوحات يتداخل فيها الضّوء والعتمة، تشي جميعها بتهيّج كوميديا إنسانيّة، تديرها شخصيّات غريبة ساخرة، تكشف عن فخامة بيت أرستقراطيين مترفين منبوذين، منحهما الرّفيقان أنكولب وأسيلت لليلةٍ.. السّلطة والنّفوذ... في أجواء يشي كلّ شيء فيها بالتّرف والوفرة. وللموسيقى التّصويريّة هنا.. دور جوهريّ، كما في شريط كازانوفا، فهي ليست مجرّد وسيلة لإكساء الأحداث، وإنّما تنخرط بشكل لصيق في أجواء الانحطاط تلك: الأنين، القهقهة المستهترة، أصوات تذكّر بحفيف حشد من الحشرات، وأخرى تنمّ عن شدّة الموقف.. العدم ممسرحاً: لقد أمضى نِينُو روتّا الموسيقى التّصويريّة للشّريطين (كازانوفا وستيريكون)، وهو الذي كان مرافقاً لفيلّيني منذ شريطه الطّويل الأوّل، «الشّيخ الأبيض»، حين أخرجه عام 1952، واللحن الشّهير على المِعزف الوتريّ، الذي يتصدّر شريط كازانوفا، لا شكّ أنّه قد ظلّ عالقاً بأذهان كلّ أولئك الذين شاهدوا هذا العمل. وقد تشكّلت الموسيقى التّصويريّة هنا من نفس العناصر التي ساهمت في كتابة موسيقا ستيريكون. وبخصوص شريط كازانوفا، يقول فلّيني إنّه درّة أعماله السّينمائيّة، وأنّه أكثر تلك الأعمال «اكتمالاً وجسارة». وهذا العمل الذي أنجز بعد سبع سنوات إخراج فيلّيني لستيريكون، له نقاط مشتركة كثيرة مع العمل المستوحى من كتاب بيتروني. مشهد من «كازانوفا» يتعلّق الأمر أيضاً بحالة الإفراط، وبحياة راسفة في المتع الحسيّة، ففي كازانوفا ترنو إلى استبعاد شبح الموت، الموت الكليّ الحضور، كما تصرّح بذلك المرأة الماردة لكازانوفا، هذه الشّخصيّة الطّافحة بالفرح والمسرّات، في بيئة تضجّ بالفوضى والاهتياج، ويعمرها الأقزام وذوو الظّهور المحدّبة، والنّجوم السّاقطة.. التي تتردّد على المشهد. وتسأل المرأة الماردة كازانوفا: «إلى أين ستأخذك أسفارك عبر جسد الأنثى؟»، فيجيب «إنّي لأحسبه اللامكان..». وبعد ذلك تأتي شخصيّة إيزابيل التي التقاها كازانوفا في البيت الفاخر لخيميائيّ سويسري، وأفحمته بسؤال لا مهرب منه: «هل ليس بإمكانك التحدّث عن الحبّ، إلاّ بصور كئيبة جنائزيّة؟ لعلّك تنشد الموت أكثر ممّا ترغب في الحبّ..». وبخصوص هذا الشّريط يذكّرنا النّاقد جيلبار سالشاس أنّ فلّيني «أراد التّشهير بالرّياء والتصنّع في أسطورة كازانوفا. فكازانوفا، هذا الطّفيليّ الأبديّ، أسير لذّته، لم تعد حكايته لتهمّ أيّاً كان، ما عدا رواق العرض، لكنّه كظافر بالموتة الصّغرى، يصبح رمزاً للموت». محطّماً الرّقم القياسيّ في الظّفر بالحالات الغرائزية، يواجه كازانوفا أحد الخدم في مبارزة، أمام حاشية متهيّجة تعشق المراهنة، في مشهد رمزي مدفوع إلى حدوده القصوى، ويجسّد طبيعة كازانوفا التوّاقة إلى مهاوي العدم. ومن المصادر الأدبيّة التي استلهم منها فلّيني روح شريطه، «قصّة حياتي» لجياكومو كازانوفا، ذلك المتهتّك البندقي المثقّف، الذي كان يجوب أوروبا في القرن الثّامن عشر. وقد جعل فلّيني من تلك الشّخصيّة صَدَفَة خاوية، دمية أبديّة، أسيرة نزواتها، تبحث عبثاً عن سبل تقودها إلى السرّ الكامن في الرّوح. وقد سأل ذات ليلة، وهو يحدّق في هنريات التي كانت أعزّ معشوقاته: «ما هي القبلة؟»، فأجابت: «إنّها رغبة الضّياع في روح المحبوب».. الضّياع والفناء في المحبوب، وأن نكون على حافّة الإغماء المتكرّرة.. ذلك موضوع تشترك فيه شخصيّات الشّريطين، شخصيّات تائقة إلى مغالبة القلق الذي تأتي به الحياة، عساها تدرك حالة الائتلاف والانسجام مع الذّات. فعل الكلمات: فلّيني بلا شكّ هو سينمائي الإفراط، وأفلامه تتميّز بجماليّة فريدة، حركات رشيقة للكاميرا، تفتح على حشد من الرّموز والألوان والأحلام والتّأويلات، لكنّه أيضاً سينمائي الكلمات، وليس من قبيل الصّدفة أن يكون قد اقتبس الكثير من الأعمال الأدبيّة. ويقول عنه مدير تصويره جيوزيبّي روتّيني إنّه «آلة إبداع عملاقة». ومن خلال أفلام مثل ستيريكون وكازانوفا، يكون فلّيني قد حطّم المحظورات الأخلاقيّة والجماليّة، ليستفزّ المتعة البصريّة، ذلك العجيب المتّقد حماسة، الذي نعثر عليه أيضاً في شريط«فيلّيني- روما»: نلمس ذلك مثلاً في عرض للأزياء لأحبار كاثوليكيين، حيث تضفي الأقمشة الباذخة لهؤلاء الأحبار أجواء صارمة لها مذاق الموت، كما نلمس ذلك في وجه العروس المزعومة لتلك المداهنة، الذي يتبدّى وكأنّه جمجمة ميّت، وأيضاً في المشاهد الملوّنة للطّرقات في المدينة الخالدة، حيث تتشابك المشاهد الشّعبيّة، جامعة بين مجموعات من الهيبي وحسناوات أمريكيّات، مغنّين بالشّوارع، أعوان شرطة ومثقّفين. وتكاد الرّسالة تكون سياسيّة، إذ بالنّسبة إلى فلّيني، ثمّة لا محالة رسالة سياسيّة، طالما أنّه يستعرض في أفلامه أخطاء البشر. ويغدو هذا الأسلوب المنفلت والمنمّق، الذي ينبغي أن ينظر إليه على أنّه الأداة الأولى لثراء أفلام فلّيني، وسيلة لتبئير الفنّان وهو يباشر عمله الإبداعيّ. ففي شريط مثل «لا ستردا» (1954) يُمشهدُ العالم الفنيّ في لمح البصر: عالم البوهيميّين والسّيرك والتّيه واللّقاء المتجدّد بالجمهور، لكنّ الحكاية تظلّ هي هيكل الشّريط برمّته. وقد أوضح روبيرتو روسّليني، الذي كان معلّم فلّيني، أنّه كان قد تحرّر من ذلك الهاجس لينتج أعمالاً، قد يراها أقرب إلى نفسه. إنّ الرّسائل الرّمزيّة المستقطرة في كلّ أعماله، كما اقتباساته لأعمال مثقّفين، من شعراء وكتّاب، والحوارات. هي في النّهاية صوت فلّيني ذاته. ويبدو ذلك واضحاً في «فلّيني- روما»، حيث يتدخّل فلّيني كصوت معلَّق، بل يذهب إلى حدّ أنّه يغدو طرفاً في الحوار، لينخرط داخل العمل، مع أولئك الذين تجسّمهم الصّورة. وفيما يتعقّب بكاميراته آنّا مانياني، معدّداً متناقضاتها، ومقرّاً بأنّها يمكن أن تكون رمزاً للمدينة، تستدير الممثّلة عند عتبة الباب، لتقول له باسمة: فدريكو.. اذهب واخلد إلى النّوم.. وأن يتحدّث المبدع على لسان شخصيّاته، فذلك أمر معتاد لدى كلّ فنّان. هكذا.. فعندما قدم الكاتب الأميركي غور فيدال إلى إيطاليا ليستقرّ فيها، وجد نفسه طرفاً في محاورة أثناء نزهة بالشّوارع، كان الجميع يدرك أنّه سيتحدّث بصوت فلّيني. وأوضح فيدال حينها أنّ «روما هي مدينة التوهّم والغرور، وأنّه ليس من قبيل الصّدفة أن نجد فيها نظام الحكم والكنيسة والسّينما، وجميعها يحفز إلى الوهم». سفينة الأوهام: «وتمضي السّفينة» (إي لا نافي فا). كانت الحلقة الأخيرة في ثلاثيّة فلّيني.. سفينة تبحر، وعلى متنها آليات ضخمة تشي بعالم زاخر بالأوهام. هي عبارة عن آليّات متناهية الضّخامة، من حيث إنشاؤها، إذ إنّ تركيب هذه الباخرة المتميّزة بحجمها المفرط، تمّ إنجازها بشكل كامل باستوديوهات «سينيتشيتا»، التي يقول عنها فلّيني إنّها «المدينة التي بإمكانها احتواء جميع المدن الأخرى»، وفيها شيّد فيلّيني الكثير من المدن لأفلامه. تجري أحداث هذا الشّريط قبيل اندلاع الحرب العالميّة الأولى، وجاءت حاملة لتصوّر فلّيني لعلامات انحدار العالم الحديث. وقد حشد في هذه الرّحلة البحريّة الغريبة، وعلى متن هذه السّفينة، عالم الأوبيرا، بما ينطوي عليه من شاديات حسودات ومغنّين مزهوّين، ومن قادة مشهورين للأوركسترا، ومن نقّاد.. الذين أبحروا جميعهم لذرّ رماد السّبرانو، التي لا تجارى «إدمي تاتوا»، في إحدى الجزر. على وقع أنغام مشهورة للأوبرا، تمضي السّفينة عبر أمواج البحر، إلى أن يضطرّ قائدها إلى انتشال لاجئين صربيين، شرّدتهم الحرب، وتفرّقت بهم السّبل. هكذا سيتعايش عالمان مختلفان على متن هذه السّفينة: عالم الفنّ مع كلّ ما يمثّله من مظاهر خادعة، ومن فراغ، وعالم الحياة الشاقّة، الذي لا يخلو من بعد فنيّ شعبيّ، قد يقبض فيه المرء على آلته الموسيقيّة، ليستسلم للرّقص على سطح السّفينة. وما يفرّق بين هذين العالمين هوّة وهم الإبداع. «كلّ شيء قد قيل، وكلّ شيء كان»، هذا ما كان الصحفيّ أورلاندو يحدّث به نفسه، وهو الذي أبحر للقيام بتقرير عن تلك المغامرة الغريبة. وكما في «ستيريكون» و«كازانوفا»، تبدو العلاقات الإنسانيّة متّسمة بتوحّش ناعم، بالكثير من الخسّة والتّفاهة، مجرّد أشياء.. هم البعض.. بالنّسبة إلى البعض الآخر، ولا تصل بين هؤلاء وأولئك أيّ علاقات صادقة. وبين المغنّين تنطلق مبارزات فريدة، الغلبة فيها.. هي لأولئك الذين يبلغون بأصواتهم الدّرجة الباسقة، أو كما في كازانوفا، يكون المتفوّق فيها هو ذلك الذي يوفّق في إرضاء قرينته. لأنّ ما يجسّد على الخشبة من جديد هنا، هو فراغ عصر بأكمله، الذي سوف يكون فيه «كلّ شيء قد قيل، وكلّ شيء كان»، هذا العصر الذي غدا مع الحرب منذوراً بانهيار مؤكّد. ومرّة أخرى، وبشريط «السّفينة تبحر» الذي أخرج سنة 1983، يقدّم إلينا فلّيني رسالة عن الإبداع الفنّي. ففي مقال يجمل عنوان «آليّات فلّيني»، في أكتوبر 2004، حيث تتناول سيلفي سيبرا، وبالبحث، المبدأ الذي ينظم الشّريط، فتقول: «يستهلّ الشّريط بدروب للصّمت»، مشيرة بذلك إلى المشاهد الأولي من الشريط، وكانت صامتة. وأولئك الذين كانوا بأسفل السّفينة، الميكانيكيّون القائمون على تشغيل المراجل، هم الذين كانوا يجعلون السّفينة تتقدّم (طاقم الإخراج)، وبالتّالي فإنّ أولئك الذين كانوا يعيشون في أحشاء ذلك الوحش، هم الذين كانوا يجسّدون العالم الفلّينيّ. وضربة البداية تلك التي تتمّ بأسفل السّفينة، تشكّل في الحقيقة قمّة الإبداع التي يشعّ منها هذا العمل ويتأسّس. لذلك.. بمجرّد أن ينتهي الشّريط، سوف يتعذّر علينا معرفة مكمن النّفَسَ الابتدائيّ.. المتخفّي، تلك النّشكوْنيّة، ذات الفضاء المقدّس والمدنّس في آن، والتي تثبّت المكان في سُرّةٍ أو مدار: فدريكو فلّيني. «وتمضي السّفينة»: في الأفلام الثّلاثة يمنحنا ذلك المدار نفس الرّسالة: إنّ الإبداع الفنّي يمنحنا وسيلة، قد تكون مؤقّتة، للإفلات من الموت. وتظلّ الصّور هشّة، لكن عبر الإبداع الفنّي قد نلامس جلال الخلق. ويختزل «أومولب» أحد شخصيّات ستيريكون، في هذا الموقف: «يموت الشّعراء، ولا أهميّة لذلك، طالما أنّ قدر الشّعر أن يمكث». رسالة لا تجديد فيها، لكنّ فلّيني عالجها كما لم يعالجها أحد، إذ وفّق في بناء عالمه من العدم، لينجز عملاً سينمائيّا فريداً، فيما وراء الأخلاق والقواعد الجماليّة الشّائعة. فيلّيني والموسيقى لقد أمضى نِينُو روتّا على الموسيقى التّصويريّة للشّريطين(كازنوفا وستيريكون)، وهو الذي كان مرافقاً لفيلّيني منذ شريطه الطّويل الأوّل، «الشّيخ الأبيض»، حين أخرجه العام 1952، واللّحن الشّهير على المِعزف الوتريّ، الذي يتصدّر شريط كازنوفا، لا شكّ أنّه قد ظلّ عالقاً في أذهان كلّ أولئك الذين شاهدوا هذا العمل. وقد تشكّلت الموسيقى التّصويريّة هنا من نفس العناصر التي ساهمت في كتابة موسيقى ستيريكون. وبخصوص شريط كازونافا، يقول فلّيني إنّه درّة أعماله السّينمائيّة، وأنّه أكثر تلك الأعمال «اكتمالاً وجسارة». وهذا العمل الذي أنجز بعد سبع سنوات من إخراج فيلّيني لستيريكون، له نقاط مشتركة كثيرة مع العمل المستوحى من كتاب بيتروني.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©