الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بلاغة النزيف

بلاغة النزيف
10 يونيو 2015 21:35
يرى بنعبد العالي أن ثلة مائزة من الكتاب والمفكرين لم يسلخوا ما سلخوا من حيواتهم وأعمارهم، ولم يُحبِّروا ما حبَّروا من جُماع أفكارهم وأنظارهم إلا في مقامات العبور، ولم يضطلعوا بهذه المقامات كأحوال عارضة وعابرة، بل دأبوا أن «يقيموا في العبور» وأن يَحلُّوا في برزخ اللغات، وفي الحدود الواصلة الفاصلة بين الأرومات والهويات والثقافات. والخطيبي، في تقديرنا، واحد من بين أفراد ذلك اللفيف الفكري المائز الذي يضم صفوة من الكتاب العابرين بين اللغات والثقافات، ولا نحسبه في هذه المنقبة أقل منزلة من هولدرلين أو بيكت أو سواهما، لسبب بسيط هو أنه خبر بدوره المقام في إقامات العبور وفي خطوط اللَّيْمَس الهاربة، بل نظَّر له ضمن ما نظَّر ودبَّج فيه صفحات شائقات فائقات. يقول عبدالكبير الخطيبي في كتابه «عشق بلسانين»: «إنني كينونة تتوسط بين لسانين»، ويقرُّ أنه لم يشعر أبدا بمنزع يشدُّه إلى لغة مخصوصة أو ينزله في سرادق لغوي بعينه. ولئن كان هايدغر يرى أن اللغة هي مسكن الكائن ومقْدِسُه القدسي، فإن صاحب «الذاكرة الموشومة» كان بخلاف ذلك يرى أنه لا يتنزل في لغة معينة ولا ينتسب إلى أفق ثقافي مخصوص. لقد وجد عبدالكبير الخطيبي نفسه شأنه في ذلك شأن جُماع من الكتاب الذين درجوا بين لسانيين أو أكثر، متراوحاً بين أفقين أنطولوجيين متباينين. ولم يكن يرى في ذلك معْيباً أو معْطباً بل قوة غاذية ترفد عالم الكتابة بمرجعيات رمزية وتخييلية فائقة. إن الكتابة في برزخ الألسن وفي حدودها اللزقة تشكل حسب الخطيبي «لجة فردية وطاقة للنسيان»، نسيان الهويات المغلقة وشرنقاتها، والسلفيات الرمادية وانغلاقها. فكل كاتب فرانكوفوني (أو كتاب بلغة موليير) يعي أكثر من غيره الانشطار الإيجابي والفعال بين جغرافيات بوليفونية شديدة الميوعة والاندلاق. لأن الجغرافية الثقافية الفرانكوفونية هي جغرافية «مزدوجة بل متعددة الألسن، وفي كل منحى من مناحيها نجد آثارا للامتزاج والرطانة Pidgination ولمراتب ومدارج اللغات»، والكاتب العربي الفرانكوفوني يتشظى بين اللسانين العربي والفرنسي ويهيم بهما كلفا وعشقا من غير أن يعقد القران على أحدهما. وحينما يختار الكتابة باللغة الفرنسية لا يلفي فيها لغة أبوية ولا تطالعه بما هي اللغة الأم، لأنها بالنسبة إليه لسان غفل من كل ملمح شخصي. «وهذا الملمح اللاشخصي، يقول عبدالكبير الخطيبي، هو العالم الطوباوي للكاتب». بل إن مشروعية الكتابة في تصوره لا تتحقق ولا تتأسس إلا حين يعانق الكاتب الكتابة بلسان يغدو منفاه وذريعة انسلاخه وانمحائه، ولئن كانت اللغة تعتبر بالجملة أمة nation الكاتب الفرانكوفوني فإن الفرنسية تبدو بالنسبة إليه عابرة لحدود الأمة une trans-nation، لأنها ليست لغة مركزية ولا تعتبر لسان حال دولة بعينها. لقد انتهى كما يقول الخطيبي «وهم وجود مركز، أو إثنية مركزية مولدة للحضارة الفرنسية ومندمجة في مجال ترابي تحت ظل دولة أو إيديولوجية بعينها». إن اللغة الفرنسية تتبدى لمستعمليها من الكتاب غير الفرنسيين ومن الكتاب الذين أنسوا بالازدواجية اللغوية لغة مضيفة أو لغة ضيافة، ليس فيها محاباة ولا مواربة. وفي هذه اللغة المضيفة لا يستكين إلى ميتافيرقا الهوية والحضور والتطابق، بل لا ينفك عن التلبس بأرومات وهويات أخرى هلامية وشديدة الانمحاء. لأن اللغة الفرنسية وهي تستضيف الكتاب الفرانكوفونيين إلى سرادقها العامر لا تخلع عليهم ميسما واحدا ولا تسبغ عليهم هوية مشتركة أو ترتهنهم في أفق أنثربولوجي بعينه. فالهوية صيرورة وموروث حركي من الآثار والعلامات، وليست جوهرا قائما أو ماهية معطاة. يقول عبدالكبير الخطيبي: «إن الهوية لا تتحدد من خلال بنية أبدية بل تنتظمها علاقات غير متوازية بين الزمان والمكان والثقافة». الغريب المحترف يصف عبدالكبير الخطيبي نفسه في كتاب «صيف بستوكهولم» بالغريب المحترف، ويصفه ريو فاتانبي Ryô watanbe «بمفكر اليتم الذي يرفض كل أمل ويشتبه في ثالوث العرق ـ اللغة ـ الأمة». ويلتقي التوصيفان معا في التأكيد على أن صاحب «الحمى البيضاء» vomito Blanco عاش غريبا ومات غريبا، واضطلع بغربته كقدر أنطولوجي تاريخي وكسيرة إستيطيقية. والغربة التي اضطلع بها طبعت فكره واصطبغت بها كتاباته الأدبية والفنية والفلسفية، وكابدها في جرح الاسم وازدواجية اللسان وتشظي الهوية وتعدد المظان وتناسل الذاكرات وتضايف التواريخ المحلية والكونية. خبر الخطيبي الغربة واحترفها، ولم يعانقها خارج حدود الذات وخارج مداراتها الإثنولوجية، بل أنس بها كطقس أنطولوجي يومي في أفق تدشين فكر للاختلاف والمغايرة: أفق مغاير يستوي فيه على حد تعبير ريو فاتانبي «كشخص غريب لا يعنيه أن يظل مغربي الأرومة ولا أن يتشبه بما يتحدر من فرنسا أو ما يمت إليها». فهو يشعر بالغرابة والاغتراب في «لغة قومه وحدود بلده وفي جغرافيته المادية والروحية»، كما يستشعرهما في لغات وثقافات وجغرافيات أخرى. والكتابة العارية، المتشظية والمتحللة من كل أصل ومن كل أرومة ومن كل ذاكرة إثنية، هذه الكتابة المتغربة هي الضمانة الوحيدة ضد التصور الماهوي للهوية وضد المقترب الميتافيزيقي للتراث. الكتابة المتغربة العارية لا تنتسب إلى الهويات المخملية الرضية ولا تتمسح بالتراث كما يتمسح السدنة بقدس الأقداس. ماذا يقول لنا التراث؟ إنه لا يشي بما يرج الكتابة رجّاً أو يسوقها في مساقات التجريب والتقويض والتغريب. إن التراث، بحكم بنيته الأنطو ـ تيولوجية الراسخة، لا يستطيع أن يتخلص من إسار الميتافيزيقا. كما «أن الميتافيزيقا، يقول الخطيبي، هي بنحو من الأنحاء السماء الروحية للتراث». إنها العود الأبدي للموتى الذين يخاطبون الأحياء من مقام شامخ وبعقيرة عالية متفيشة وصلفة، على نحو لا تغدو معه أصوات الأحياء غير رجع حيي خافت وكأنها وقع أجراس في مدينة غارقة. لا يضطلع الكاتب بتجربة الغرابة إلا بوصفها خلخلة لميتافيزيقا الهوية والوحدة والحضور: خلخلة تجهز على السرائر والضمائر قبل أن ترجَّ الأفكار والأنساق والذِّهنيات والبِنيات والقيم. يقول عبدالكبير الخطيبي: «الغرابة هي أولاً ملمح يتمثل في تخارج ما هو جواني» وتشظي ما هو جواهراني. إنها ما يجعلنا نباشر «تجربة المستحيل» بما هي تجربة حدودية قُصوى، تجربة ما لا ينقال وما لا تطاله الإرادات. إن الكتابة تقتلع صاحبها من تضخمه النرجسي، ومن تطابقه ووحدته، وتُحرِّره من التاريخ والجغرافية ومن لغته الأم. لذلك ترى الكاتب ينوس بين سجلات لغوية مختلفة» ويتخلق داخل لغة غريبة عن أصله وينشأ بين ثناياها بوصفه أحد ذريتها أو أعقابها، بل يترحل من لسان إلى لسان داخل نفس اللسان، لأن كل لغة من اللغات الطبيعية هي لغة تعددية بوليفونية تتناسل فيها سجلات لغوية وقواميس تداولية مختلفة، وتتشابك داخل بنيتها المعجمية والدلالية مستويات مختلفة شفوية ومدونة، واقعية ومعيارية، سائدة وبائدة، كما تضطلع بوظائف متباينة مرجعية ميتالغوية، شعرية وفاتية. واللغة بقواميسها وإسناداتها وسجلاتها ومرجعياتها تستولي على الكاتب وتزيحه عن مركزيته الانثربولوجية، كما تزيح قارءه عن مسبقاته. إن اللغة، يقول الخطيبي، هي الأفق الجوهري للكاتب. وعن طريقها ينفذ إلى معرفة العالم والإنسان، لكن اللغة وهي ترسم المدارات وتحدد الخطوط العامة التي يهتدي بها الكاتب تشرعه، في الوقت نفسه على التيه والغرابة والتشظي والانشطار. ولأن اللغة لا تكف عن الخروج عن تطابقها ونسيان وحدتها أو صفائها المفترض، فإن الهوية تغدو هوية دينامية تستدمج ما هو مغاير وتتقوم به، وتنفتح على الغريب «وستغرقه وتتملكه» على حد تعبير الشاعر والأديب الألماني الكبير غوته. إن اللغة التي تستحق فعلا أن تكون لغة الكتابة والأدب هي لغة غريبة عن ذاتها وعن قومها، لغة تسكنها لغات أخرى ويشكل التعدد اللغوي مقومها الجوهري»، وليس محض مرض يصيبها أو عرض يلحقها». إنها تستضيف في معجمها وفي عالمها الدلالي المختلف والمغاير والحوشي والغريب، وتتجابه داخلها لغات ولهجات مختلفة ويتضارب في تضاعيفها الأصلي والدخيل والمعياري والمولد، لأنها، يقول الأستاذ بنعبد العالي، «عُشُّ الاختلاف بلا منازع وهي تعيش حروبا (لغوية) لا تنفك ولا تنقضي». كتاب الدم لم يلتفت كثير من العارفين بمتن الخطيبي الأدبي إلى أحد أجمل نصوصه وأكثرها وهجا ورواء، أقصد «كتاب الدم». فهذا نص إبداعي جسور يدشن لكتابة مغايرة تشرع القارئ على أسئلة لافحة تتصل بالموت والحياة والغياب والحضور والهوية والاختلاف. ولعل أخص خصيصة تطبع «كتاب الدم» وتميزه عن سواه من كتابات الخطيبي هي أنه نص يراهن بكثير من الألق على الممتنع والأورفي والمفارق، ويؤسس ترتيبا على ذلك لكتابة رائدة ينعتها مارك غونتار بكتابة الغلو أو بالكتابة المفرطة Hyperécriture أو ما يمكن أن نجوز لأنفسنا أن نسميه من جهتنا ببلاغة النزيف. ونتكئ في هذه الدعوى على عبارة لماحة من جماع فرائد الخطيبي التي لا يسع القارئ إلا أن يتمتم بها بملء فيه وأن يرددها عاليا بضرب من الرنح وبنحو من الشطح غريب، تقول هذه العبارة الواردة في «كتاب الدم»: «أنا أنزف وأغرق في أغوار ذاتي وأطمر نفسي على مهل: فأنا أكتب». وهذا النزيف اللجي الذي يحايث فعل الكتابة ويشكل ملمحها الفارق ووازعها الماهوي يكاد يطالع القارئ في أغلب عناوين نصوص الخطيبي الشهيرة: ألا يطالعنا في «الذاكرة الموشومة»؟ أليس الوشم هو وخز الجسم وتغريزه بالإبر، ورش لجروحه بمادة النيلج كي تستحيل أشكالا وتخطيطات ورسوما تسبغ على هيولى الجسد كيمياء عضوية جديدة؟ ثم ألا يطالعنا نثار النزيف في كتاب «جرح الإسم الخاص» أو في ما عرف في الترجمة العربية» بالاسم العربي الجريح»، وفي «كتاب الدم» وفي نصوص وكتابات غيرها يمثل التمزق عنوانها المائز ومقومها البنيوي. فالجسد المتشظي، المنثلم والنازف على الحدود القصية والمتحلل من وحدته وتطابقه وتجوهره يعد تيمة أثيرة تسكن متن الخطيبي بتنوع مآخذه النظرية والسردية والشعرية. الكتابة نزيف والكتاب نثار الدم وبقعه الممتدة التي لا تخضب الصحائف فحسب، بل تستغرق الكاتب في لجة جارفةلا تبقي ولا تذر. يؤكد الخطيبي في سياقات مختلفة على مصادرة أساسية مؤداها أن الكتابة تتخرم الكاتب وتستنزف قواه وتجعل الدم الخصيب «يسقط كما يقول الخطيبي نقطة نقطة على كل كلمة من كلمات وتجعله يمزق أوصاله ويقطع أوردته». وما دامت الكتابة، بهذا المعنى، لا تباشر بالحبر بل تتفتق ثلوما وكلوما، وتجري دما وتسوق الكاتب إلى ذروة النزيف، فهي ترتيبا على ذلك تجربة قصوى على شفير الموت وعلى حدوده الماحقة. بل قل إنها احتفاء أورفي بالموت. ليس لأنها كتابة تشتغل من مقام تراجيدي على موضوعة الموت بإشكالاته الأنطولوجية وأبعاده القيامية والإسكاتولوجية، بل إن ظلال الموت ترين عليها وتنتظم سيروراتها الخلاقة، فتصيرها كتابة يتيمة، جريحة الإسم بلا أب ولا منظومة إسناد، ولا تحيل إلى مرجع في العالم كما لا تستوطن أية لغة بعينها، إن هذه الكتابة اليتيمة لا تعترف بالأرومات والأبوات ولا تعنى بالهويات والجنيالوجيات، إنها ترفض الإقرار بأبوة الكاتب وسيادته على نصه أو بملكيته لحقيقته. كما ترفض التأكيد على العالم كمعيار مرجعي لإثبات تلك الحقيقة أو على اللغة كوساطة تواصلية لمحاكاة العالم وتمثل معطياته. إنها تشرع الكاتب على الغربة وعلى «متاه مستديم» يعانق فيه الموت في جدله السالب الحياة في توثبها الحيوي واندلاقها وغناها. يقول الخطيبي: «أنت، أيها الشاعر المأخوذ بحالة الشطح لا تبحث عن وطنك في مقام آخر غير مقام الموتى، والموت الذي أتحدث عنه هنا هو موت أورفي، يقع في ذروة حياتك المسحورة». الشاعر اليتيم هو كائن أورفي لا يحيا إلا في «المواجهة مع الموت» في مفازات الكتابة. إنه يمشي، يقول الخطيبي، بين خرائب العالم، حاملا نعشه على كاهله. ولا يبقى منها على ظهر الكتاب غير «توقيع يتيم». «فيا أيها القارئ لا تغلق دفتي الكتاب على عجل فهو يضم بين صحائفه جثمان صاحبه».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©