الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اليُتْم الحكيم..!

اليُتْم الحكيم..!
10 يونيو 2015 21:35
تكاد وضعيّة عبد الكبير الخطيبي في الثّقافة العربيّة تكون مطابقة تماماً للوضعيّة الثانية، أي وضعية ما لا يقبل التّصنيف. وهي الوضعيّة التي تجعل منه (تماماً مثل بنيامين وكافكا) حالة فكرية وأدبيّة أكثر منه أديباً ومفكّراً. وبالفعل كانت مشكلة الثّقافة العربية مع الخطيبي دوماً مشكلة مَوقَعة: أين علينا أن نصنّف هذا الرّجل الذي يعلن عن نفسه ضدّ كلّ تصنيف؟ لقد جاء الخطيبي في فترة كان فيها الفضاء الثقافي يطالب بتقديم أوراق الانتماء، ولم يكن للخطيبي أوراق ثبوتية ليقدّمها. اللهم نصوصه التي تخترقها سيرته ورؤيته لذاته في غير ما موضع. ولعلّ على رأس تلك النّصوص نصّ «المناضل الطّبقي على الطّريقة التاوية» الذي لم يتم الالتفات إليه بما يكفي للأسف، على الرّغم من أهميّته البالغة في فهم متن المفكّر المغربي في كليّته. يضيق حيّز هذا المقال عن عرض إشكالية تجنيس هذا العمل، فالنّاشر الفرنسي كان قد وضع على غلاف الكتاب مفردة قصيدة، وبيّن الشّاعر العراقي كاظم جهاد الذي نعتمد هنا المقاطع بترجمته، أنّه فضّل تجنيس الكتاب بمسمّى شعر، مع تأكيد عدم اعترافه لا هو ولا الخطيبي بالحدود المفروضة بشكل تعسّفيّ على الأجناس. وأحسب أنّ إشكالية تجنيس هذا العمل ليست إشكالية خارجية، بل تمسّ جوهر موضوع النّص نفسه، لأنّ النظر إلى النّص في علاقته بمشكل التّلقي يعيدنا إلى سؤال التّصنيف الذي طرحناه أعلاه، وهو سؤال واجه كلّ نصوص الخطيبي تقريباً، فقلّما تمّ الانتباه إلى وجوب دراسة كلّ نصّ في فرادته دون السّعي إلى إلباسه لبوس الأطر الضّيقّة التي يفرضها التّجنيس الأدبي. فالمشكل نفسه الذي كان يواجه الخطيبي (هل هو سوسيولوجي، أم شاعر، أم فيلسوف، أم ناقد، أم مفكّر، أم أديب...؟) هو نفسه الإشكال، الذي يواجهه كلّ نصّ من نصوصه، بما فيه النّص موضوع حديثنا. أفضّل هنا اعتبار النّص بياناً شعرياً، بياناً يعالج عبره الخطيبي (وهنا تكمن أهميّته) جانباً من الإشكالات السّابقة. كيف رسم الخطيبي بورتريهاً ذاتيا لنفسه في هذا الدّيوان؟ وما ملامح المناضل الطّبقي على الطّريقة التاوية؟ المناضل الماركسي لا ريب في أنّ المقولات والمفاهيم المهيمنة على الديوان هي مقولات ومفاهيم ماركسية. ولا ينكر الخطيبي انتماءه الماركسي، بيد أنّه نوع من الانتماء الطوباوي (والطوباوية أيضاً تتطلّب مع الخطيبي فهماً خاصاً جداً) إنّه كالانتساب الصّوفي الثّوري إلى دينٍ من الأديان. فهو لم يكن ماركسيَ العقيدة، لكن من جهة أخرى يمكن اعتباره الأكثر ماركسيّة من بين أبناء جيله، إذ يكاد يكون الوحيد الذي أفاد من الماركسية في الاتّجاهين معاً: الاشتغال بمقولاتها ومفاهيمها المنتِجة، ومن المنهج الجدليّ والماديّ، ومن جهة أخرى إغناء هذا الفكر نفسه بمساءلته من الدّاخل، وجعله يكشف عن إمكاناته، بل وحتّى تلقيحه بما قد يبدو بعيداً تماماً وغريباً كلّ الغرابة عنه من قبيل فكر لاو تسو. يحدّد الخطيبي منذ الأسطر الأولى للعمل موقفه من نوع خاص من الماركسيين، أولئك الذين يأخذون بالكلمة بدل الأثر، فالماركسية عندهم تستحيل إلى مجرّد كلمات ومقولات (التّاريخ، الإيديولوجية، اللاشعور)، وكأنّما تلك المفاهيم أنسوخات (بتعبير جيل دولوز) يمكن أن نجعلها أطراً ثابتة ونسقطها على أيّ إشكالية دون أن نأخذ بعين الاعتبار الاختلاف والفرادة التي ينطوي عليها كلّ مظهر من مظاهر هذا العالم الشّديد التنوّع: التاريخ كلمة الإيديولوجية كلمة اللاّشعور كلمة في أفواه الجهلة ترفرف الكلمات (ص 9) بيد أنّ ما يهمّ مع الماركسي الفعلي هو التّغيير، وكلّ تغيير ينطوي على الصراع والنّضال. من هنا فإنّ كلّ مقاربة ماركسية ينبغي أن تحدّد موقفها من فكرة الصراع والنضال. المناضل الطّبقي لا ينفصل الوعي الماركسي كما أسلفنا عن الوعي بفكرة النّضال الطّبقي، لا بل إنّ النضال الطبقي هو الممارسة حيث يتجسّد الوعي الماركسي. بيد أنّ الفهم التّقليدي للنضال الطّبقي يختزل الأمر برمّته في صراع طبقي، في صراع بين الطّبقات. من هنا فإنّ النضال الطبقي بحسب الفهم السائد للماركسية هو توحّد جهود الطّبقة المستغَلّة لمجابهة الطبقة المستغِلَّة. يتجاوز النضال الطبقي عند الخطيبي هذا المفهوم الضيّق نحو نضال أوسع، نضال مزدوج، نضال ضدّ العدو الطبقي، ولكن أيضاً نضال ضدّ الذّات نفسها: لذا فالمناضل الطبقيّ لا يقفزُ مثل جرادةٍ قَلُوب يجرح بفرحٍ طبقتَه نفسَها (ص 21) إنّ المناضل الطّبقي يناضل داخل الطبقة نفسها. يقوم بعمل من الدّاخل. عمل خلويّ. عمل لا يلغي السلسلة (ما دام الوعي بالعدو الطبقيّ يظلّ حاضراً)، لكنّه يعطي أهمّية كبرى للعمل من داخل الحلقات، وبخاصة الحلقة التي يلفي نفسه داخلها. ولعلّ تلك هي الممارسة المتيقّظة: حين يقرأ ثوريّ ماركس يمارسه بيقظة (ص 13) إنّها ممارسة تفرض النّظرَ المزدوج إلى الدّاخل والخارج، تفرض الانقلاب على الذّات في كلّ مرة، ومواجهة الهوية والانتماء بالقدر نفسه الذي نجابه به العدوّ الطبقيّ. باختصار ارتضاء اليتم والانتساب إليه. المناضل اليتيم يتيم هو المناضل الطبقي (ص 10) بيد أنّه في الآن نفسه سيّد في يُتْمه (ص 10). اليتم هو الانتساب إلى العالم. وينبغي أن نميّز هنا تمييزاً واضحاً ما بين مفهومي الانتماء والانتساب، فالانتساب نتيجة طبيعية لنفي الانتماء. ينفي المناضل الطّبقي كلّ انتماء مسبق، يرفض الأطر الجاهزة (الأسرة، الطبقة الاجتماعية المقيِّدة، الحزب، الولاء الأيديولوجي)، يختار اليتم طوعاً، أن لا يُنسب إلى أحدٍ، وإنّما أن ينتسب إلى العالم في كليّته. العالم في تناقضه وحركته. ليس اليتم قيمة سلبية، فانتفاء الأبوّة هو البداية الفعلية للتحرّر. على أنّ اليتم ليس حالة جامدة، فهو ليس يتماً تجاه مكوّن محدّد. اليتيم فاقد الوالدين هو يتيم قياساً إلى والديه، إلى افتقادهما، وبالتالي فهو يكاد يعيش وضعاً جامداً مستقراً، وضعاً محدّداً. أما اليتيم الطبقي فهو اليتيم متجدّداً، اليتيم الذي يكون كلّ مرّة يتيماً قياساً إلى مكوّن جديد، يتيم قياساً إلى هويّته نفسها ما دام قادراً في كلّ مرّة على تدمير ذاته. لا ينتمي اليتيم حتّى إلى نفسه، وهذا بالضّبط ما يجعله في موقف قوّة إزاء العدو الطبقيّ: لذا فأنا يتيمٌ بلا انتهاءٍ لأنّني قادرٌ على تدميريَ أهزمُ العدوّ الطبقيّ. إنّ وضعية اليتيم قياساً إلى العدوّ الطبقيّ، تناظر شيئاً مّا وضعية الفصامي عند جيل دولوز قياساً إلى النظام الرأسمالي، فمشكلة الرّأسمالية مع الفصامي كما يقول دلوز هي عدم إمكانية اتّخاذه لا حليفاً ولا خصماً لأنّه ينفلت من كلّ تصنيف ممكن، وبالتالي تعجز عن استدماجه في بنياتها التي تستدمج الجميع، حلفاءَ وخصوماً. حكيم الاختلاف لا ينكر الخطيبي في عمله الشعري رهانه، لا يخفي أنّه يعلّم شيئاً. لكن ما هو هذا الشيء الذي يعلمّه ويبشّر به؟ إنّه الاختلاف الذي لا رجوع منه (30). اختلاف المناضل الطبقي على الطريقة التاوية. لمَ اختار الخطيبي التاو أفقاً لفكر المناضل؟ لأنّ التّاو أولاً فكر الجمع بين المتناقضات، وفكر تمجيد اللّيونة والأنوثة والفراغ. بيد أنّه لا ينبغي أن نفهم من التّمجيد هنا التغليب. يقوم التّاو في الواقع على إعطاء الأهمية لما لم يهتم به في العلاقات، ليس على اعتبار أنّه هو العنصر الأفضل وإنّما فقط باعتبار أنّه الجانب المغيّب الذي ينبغي أن يتمّ إبراز دوره أيضاً، وعليه قد يصنع الإنسانُ بحسب التاو نافذةً من أجمل الإطارات وأنفسها بيد أنّه لولا الفراغ لما أمكن تسميتها نافذة. فالأمر لا يتعلّق إذن بتغليب عنصر على عنصر آخر، وإنّما إبراز فكرة التكامل التي لا يستقيم دونها الوجود. ثمّة أيضاً، مسألة النظر إلى المهمّش والثانويّ بوصفه يحوز نفس قيمة البارز والرئيسي (وهو ما مارسه الخطيبي نفسه على الثقافة المغربية)، إذ يستوي بوذا في عرض الماء مثلما يستوي في جذع خيزرانة (بحسب التّاو). ثم هنالك، ولعلّ هذا هو الأهمّ، مبدأ التعلّم القائم على التقفّي الذي ينشد الاختلاف. بتقليدك إيّاي تعرف اختلافك (35) وضع الحافر على الحافر قد يكون أيضاً طريقة في الاختلاف، والمهم بحسب التّاو أنّ الوصول ما هو إلا البداية، «إذا وجدتَ البوذا أقتل البوذا»، لا ينشد تلميذُ التّاو الخلاص في الوصول إلى مرتبة أستاذه. والمناضل اليتيم أيضاً لا يطلب من تلميذه الوقوف عنده: ألقى بك البحرُ نحوي أيُّها المسافرُ المجهول فاترُك حُطامكَ وواصل السّيرَ لا أسألكَ شيئاً الحمدُ لله وداعاً! (ص 53) هو نفسه أي الخطيبي قتل البوذا ما إن وجد البوذا وعانق الاختلاف الذي يدفع به في نهاية النّص إلى أن يتخلّى عن اسمه وتوقيعه وأن يحمل (مؤقّتاً فقط) اسم حكيم يتيم (ص 53).
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©