الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مكْرُ الأدلّة الشعبية

مكْرُ الأدلّة الشعبية
10 يونيو 2015 21:35
تختلف استراتيجيات تمثل الأدلة وتأويلها في كتاب «الاسم العربي الجريح»، حيث لا يحضر، سواء في المقدمة أو في العرض، تعيينٌ لخلفية القراءة، أو تحديدٌ لغايتها. ويتبدى ذلك واضحا في تفاوت عمق ومجال الأنساق المستدعاة من قبل التحليل. كما يتبدى في تنوع مداخل المقاربة. بيد أن التفاوت والتنوع ليسا نتيجة سيرورة تدلالية تلقائية، بل نتيجة تفكر نسقي يمكر بالأدلة المباشرة ويحولها إلى مؤشرات على سياقات مختلفة، ثم وبشكل سلس يجري توجيه سياق ما، فيصبح من ثم مناط الحديث، ومرتكز التأمل. وهو صنيع مماثل في بعض الجوانب لتحليلات دريدا وكيليطو، وبخاصة في خلق التحليل لمتعة الغرابة المبررة من قبل النسق المتعالي المستحضر من أجل الإقناع، وأيضا في استراتيجية القارئ الضمني المتصور، والذي يتصف بامتلاك معرفة بآليات التأويل وبخلفيات التفكيك. وتتمثل هذه الاستراتيجية في الاستناد إلى المنهج الافتراضي الاستكشافي (Abduction)، والذي هو نوع مخصوص من الاستنتاج المنطقي القائم أساسا على تشييد المعرفة انطلاقا من مماثلات حدسية مدعمة بحدود مؤسسة على تناظرات مقبولة، ومنها ربطه بين معنى الأحجية بحبات المسبحة: «فنص الأحجية، وهو لعبة بين قرابتين أو أكثر، يربط انغلاقه (انغلاق النص) بهدفه الأولي، وبتعسف نهايته، ويناظر فضاء النص الملغز، بصيغة استعارية، مسبحة، حيث كل حبة لا تدفع الحبة الأخرى إلا من أجل أخذ مكانها»، وذلك بناء على اعتبار أخذ الواحدة مكان الأخرى، وربطه الوشم بالإبر بليلة الزفاف بناء على التناظر بين الوخز والافتضاض وعلى صورة الدم والألم المصاحب لهما.. أو ربطه للأشكال الراسخة من قبل الوشم بالعدد خمسة أو علاقة الوشم بلعب الأوراق. ومن البين أنه، من خلال استعماله لهذه التناظرات التي يصعب تمثلها أو الاقتناع بصوابيّتها من دون خلفيات معرفية بالغة العمق، يعامل الأدلة بعيدا عن تحققاتها الواقعية، سواء أكانت مجردة (معنى المثل المعياري كما هو في القاموس أو في التمثل الشعبي العام غير المقيد بحادث معين) أم محيّنة واقعيا (استعمال المثل واقعيا ليدل على توصيف حالة مخصوصة). تأويل المثل الشعبي انطلق الخطيبي في تحليله لمجموعة من الأمثال الشعبية المغربية من علاقتها بالجسم محاولا مفصلة القول بين الجسم الحمدلي والجسم المثلي، بين الجسم المفهومي والجسم الحقيقي. ولعل هذا المنطلق هو الذي جعله يتغاضى عن تمثل المثل في مستوى كونه مؤشرا على معنى مقصود لحظة الاستعمال، أي إنه لم يعامل الأمثال بِعَدِّهَا أدلة وجودية تجسد معنى مجردا عاما وتحيّنه في لحظة تلفظها من أجل تأويل دليل حادثٍ في تلك اللحظة. الشيء الذي يعني عدم مراعاة المثل في مستوى كونه دليلا قانونيا، يتألف بالضرورة من مورد ومضرَب، حيث لا يمكن صياغة دلالته إلا بفضل تمثلِ الموْرِد الأول للمثل، إذا كان بناء ينتجه الذهن المفكر ليختزل من خلاله سيرورة من التًّفكُّرٍ التي تتغيّا إنتاج حقيقة بخصوص حالة أشياء ما أو حالة وعي ما، أو تمثلِ المصدر إذا كان اختزالا، وفق تكثيف مخصوص، لمغزى حادثة أو حكاية؛ وصولا إلى تحوله إلى مثل سائر متعدد الحالات وأزمنة المضارب، وحيث يكون المعنى العام والمجرد المتعالي واشما لمعنى الورودات الفعلية. إن هذا التغاضي هو الذي يجعل تحليله غارقا في التجريدية، وضاربا نحو التفسير الثقافي المؤسس على التأثير الديني في تمثل وظائف وأعضاء الجسد، وليس المبني انطلاقا من تراكم التجربة الثقافية عبر التاريخ، أو انطلاقا من خبرة اجتماعية. ومن الأمثلة على ذلك ربطه لمجموعة من الأمثال التي تستعمل كلاما نابيا أو خادشا للحياء العام بتدمير القدسية. إن الرغبة في إهمال الكلام الاجتماعي جعلته، إذن، يستبدل الدلالة المجردة وأيضا الدلالة الفعلية لكل ورود تواصلي حادث ووجودي، بدلالة مجردة من نوع آخر لا تستمد معناها من المورد أو المضرب، بل من فضاء وسطي متعالي يحاول رصد خلفيات التعالقات بين الرمزي والحقيقي.. ولذلك اكتفى بتوصيف شكل حضور المعنى الاجتماعي للأمثال دون تفكيكها وفق جهات التصور والاستعمال. ويتمثل ذلك بجلاء في قوله: «وما دام المدلول مفترض الفهم من طرف المتحادثين، فإن العادة تمنح في التحادث، عن طريق المثل، نظاما مملوءا، أي زمنا تكراريا، وفضاء مفتوحا، ومعرفة حشوية.» إن الخطيبي بهذا الصنيع يصر على تحويل المثل من دليل عرفي قانوني، ثابت الدلالة في المستوى المجرد ومستوى التحيين الوجودي، إلى دليل مفرد مطور عن أدلة نوعية، أي أنه يحاول أن يؤسس تحليله على تهميش القوة التأشيرية ( بوصفها تعيينا واضحا للقصد) بمقابل توجيه القوة المؤشرية (بوصفها تقبل تعدد المعاني)، الشيء الذي يحيل المثل إلى نص إبداعي. ومن ثمة يتيح تفكيكه بناء على تهديمه إلى ممكناته. وهو الصنيع الذي جعل تحليلاته متعددة وافتراضية. تأويل الوشم لا تختلف استراتيجية تأويل الخطيبي للمثل عن تأويل الدليل (الوشم) كثيرا، فكلتاهما تقومان على الفرض الاستكشافي. إن الوشم الذي يسميه، أيضا، كتابة بالخط لجعله متعارضا مع الكتابة الأصلية الربانية، هو لباس رمزي لا ينكشف إلا بانكشاف عري الجسد الذي وحده ( أي العري) يعلن عن وجود هذا اللباس الثانوي والذي يدثر الكتابة الأصل أي الكتابة الالهية. إن مدار تحليلات الخطيبي للوشم بأشكاله المختلفة تتبأر حول هذا اللباس الثانوي الذي يشبه الستار الهاتك للمستور، والذي يتمثل في شفافية ماحقة. يبدو أن التموقع في هذا المستوى من الإدراك هو الذي جعل تأويلاته حافلة بالأيقونات ( أي الأدلة الخفية التي لا تستنتج إلا انطلاقا من تمثل أنساق دينامية ذات تعالقات ما مع الدليل المُدْرَكِ) والاستعارات العصية على الإدراك العادي. مثل علاقة الوشم بلعبة الأوراق وعلاقة أشكاله باليد والعدد واسم الجلالة والحركات البذيئة والشرج والفرج وغير ذلك. كما يتمظهر ذلك في تحليلاته القليلة لبعض الأمثال مثل ربطه للدليل (يندم) بالسواد، أو ربطه لتعفن الجثة تحت الشاهد الحامل لاسم الجلالة بالمثل «منخرو في الجيفة وهو كيكول أخ». وغير ذلك من أشكال التفكيك الذي يصعب قبوله من جهة العلاقات المنطقية، لأن التحليل مستند إلى القوة الأيقونية وحسب. خلاصة من البين أن تحليلات الخطيبي متوقعة في خانات المؤولات المنتمية إلى مقولتي الممكن والوجود، وأنها لم تلتجئ، في أي وقت من تشكلها، إلى المؤولات التي تنتمي إلى مقولة الضرورة، الشيء الذي يفسر تغاضيه عن الالتجاء إلى السياقات المناسبة لمكونات الدليل (المورد والمضرب بالنسبة للمثل الشعبي، والتصورات الشعبية لعلاقات المناسبات بالوشم وابدالاته مثل الحناء)، والتي تؤشر على سياقات مسجلة في الموسوعة الفعلية، سواء أتعلق الأمر بالسياق التاريخي أو الاجتماعي أو المتعاليات الفنية.. إن كل ذلك يوضح رغبة خفية في المكر بالسياقات الفعلية التي تؤشر عليها الأدلة الشعبية، بمقابل الرغبة في خلق سياقات بديلة متأتية من متعاليات مخالفة. ومع ذلك تتجنب القراءة بذكاء باهر إمكانية عدها ضمن القراءات التي تسعى إلى تهديم الأدلة من مستوى الوجود إلى مستوى الممكن، بهدف إنكار وجود حقيقة ما في مقابل تشييد إمكانات لحقيقة ما مفترضة.. لذلك فلابد لكل قراءة في تأويلات الخطيبي السابقة أن تراعي العمق الشفاف الذي يسم تحليلاته، التي لا يمكن أن تسبر إلا بفضل تعرف خلفياته الفلسفية، وضبطها نظريا، ثم تأكيد محايثتها للتظهير النقدي انطلاقا من تحليل نصوصه. من المؤكد أن المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي، المعروف بتحليلاته العميقة والشائقة ذات النفس الإبداعي، قد أبدع، من خلال مسيرته الفكرية، في مجالات متعددة؛ ومن ثمة يصعب الزعم بكون مقاربة نص من نصوصه هو بالضرورة اقتراب من آليات تفكره، ولذلك، فإن قراءتنا الحالية لا تُعد تجسيداً لتصور عام لكيفية تفكيره في الأدلة بإطلاق، بل هي مجرد تشخيص لشكل تَفَكُّرِهِ في الوشم والمثل الشعبي المغربي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©