الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

النقد المزدوج.. نحو تحرير السوسيولوجيا من الفكر الاستعماري

النقد المزدوج.. نحو تحرير السوسيولوجيا من الفكر الاستعماري
10 يونيو 2015 21:35
يحدد عبد الكبير الخطيبي نفسه مقومات التفكيكية ومصادرها في كتابه المغرب المتعدد، الصادر بالفرنسية سنة 1982 بشكل متزامن بباريس والرباط. ويعني المفكر بالمغرب، المغرب العربي الكبير، لأنه استعمل مدلول Maghreb. ففي هامش بالصفحة 47 يتوقف ليحدد ما المقصود لديه بهذا المفهوم. وكانت الإشكالية التي استدعت اللجوء إلى هذا المفهوم هي تحرير السوسيولوجيا من الفكر الاستعماري. وبما أن مفهوم التحرير كما تستعمله الفرنسية التي كتب بها الكتاب هو Dé-colonisation فإن الخطيبي حاول أن يجد أساساً فلسفياً في الجهاز المفاهيمي ما بعد- حداثي في الفلسفة الفرنسية التي كان ينتمي إليها روحياً. إسهام مفاهيمي إذا كان مفهوم التفكيكية قد استعمل في بداية الأمر عند الفلاسفة، فإن الخطيبي، وهو عالم اجتماع أولا ثم أنثروبولوجي لاحقا، قد استعمله، أو حوره لضرورات منهجية. فالمفهوم في حد ذاته، وإن لم يكن ظهر إلا عند مجموعة من الفلاسفة الفرنسيين كجاك ديريدا، وبشكل عملي منهجي قبل ذلك عند البعض الآخر كميشيل فوكو، فإن إعماله كمنهج عرف قبل ذلك عند الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر. إن الإشارة التي يحدد فيها الخطيبي مصادر استلهامه لهذا المفهوم تقول:«إنني أقتبس هذا المفهوم من جاك ديريدا بالنظر إلى أن فكره هو أيضا حوار مع «مجاوزة ميتافيزيقا»، كفكر نقدي تأكيدي، يبني، خطوة خطوة، فكر اختلاف ما بين الفلسفة والعلم والكتابة، وأن التفكيكية، بما هي تدمير للميتافيزيقا الغربية، وكما يمارسها ديريدا، بطريقته الخاصة جدا، نشأت ورافقت تصفية الاستعمار كحدث تاريخي. سوف نؤكد هنا بعض ملامح الالتقاء التي ليست بالمرة مساراً اعتباطياً. لقاء بين تصفية الاستعمار والتفكيكية. (المغرب المتعدد، ص 47 و48، من النسخة الفرنسية). من هنا يظهر أن الحاجة إلى مفهوم يزعزع بنيان فكر، يتعلق الأمر هنا بالفكر السوسيولوجي الاستعماري، متكامل مقتنع بنفسه ومتمركز حول ذاته وإثنيته، كانت ضرورية. ولم يجد الخطيبي أحسن من التفكيكية لسببين: عقده العزم على مساءلة الفكر الغربي، في جذوره الفلسفية العرقية، الذي نما وتكون بموازاة مع الإمبريالية، وفي أحضانها. مساءلة الفكر الذي كونته المجتمعات العربية عن نفسها في حقب مختلفة من التاريخ. هذا المنحى والذي سماه الخطيبي نقدا مزدوجا هو الذي تطلب اللجوء إلى استراتيجية نقدية سماها النقد الفكري العربي فيما بعد بالتفكيكية، مترجما بذلك المفهوم الفرنسي Dé-construction. ليس من الخطأ أن يترجم المفهوم هكذا، ولكن ليس من السهل أن تؤدي هذه الكلمة كل المعنى. مساءلة الفكر الغربي يرجع أصل التفكيكية إلى الفينومينولوجيا، ممثلة في مارتن هايدغر وطريقته في تعرية أصول المفاهيم وإعادتها إلى أصولها إما الميتافيزيقية أو اللاهوتية أو حتى الاعتباطية المتعجرفة. وللوصول إلى هذا الهدف كان هايدغر يعمد إلى مساءلة الأصول التاريخية، الدينية، اللاهوتية، الميتافيزيقية، الفيلولوجية.. للمفاهيم مرجعاً إياها إلى زمن انبجاسها ورابطاً علاقتها مع الحقول التي سمحت بإنتاجها. بهذه الطريقة كان هايدغر يطمح إلى أن يضع نفسه خارج كل الأنساق الفكرية والفلسفية وخارج السياج الميتافيزيقي الغربي الذي كان الكل يعتبر أنه أقفل بصفة نهائية مع فلسفة هيغل المطلقة. هذا التوجه نحو مساءلة الفكر الغربي برمته وإعادة النظر في منطلقاته، هو الذي سوف ينهجه فلاسفة كثر، ومنهم ميشيل فوكو الذي انكب على نقد الأنساق المؤسساتية الأوروبية: مؤسسات العزل، السجن ومعازل المجانين، مؤسسات الخطاب، مؤسسات الجنس.. هذه المساءلة لم تكن في نظر ديريدا كافية، لأن مساءلة الفكر عن جذوره وشروط تكونه كانت تنقصها مساءلة أخرى تتعلق بعلاقة هذا الفكر مع الأنساق الفكرية غير الغربية. من هنا اتجه معول التهديم من أجل إعادة البناء إلى ميادين متعددة. يجدر بنا هنا أن نؤكد أن المعنى القريب من الصواب لمفهوم التفكيكية هو: «الهدم من أجل إعادة البناء«، وإذا صح فهمه هكذا فإننا لن نكون بعيدين جدا عن كل الاجتهادات الإبستمولوجية، التي أسس لها جاستون باشلار، الذي هو بالمناسبة من أكبر أساتذة هذا الجيل. إذ أنه كان أستاذاً بالسوربون عندما كان كل هؤلاء طلبة. ولقد كان ديريدا في كتابه De la grammatologie، الصادر عن دار مينوي بباريس سنة 1967، قد حدد هذه الميادين: مفهوم الكتابة، تاريخ الميتافيزيقا ومفهوم العلم. واعتبر أن الأرضية التي تأسست عليها هذه الحقول أرضية إثنية، المقصود هنا إثنية أوروبا، ولهذا وجب تفكيك ذاك الخطاب الذي أنتجته حول نفسها. هذا هو التوجه النقدي الذي سوف يتخده الخطيبي والذي سوف يلتقي، كما قال، بشكل لا مجال للاعتباط فيه بمشروع جاك ديريدا. سوف يتوجه إلى ميادين الصراع مع الفكر الاستعماري الذي بقي، رغم رحيل المستعمر، يسيطر على أذهان مثقفي الأمة العربية أو على الأقل بعضهم، معتبراً أن عش هذا الفكر هو العلوم الإنسانية، علم الاجتماع الاستعماري والاستشراق. كما سوف يشمل نقده ميادين ظلت في نظره مكبوتة من طرف الفكر العربي نفسه ألا وهي ازدواجية اللغة، الجنس والفن. اللعب.. القاتل في سنة 1977، أصدر الخطيبي مع مجموعة من المفكرين عددا خاصا من ، الأزمنة الحديثة، عن المغرب العربي. كان نص الخطيبي في الأصل محاضرات ألقاها باللغة العربية أمام طلبة علم الاجتماع بجامعة الرباط في نفس السنة. انطلق السؤال الإشكالي لهذا البحث من مقولة تحريضية لفرانز فانون، أحد أقطاب الثورة الجزائرية، تقول: «هيا يا رفاق، لقد انتهى اللعب الأوروبي إلى غير رجعة، يجب الآن البحث عن شيء آخر». في هذا المفصل بالذات يتدخل الخطيبي ليتساءل عما هو هذا الشيء الجديد وإن كان بالإمكان التخلص من اللعب الأوروبي بهذه السهولة. ألا تسكن أوروبا حميمية وجودنا؟ أمن الممكن أن نجد هذا الجديد انطلاقا من تراثنا؟ يجب لكي نصل إلى هذا أن ننخرط في نقد جذري للتراث الغربي وبنفس الحدة لتراثنا الوطني. من هنا النقد المزدوج: نقد الآخر ونقد الذات. إعادة النظر في الميتافيزيقا الغربية التي مثلت الأرضية الأساسية للفكر الاستعماري ونقد اللاهوت العربي الإسلامي، الذي طمس الاختلافات وأسكت اللغات المتعددة وهيأ بذلك الطريق للاستعمار. هذا الشيء الآخر الذي ينادي به فرانز فانون يبلوره الخطيبي بطريقة أخرى. إنه فكر مختلف واستراتيجية مغايرة. إن على المغرب، ومعه العالم العربي وحتى العالم الثالث، أن لا ينقاد للفكرة التي تقول أن نهاية العالم توجد بين يدي ذلك النظام التقني والعلمي، الذي خطط العالم بإخضاعه لإرادته واقتناعه بنفسه. فالخلاص يوجد على هامش هذا الفكر، على هامش الميتافيزيقا الغربية المؤسسة له وعلى هامش اللاهوت الإسلامي. الفكر المختلف، الذي يدعو الخطيبي إلى تبنيه، يوجد في هذا الهامش، ويجب أن يبقى فيه متيقظاً. الفكر المختلف يعتبر هذا الهامش حظا لا نظير له. نقد الذات من هذا الهامش إذن سوف يراقب الخطيبي المغرب العربي ويتوقف عند تحولاته. لا يحلل عبد الكبير الخطيبي هنا المجتمع من وجهة نظر سوسيولوجية بل يتعرض للأفكار السياسية والأيديولوجية، التي أنتجت بصدد العالمين المغاربي والعربي. سوف يحلل هذه البنيات إذن، واضعا نصب عينيه بعض الأسماء الفكرية العربية، مصرحا ببعضها أحيانا ومضمرا بعضها أحيانا أخرى. سوف يرصد ثلاث مستويات: التقليدانية، السلفية والعقلانية. وهنا عندما يتعرض للتقليدانية والسلفية بالنقد نفهم، وخصوصا من إحالاته، أنه يتوجه لكل الفكر التقليداني والفكر السلفي العربيين، لكن عندما يتحدث عن العقلانية فإنه يقصر نقده على مؤلف عبد الله العروي، (الأيديولوجيا العربية المعاصرة، في نسختها الفرنسية الصادرة بباريس سنة 1967). وبعني بالتقليدانية، الميتافيزيقا مختزلة في اللاهوت، ذلك العلم المستحيل المختص في الله وأصل العالم. أما السلفية، فيعني بها الميتافيزيقا التي تحولت إلى عقيدة، أخلاق لتصرف سياسي وبيداغوجيا اجتماعية تطمح إلى مصالحة العلم مع الدين والتقنية مع اللاهوت. وأما العقلانية (سياسية، ثقافوية، تاريخانية، اجتماعوية...)، فيعني بها الميتافيزيقا، التي تحولت إلى تقنية. تنظيم للعالم بطريقة وفق إرادة للقوة، غير مسبوقة، تستمد قوتها من التطور العلمي. هذه الرؤى الثلاث تجعل من المغربي والعربي على السواء، تقليديا بنسيانه للتقاليد، عقدي بنسيانه لفكر الوجود وداعية للتقنية بالتبعية.(تجدر الإشارة هنا إلى أن عبد الله العروي قام بنفس التحديد: الشيخ، السياسي، داعية التقنية، انظر الأيديولوجية العربية المعاصرة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1999). فالتقليدانية لا يمكنها أن تتجلى وتستمر إلا في عالم مهزوم معرض للوعي الشقي والتمزق الدائم. إن التقليداني يقتات من حقد وكراهية الحياة. إنه ينهك نفسه باستمرار لينقلب إلى الوحشية والجنون. أما السلفية فإنها يدعي أنها مجاوزة للتقليدانية. إنها تريد أن تصلح انحطاط وفساد العالم. لكن السلفية والتقليدانية على السواء لن تستطيعا ذلك. إنهما تائهتان في العالم المعاصر. ليس باستطاعتهما الثورة على أسسهما التيوقراطية ولا القفز للسكن داخل فكر الحوار مع الخارج أي الشر المطلق الذي ينخرهما من الداخل. إن السلفية تدعي قدرتها على إخضاع التقنية الغربية إلى اللاهوت الإسلامي دون أضرار أخلاقية على المستوى الإنساني. إفراغ التقنية من القيم المؤسسة لها. في مقابل كل هذا نجد العقلانية في نسختها التاريخانية، التي تلح على الاستمرارية التاريخية. تتبنى هذه التاريخانية نظرية العصور الطويلة حتى يتأتى لها إدماج الحالة الاستعمارية و«تخلفنا الثقافي». إنها تنتفض ضد التقليدانية والسلفية اللتين تلحان على سجن التاريخ العربي في ماض نوستالجي، هذا شيء محمود، ولكنها بتبنيها الاستمرار والاتصال في فهم التاريخ، تنسى أشياء أساسية: اللا اتصال، التقطعات، الانحرافات، الفوضى، التشتت، اللا توازنات.. وهذه مجتمعة يمكن أن تؤسس جزءاً من تاريخنا. لسنا ملزمين، نحن العرب، باتباع نفس الحقب التاريخية التي مر منها الغرب. يجب الانطلاق مما هو موجود الآن وهنا، موجود كسؤال، كقضية، كتحد للفكر. هذه التفكيكية لم تتوقف عند الأيديولوجيات الكبرى. سوف يتحول عبد الكبير الخطيبي لاحقاً ومعه نقده المزدوج إلى ميادين الفكر والإنتاج الروحي: الفن، الثقافة الشعبية والكتابة. سوف يحلل الثراث الشفهي منه والمكتوب: الخط العربي، الوشم على الأجساد، ألف ليلة وليلة، ازدواجية اللغة.. إلى غير ذلك من الميادين المنسية والمهمشة من طرف اللاهوت الإسلامي والسلطة الذكورية الممركزة. لا يتوقف عبد الكبير الخطيبي إذن عند الطرح المدرسي للمفاهيم وإنما يعملها في ميادين تجلي الجسد والفكر. نقد البُنى الأيديولوجية يحلل الخطيبي بُنيات الأفكار السياسية والأيديولوجية التي أنتجت بصدد العالمين المغاربي والعربي من خلال ثلاثة مستويات: التقليدانية، السلفية والعقلانية. عندما يتعرض للتقليدانية والسلفية بالنقد نفهم، خصوصاً من إحالاته، أنه يتوجه لكل الفكر التقليداني والفكر السلفي العربيين، لكن عندما يتحدث عن العقلانية فإنه يقصر نقده على مؤلف عبد الله العروي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©