الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«عفريت» الجبل

«عفريت» الجبل
8 يونيو 2012
أحمد محمد (القاهرة) - لم يتوقع سالم أن يجرؤ أحد ويتقدم للشهادة ضده أمام النيابة، بعد المشاجرة التي وقعت بينه وبين أحد الأشخاص في القرية، ولم يعد إلى بيته وزوجته في هذا اليوم، وتم حبسه لاتهامه بالتعدي بالضرب على ذاك الرجل ثم ترحيله إلى السجن، بعدما صدر حكم بحبسه سنة وجاء الحكم سريعا خلال أسابيع معدودة، لا يصدق أن هذا يحدث بالفعل، لكنه وجد نفسه بملابس السجن الزرقاء وطعامه الذي يفتقد حتى الملح، والنوم على الأرض في الظلام، إلا أن كل هذا لا يهم أمام ظروف زوجته وبناته اللائي لا عائل لهن ولا رجل معهن إلا ابنه الصبي الذي لم يبلغ العاشرة ولا يستطيع أن يتحمل مسؤولية الأسرة، أما ما لم يستطع أن يدركه، فهو كيف أن هذا الرجل تجرأ على الشهادة ضده، وتسبب فيما هو فيه الآن، ولم يعد يهمه إلا تأديبه بل الانتقام منه. «سالم» لم يتأثر بكل الظروف التي وجد نفسه فيها ولا يخاف منها ولا من توابعها، وعنده كل الاستعداد لتحمل أمثالها وأكثر عشرات المرات، فلم تكن حياته السابقة أحسن حالاً، إلا أنه غير قادر على الصبر لمدة اثني عشر شهراً أي ثلاثمئة وخمسة وستين يوماً، حتى يخرج لينال ممن كان السبب في ذلك، ولو أنه كان يعرف الحساب لحسب هذه المدة بالدقائق والثواني، أنه يراها قد لا تنتهي، إلا أن من حوله يرونها مجرد لحظات بسبب فترات العقوبة المحكوم بها عليهم، ويتمنون لو كانوا مثله، ومع ذلك لا ينام إلا قليلاً حتى تأثرت صحته وهزل جسده. لم يكن حقده مقتصراً على ذاك الذي قال كلمة الحق، إنما امتد إلى كل أبناء القرية لأنهم لم يمدوا يد العون لأسرته خلال فترة عقوبته، كما أنه لم يزره أي منهم ولو مرة، ولم ير ابنه وزوجته إلا مرات قليلة، بينما حرم من زيارة بناته منذ القبض عليه إلى أن انتهت السنة وعاد إليهن، كان لقاؤه بالمهنئين بسلامة الإفراج فاتراً ينم عمّا بداخله، كاد بعضهم يتراجع قبل الوصول إليه وهو يمد يده يصافحه، وتمنى آخرون لو أنه لم يخرج من سجنه أبداً ليستريحوا منه، فكثر أعداؤه وكارهوه، خاصة وهم يعلمون أنه مفتر في الأساس ويستحق أكثر مما نال من العقاب. أيام قليلة مرّت على عودته إلى الحرية، سرى خبر مقتل «الشاهد» عندما كان يقوم بري أرضه الزراعية ليلاً، لكن لم يشاهد أحد القاتل ولم يعرفه إلا أن «سالم» بادر بإعلان الخبر بين الناس ومسؤوليته عن الحادث انتقاماً منه على ما قدمت يداه وأنه نال جزاءه، وأن من يجرؤ على مثل فعلته فسينال نفس المصير، فلم يجرؤ أحد على أن يشهد بالحق مرة أخرى ولا يستطيع أن يكرر حتى ما قاله هو واعترف به على نفسه، التزم الجميع بيوتهم وأغلقوا أبوابهم وآثروا السلامة والصمت خشية بطشه وتنكيله، ولم يكن في القضية أي دليل على القاتل وقيدت ضد مجهول رغم أن القاتل معروف ومعترف، فلا عقوبة إلا بدليل. منذ ذلك الحين تحول سالم إلى شخصية أسطورية يتحدث الناس عنه وينسجون حوله الحكايات ويضيفون عليها الأكاذيب ويصدقونها لتتحول إلى حقائق بينهم وعندما تصل إلى مسامعه يقرها ليبث الرعب والخوف في نفوسهم، فتجنبوه وتغاضوا عن حقوقهم عنده واستسلموا لسطوته واستجابوا لأوامره، وخضعوا لسلطانه، فلم يعترضوا على اغتصاب أموالهم ومزارعهم، جهاراً نهاراً وأمام عيونهم، وإنما وافقوا وهم يتمنون رضاه، إلا هذا الشاب الذي رفض المذلة والهوان ووقف في وجهه وأعلن العصيان، فكان نصيبه القتل ودفع حياته ثمناً لشهامته ورجولته وكلمة الحق، كثيرون تمنوا لو فعلوا مثله يتلاومون على جبنهم، وآخرون اعترفوا بصحة موقفهم بعدم الوقوف أمام الطوفان وإلا كانت نهايتهم الموت، ورأت الغالبية العظمى أن هذه هي نهاية الظالم المتجبر. اختفى «سالم» لأنه أصبح مطلوباً للعدالة فهذه القضية واضحة وكاملة الأدلة والأركان، لكنه ليس مستعداً لحياة الزنزانة التي جربها من قبل ولم يطقها لمدة عام ما بالك لو كان الحكم المؤبد وربما الإعدام، لم يعد يتردد على بيته إلا نادراً يتخذ من الزراعات الكثيفة والأحراش مقراً غير دائم، فلا يبيت في مكان ليلتين متتاليتين، ولا يعطي سر موقعه إلا لزوجته أو ابنه الوحيد. أصبح مطارداً من الشرطة، ومن أهل القتيل الذين يطلبون رأسه، والجميع يتربصون به خلسة ويأملون في لحظة سقوطه والخلاص منه، فما زال في غيه القديم وعلى جبروته السابق، يعيش على السحت والمال الحرام من المظالم، لكنه كان مثل الضوء يرونه لكن لا يمكنهم الإمساك به، يتنقل بسرعة البرق، ساعدته المنطقة الجبلية على الاختباء في مكان مرتفع عن الوادي، يستطيع أن يرى أي شخص يصعد إليه يتخذ من الكهوف ملجأ له في الليل وينزل نهاراً أما في الصباح الباكر أو في آخر اليوم حتى لا يستطيع أحد رصد تحركاته واتجاهاته فيكون فريسة وصيداً سهلاً لأي ممن يريدون رأسه. تحول سالم إلى عفريت يخوفون به الأطفال، وإن كان كثير من الكبار أكثر منهم خوفاً، يخشون أن يخرج لهم فجأة من بين أعواد الذرة، أو من وراء جدار مهجور، عرفوا عنه مباغتته حتى لا يعطي فرصة لمن أمامه بالتفكير ويثير في نفسه الرعب كي يستجيب لطلبه على الفور بلا نقاش ولم يقف عند هذا الحد وإنما تحول إلى قاتل مأجور، ينفذ ما يطلبه منه الآخرون في قتل غرمائهم مقابل حفنة من المال الذي يريده ولا مصدر رزق له غير السطو على أملاك الآخرين العاجزين أمام عنفوانه، لذلك كان أعداؤه أكبر من الحصر، لم يعد قادراً على مواجهتهم جميعاً، ورغم أنه لا يعرف الخوف، لكنه يخشى الموت، لا يستطيع الآن أن يتحرَّك علناً كما كان يفعل في الماضي، حدد إقامته لنفسه في المنطقة الجبلية، منع الزيارات إلا لزوجته أو ابنه يحضران له الطعام ويوصلان إليه رسائل القتل التي يريدها مستأجروه. لا يسمح لأحد بالاقتراب من مملكته خاصة بعدما اطلق عليه الناس ألقاب ملك الجبل والثعلب وسبع الليل والخفاش ونال الكثير من المسميات التي كانت ترضي غروره وتصيبه بالنشوة والسعادة، واعتبروه رجلاً خارقاً للعادة بعدما صدر حكم غيابي ضده بالإعدام، ولم تستطع الشرطة القبض عليه على مدى سنوات طويلة تزيد على العشرين، فقد أصبح عمره فوق الستين وشاب شعره وسقط معظمه، وضعف بصره، وعلى العكس تزداد جرائمه، وتتضاعف الحكايات عنه وتنتشر، وخلال هذه السنين كون ثروة كبيرة من الحرام، وهو يراها إنجازاً ومهارة، لكن في المقابل لم يفكر أحد في مصاهرته، فمن الذي يقبل أن يكون هذا السفاح جداً لأبنائه، ففات قطار الزواج بناته الثلاث، وتخطين الثلاثين، بينما من في مثل أعمارهن تزوجن قبل أكثر من خمسة عشرة عاماً. والزوجة هي الأخرى تقدم بها العمر ولم تعد قادرة على تسلق الجبل والوصول إليه، فانقطعت صلتها به ولا تعرف عنه إلا ما ينقله إليها ابنها، وهي لا تهتم كثيراً بأخباره، فلا جديد عنده في منفاه إلا النوم والطعام ولا يفعل شيئاً غير الترقب والنظر بعيداً خشية أن يباغته أحد وإن كان لا يأمن إلا ابنه على سر موقعه إلا أنه يخشى أن يتتبع أحد خطاه ويصل إليه، وقد كان هذا الحذر الشديد سبباً مباشراً في عدم سقوطه، لكن الابن لاحظ في الآونة الأخيرة تغيب أبيه عن مخابئه، ولم يعرف السبب، لكنه أرجعه إلى الحيطة والحذر وتغيير المكان باستمرار، كما اعتاد من قبل. الأيام كذبت ظن الابن الذي لا يتخلى هو الآخر عن سلاحه، لأن رأسه مطلوب أيضاً من البعض الذين يتمنون أن يحرقوا قلب أبيه عليه، فقد فوجئ بأن أباه يتغيب في مهمة غير سارة، أنه يزور أحد أصدقائه المقربين الذي كان على شاكلته في منطقة مجاورة، ويعتزم الزواج من أخته المطلقة، وتأكد له النبأ من أبيه نفسه الذي طلب منه أن يحضر له المال اللازم لمصروفات الزواج، لكن الابن لم يستوعب الطلب واستنكر على أبيه العجوز هذا التصرف الصبياني، ولم يخف اعتراضه على القرار واعتبره غير لائق، كانت هذه هي المرة الأولى التي يختلفان فيها، فخرج الابن غاضباً، لم تكن حاله خافية على أمه التي اكتشفت من أول وهلة أن هناك شيئاً أصابه بالهم وعندما أخبرها كانت أكثر منه غضباً. في اليوم التالي لم ينفذ المطلب وتحول الأمر بينهما إلى معركة كلامية كأنهما عدوان، وتلقى الابن بعد الشتائم والسباب والتقريع وصفعة على وجهه أفقدته صوابه فاستل سلاحه الآلي وأطلق الرصاص على أبيه، وكان لكل مكان في جسده منه نصيب، ولقي الأب مصرعه على يد ابنه، ليذوق وبال أمره وتنتهي حياته بنفس الطريقة التي سلكها مع ضحاياه، الجملة الوحيدة التي تكررت على لسان الجميع، أنها عدالة وانتقام السماء.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©