الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الكتابة التي تمشي...

الكتابة التي تمشي...
10 يونيو 2015 21:40
من المنصف ابتداء الإشارة إلى أن المساحة النقدية مدعوة للإقرار بمحدودية قدرتها على استيعاب قامة الخطيبي ومنجزه المختلف هذا الاختلاف العميق الذي دفع الخطيبي ثمنه نكراناً وتجاهلاً في رحيله الصامت الذي شكل إدانة كبيرة لثقافة النكوص. يكتب المفكر الخطيبي ونتذكر معه كلام الشاعر الفلسطيني الراحل مصطفى مراد الذي قال: «أن تكون إنساناً.. يعني أن تولد كل يوم.. لأنهم سيقتلونك كل يوم». فقد صار حلما أن تحمي حدود إنسانيتك وتحصن المواطن فيك من مس السياسة الملتبسة ومن قصف اليومي الذي يحرمك بطريقة مبتكرة من أن تكون علاقتك سوية بالحياة، صار حلما أن تصاحب الضوء دون أن تخشى خيانة في الدرب، أو شهوة غدر في مفترق أسئلة. حفريّات يؤسس الخطيبي حفرياته في اتجاهات مختلفة لكنها محكومة بنسقية ناظمة تكسب منجزه أهمية بالغة وقد اخترت أن أجعلها خمسة أصابع تشكل حركة يد راحتها السوسيولوجيا وأصابعها ترفد من السيميولوجيا والأنتربولوجيا جوهر اشتغالها. ينهض نقد الخطيبي على عملية ذكية تهدف إلى بناء المعنى الذي استنزفته إرادات القوة التي حكمت تداوله مبتغيا من ذلك عمليتين متجاورتين: عملية إفراغ عبر سيرورة هدم وعملية إعادة بناء من خلال قراءة مختلفة للمرجعيات. ذلك أن جزءا كبيرا من أزمة الخطاب كامنة في استعمال كثير من المعاني ببراءة منقطعة النظير متجاهلة بقصدية ماكرة روائح المرجعيات وطعوم التنسيب. وكمثال على هذه القراءة الذكية للعلامة نقدم كلمة شعب حيث تتجاور في القراءة مسافتان، مسافة شعور اللغة ومسافة لا شعورها حيث يمارس الخطيبي تمرينا لسانيا، وهو ينتبه ابتداء لكون دلالة كلمة شعب تحيل على المتفرق والمقسم، الشعب تفريق تراتبية اختلاف عوض وحدة وكلية. هذه القراءة التي تفطن لمكر اللغة وللخفي منها والمعلن هي التي مكنت الخطيبي من بناء حفريات دلالية وازنة فهو يستخلص من ذلك أن الشعب هو تاريخ قمع وعدم إمكانية اختزال، قمع عبر ثقافة عربية كلاسيكية أرستقراطية أنزلت الشعب في حقل السحر والخرافة والوثنية المتنكرة وعدم إمكانية الاختزال لفائدة خطاب لاهوتي. غير أن ما يميز الشعب المغربي حسب الخطيبي هو قدرة ثقافته (الشعبية) على تغذية الدلالات المنذورة للنسيان بتهريبها عبر سفينة الجسد من خلال الكتابة (الوشم) وهو ما سنشرحه لاحقا. وقبل ذلك يهمنا أن نعرض لمسارين مترابطين مسار نقده المزدوج ومسار قراءة الهوية. يروم النقد المزدوج في مداه الاستراتيجي تفكيك كل تيولوجيا الأصل وهو مزدوج من حيث صدوره عن لغتين وأرضيتين تاريخيتين وأفقين ميتافيزيقيين مختلفين وبينهما يبحث الخطيبي عن إمكانية تجديد هواء الأسئلة المطلوبة من خلال التشكيك في أصالة النحن وفي مدى وضوح الآخر. الهوية والاختلاف سؤال الهوية والاختلاف الذي امتد من جيل ما قبل سقراط، ذلك الجيل الذي كان محط إعجاب الخطيبي وحتى مارتن هايدغر وجماعة التفكيكيين الشباب ومروراً بالميتافيزيقا الغربية كان دائما محط سؤال وموضع حيرة. يسترفد الخطيبي من فرانز فانون نداءه الشهير: «أيها الرفاق لقد ولى عهد اللعبة الأوربية فلنبحث عن بديل ليطرح سؤال الاختلاف المتوحش»، ذلك أنه «إذا لم يعد الغرب مجرد ذلك الوهم المتولد عن فزعنا فيتبقى علينا أن نعيد النظر في كل شيء مهما كلفنا ذلك»، ليعتبر ذلك الانفصال الزائف الذي يرمي بالآخر في خارج المطلق اختلافا متوحشا، اختلافاً يضيع في متاهات الهويات الحمقاء تلك الهويات التي سيسميها أمين معلوف الهويات القاتلة، يطرح الخطيبي إذن سؤال الهوية في سياق هدم غايته تغيير زوايا النظر، ذلك أن الأحادية الواثقة من نفسها هي التي أضاعت مفتاح إمكانية الوجود، الوجود الذي لا يحتاج للتحيز لكي يكون. تحت السماء الروحية المسماة ميتافيزيقا كبر التراث وشكلت صورته أزمة للهوية استضماراً لذلك يصح أن نعتبر الخطيبي أحد مؤسسي صورة الهوية التي تمشي، الهوية التي لا تتوقف وفي حركتها تنبجس الأسئلة التي تحتاجها الذات كي لا تتعفن ولن يتحقق ذلك إلا في المسافة بين نحن ملغومة بوهمها وغير مشكوك فيها وبين آخر تشكل في وعينا بصورة مفصولة عنا حتى صار الشرق غربا صعب المعالجة. يقول مطاع صفدي في حديثه عن الانبناء للمجهول والانبناء للمغيوب: «دعوة الزوال كانت أيديولوجيا السياسة والثقافة والسلوك، فكان نداء الرحيل عن العالم عقلا ووعيا وسلوكا، يسبق رحيل الجسد». تحت السماء الروحية المسماة ميتافيزيقا كان التراث يتنفس وكانت صورته تمارس عنفا على الهوية فكان المطلوب عند الخطيبي هو الدعوة إلى تشييع جنازة الميتافيزيقا كما عبر عن ذلك في كتابه نحو فكر مغاير لقد اختلطت علينا الأمور بفعل التباس هذه العلاقة مع التراث فنحن «تراثيون لأننا نسينا التراث، ونحن أصحاب مذاهب وعقائد لأننا نسينا التفكير في الوجود، ونحن عشاق التقنية لأننا مستعبدون» هكذا نصل إلى ما عبر عنه مطاع صفدي كما يلي: «التدين يقضي على الدين، كما الاسم يمنع فعل التسمية، كما القانون يعرقل التشريع، فكل هذه الصيغ تتضمن حدا يمنع الحد الآخر». على أن أهم منجز يحسب للخطيبي هو انتصاره الكبير لما يمكن تسميته عقيدة بقاء الرمز كأننا أمام داروينية يتحايل فيها الرمز باستماتة للبقاء. فالمغرب العتيق «هذا الذي لم يعرف الكتابة، مازال حلا في جسد الشعب تتجلى مظاهره على الرغم من الأدب الرسمي وهي مظاهر تتخذ في بعض الأحيان شكلا رائعا يتجلى في الأدب الشعبي وآداب الصوفية وفي الوشم والرسم التشكيلي الذي يستعمله الحرفيون وفي روعة الغناء والرقص، إنها صور تكشف عن نشوة مغرب تميل وثبته المنتشاة نحو المحيط». المفاهيم المتعالية إغراء آخر يرتاده عبدالكبير الخطيبي ضمن أفق المنهج الدلالي الذي ارتسم عبر علامات فارقة لرولان بارت مثلها كتاب ميثولوجيا 1957 وعناصر علم الدلالة مما سيمهد لتفجير العقلانية كأيديولوجيا للطبقة المسيطرة على التقنية، على أن فرادة المنجز الخطيبي يمثلها كتابه/‏‏‏‏العلامة: الاسم العربي الجريح الذي راود ما سماه محمد بنيس في تقديمه للكتاب: المفاهيم المتعالية التي تفصل بين الإنسان وجسمه، الإنسان ومستقبله مستفيدا من تفكيك الأرضية اللاهوتية المغيبة للجسم وهو ما يشبه فهم العمر كنمو للموت بتعبير صاحب استراتيجية التسمية. ما ينبغي الاهتمام به في هذا السياق هو التأكيد على أن قراءة الخطيبي للجسد هي قراءة للغة هذا الجسد ولمكره الرمزي كي يعبر ويتسلل خارج الحدود وكي يهرب مكامنه الدلائلية وحمولاته الرمزية. البحث عن العابر في فضاء الجسم، عن الكتابة والنصوص التي تراوغ في علاقتها بالأصل وتراوغ في صلتها بالسياق، السياق الذي تآكل بفعل قدرة الرمز على المحو لتدعيم سلطته في التعبير، والخطيبي كان ذكيا في قراءة الوشم الذي يدخل ضمن التخصيص والوشم الذي يمكن اعتباره وشماً مستعرضاً، بمعنى أنه حاضر ويخترق عدة أنظمة دلائلية؛ ففي التخصيص مثلاً عند المغاربة يخضع اقتصاد القراءة البصرية لقانون مشابه لقانون الفلاحة، الكتابة كما الحرث. يصبح الوشم لباسا مكتوبا يقول الخطيبي: «الجسد الموشوم هو كتابة تخلخل مفهوم الامتلاك، إنه الكتابة التي تلح على أن تكون، مقروءة، محبوبة، ومشتهاة، ضمن حركتها الأكثر إثارة وغموضا». قراءة هذا الكم من الدلائل الوشمية وتعالقاتها المختلفة مع الثقافة الشعبية ومع الخلفيات الأنتروبولوجية والميتافيزيقية يكشف عن جدارة التقدير الذي كان بارت مدينا به لعبدالكبير الخطيبي. تضيق هذه القاربة في منعرجاتها المختلفة عن استيعاب الجهد الدلائلي العميق الذي نهض به الخطيبي ولا تمثل بحال عمق فرادة اشتغاله على المعنى وعلى ازدواجية رؤيته النقدية وروافده لكن الساحة المعرفية مدينة باعتذار كبير لقامة فكرية كبيرة لم تجد حظها من الضوء في ثقافة نكوصية تمجد العتمة. .................................................................. 1- مطاع صفدي، الانبناء للمجهول، الانبناء للمغيوب مجلة الفكر العربي المعاصر العددان: 164/‏‏‏‏165. 2-CHEMINS DE TRAVERSEessais de sociologie Abdekébir Khatibi. textes réunie et revue par Said nejjar Editions Okad rabat،Novembre2002. 3- عبدالكبير الخطيبي، نحو فكر مغاير، منشورات مجلة الدوحة، مايو 2013. 4- عبدالكبير الخطيبي، الاسم العربي الجريح، المركز الثقافي العربي. كتابات كثيرة تتأثر خط موتها، كتابات ليس بوسعها أن تتجاوز زمنها أو معناها، إنها تلك الكتابات التي لا تملك إلا أن تتسيّد لحظتها الراهنة فحسب، وخلافاً لهذا التصور الذي يرفع نخب الموت تخط كتابات الخطيبي لنفسها مساراً مختلفاً وتجترح منزعا مفارقا، وهي ترصد هذا العارض الذي ظهر على أنقاض الميتافيزيقا، وحمل توصيف الإنسان، رصد يستشف الكيمياء الاجتماعية ويتعقب بذكاء دلالي لافت خطاب الغيرية في أكثر مساراته حدة. الخطيبي يهتم بفلسفة الفرد لمقاربة اللامفكر فيه على مستوى كتاباته، فالمعارف بالنسبة له هي مكونات للكتابة ومصدر للإلهام. يعترف الخطيبي بأن الكتابة تنسى مصادر إلهامها، تمحوها، تخفيها وتذيبها في إيقاع النشوة. ديْنُهُ علينا! الساحة المعرفية مدينة باعتذار كبير لقامة فكرية كبيرة لم تجد حظها من الضوء في ثقافة نكوصية تمجد العتمة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©