يرى بنعبد العالي أن ثلة مائزة من الكتاب والمفكرين لم يسلخوا ما سلخوا من حيواتهم وأعمارهم، ولم يُحبِّروا ما حبَّروا من جُماع أفكارهم وأنظارهم إلا في مقامات العبور، ولم يضطلعوا بهذه المقامات كأحوال عارضة وعابرة، بل دأبوا أن «يقيموا في العبور» وأن يَحلُّوا في برزخ اللغات، وفي الحدود الواصلة الفاصلة بين الأرومات والهويات والثقافات.
والخطيبي، في تقديرنا، واحد من بين أفراد ذلك اللفيف الفكري المائز الذي يضم صفوة من الكتاب العابرين بين اللغات والثقافات، ولا نحسبه في هذه المنقبة أقل منزلة من هولدرلين أو بيكت أو سواهما، لسبب بسيط هو أنه خبر بدوره المقام في إقامات العبور وفي خطوط اللَّيْمَس الهاربة، بل نظَّر له ضمن ما نظَّر ودبَّج فيه صفحات شائقات فائقات. يقول عبدالكبير الخطيبي في كتابه «عشق بلسانين»: «إنني كينونة تتوسط بين لسانين»، ويقرُّ أنه لم يشعر أبدا بمنزع يشدُّه إلى لغة مخصوصة أو ينزله في سرادق لغوي بعينه. ولئن كان هايدغر يرى أن اللغة هي مسكن الكائن ومقْدِسُه القدسي، فإن صاحب «الذاكرة الموشومة» كان بخلاف ذلك يرى أنه لا يتنزل في لغة معينة ولا ينتسب إلى أفق ثقافي مخصوص.
لقد وجد عبدالكبير الخطيبي نفسه شأنه في ذلك شأن جُماع من الكتاب الذين درجوا بين لسانيين أو أكثر، متراوحاً بين أفقين أنطولوجيين متباينين. ولم يكن يرى في ذلك معْيباً أو معْطباً بل قوة غاذية ترفد عالم الكتابة بمرجعيات رمزية وتخييلية فائقة. إن الكتابة في برزخ الألسن وفي حدودها اللزقة تشكل حسب الخطيبي «لجة فردية وطاقة للنسيان»، نسيان الهويات المغلقة وشرنقاتها، والسلفيات الرمادية وانغلاقها.
![]() |
|
![]() |
وفي هذه اللغة المضيفة لا يستكين إلى ميتافيرقا الهوية والحضور والتطابق، بل لا ينفك عن التلبس بأرومات وهويات أخرى هلامية وشديدة الانمحاء. لأن اللغة الفرنسية وهي تستضيف الكتاب الفرانكوفونيين إلى سرادقها العامر لا تخلع عليهم ميسما واحدا ولا تسبغ عليهم هوية مشتركة أو ترتهنهم في أفق أنثربولوجي بعينه. فالهوية صيرورة وموروث حركي من الآثار والعلامات، وليست جوهرا قائما أو ماهية معطاة. يقول عبدالكبير الخطيبي: «إن الهوية لا تتحدد من خلال بنية أبدية بل تنتظمها علاقات غير متوازية بين الزمان والمكان والثقافة».
![]() |
|
![]() |