الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فتاة اسمها.. اكتبيني

فتاة اسمها.. اكتبيني
25 يوليو 2018 20:20
لمَ خلقهُنّ الله جميلات، أصيلات، مجنونات، مطيعات، حنونات، متمردات، شهيات، خائنات، رائعات، مقاتلات، هادئات، و.. غائباتٍ عن الوَعي! يَمشينَ كأنهُنّ فراشاتٌ بأجنحةٍ لا حاجةَ لها في السّعي خلفَ الضّوء؛ هنّ الضوء، وهنّ احتراقُه. في عُيونِهِنّ انعكاساتٌ لا تتلألأ في الظلام؛ فالحياةُ تَشُمّها في مَسامِهِنّ وشِفاهٍ مَرسومَةٍ بمُحدّدِ الأسرار. يَكتُبنَ بحِبرٍّ خفيّ يُؤجِّل سُلطَةَ الوشاية. ما نَفعُ الحكايا نَكتُبُها والناس لا تُجيدُ القراءة! وفي تلك الرحلة بين ضفّتي الحياة والموت، يَتَنَصّلُ الآخرون، وَحدَها تقفُ على ناصيةِ الحُلُمِ لتقاتلَ عارية، فلا ينتَبِهُ أحدٌ للسلاحِ الموشومِ على جَسدها، بلْ للحكايةِ إذْ تُروَى، وَهُمْ عندئذٍ يُنصِتون، يُدوّنون، ويَبيعون، بضاعةً مُزجاةً اسمها التاريخ. جدائل الحريق مَسامها تَنضَحُ بالكلمات، تَترَقْرَقُ القطراتُ من مَنبتِ الشّعر مرورا بالجَبين فمِغزَل العَين فَحافّة الأنفِ ثم تَسقطُ على الشّفة السُفلى مُمَلّحةً ببَوحٍ ثقيلٍ لا تُحسِنُه: اكتبيني. فأكتُب. أمرّ على جديلةٍ لمْ تَكتمِل لطِفلَةٍ أعْياها انتظارُ أمٍّ لا تأتي وَعَدَها بِها طَاقمُ إسعافٍ وَصَلَ مُتأخراً عُمراً بأكْمَلِهِ ستُضْطَّرُّ صاحبتُهُ للوقوفِ عِندَه. يَكبُرُ الوقتُ بينما لا تبرَحُ مكانها، برأسٍ مُحَنَّى بالدَّمِ ومَربوطٍ بشالٍ مُزركَشٍ بِدَعْوَةٍ أخيرةٍ لأمٍّ تودِّعُ جنةً تحتَ قَدَميها لتدخلها أخيراً حافية: «الله يِرضى عليكِ ويَحميك يا بِنْتي». فَيَرضى الله عنها وَيَسْخَطُ القَتَلَة، فتجرّدُهُمْ خَيمتُها – التي حَصَلتْ عليها ببطاقةِ تموينِ اللاجئين – من الخياراتِ الإضافيةِ لحفلةِ السُّخطِ الجَماعيّة ويرحلونَ ببَساطيرَ مُغَمَّسَة بزيتِ الزيتونِ المَسفوح. على شاشة التلفاز مذيعةُ ترتدي قناعاً يَقِيها شُرورَ الهَواءِ المُدَبَّبِ ودِرعًا يَفتَديها بِتَلَقّي الرّصاص، تسألُها: كيفَ تشعرين؟ ما رأيكُ فيما حصل؟ ما الرسالةُ التي تُوَجِّهينَها للعالم؟ تصلها الترجمةُ قَطرةً قطرة: شُعور.. رأي.. رسالة، آه! هي، لا تملِكُ أيّا منها الآن! تَمضي بعيدا، ويُغلِقُ المُصَوّر عَيناً عَوراء تَتبَعُها. عباءات الإسفلت تقودُني السيارةُ إلى طريقٍ خالٍ من ملامحِ المسافة، والسّرابُ يُعَمِّي ذاكرةً مفتعَلَةً لسردٍ كاذب. على إيقاعٍ منتظمٍ تدورُ العجلات، وتتبعثرُ خرائطُ الرّمل على الإسفلتِ المُحتَرق. تعبرُ امرأةٌ مُتَّشِحَةٌ بالسّوادِ بين شجرتي سِدر ضَلَّتا الطريقَ إلى بيتٍ يُؤويهُما: اكتبيني! فأكتب. أنْ تخرجَ من هذا القَيظ كُرةً من نارٍ تتدحرجُ من رصيفٍ لأخيه، باحثةً عمّن يُقِلّها إلى الجانب الآخر من الجحيم: خُذني إلى جوانتانامو؛ ابني لمْ يأكلْ من يدي منذ سنوات! ككلِّ تلكَ الأماكن التي يسكُنُها الغولُ وتطرُدُها المُخَيِّلة في منتصفِ رِحلةِ النّطق باسمها، يَقطَعُ مُحاوِرها الطريقَ على تَتِمَّةِ الحكاية ويَرُدُّها بدَعوةٍ لا تستَجاب، أو بقطعةِ جَمرٍ يفركُ بها كفّهُ مُتَحَسِّرًا، أو ينسحبُ بعيدا كسرطانِ بحرٍ عرّاهُ الجَزْرُ فجأةً وسَطَ هجْمَةٍ لقطيعٍ من الأقدامِ البشرية، أو يَمُدُّ لها ورقةً نقديةً ظانًّا منهُ أنها تتسولُ بحكاياها. تعضُّ على طرفِ عباءَتِها وتَكسِرُ رمشَها، يَتَخَمّرُ الطعامُ وتُفسِدُهُ الأيدي التي لا تمتدُّ إليه. آهِ كم تبدو اللُّقمَةُ عَصِيَّةً رغمَ وَفْرَةِ الطعام! والشمسُ.. ما تفعلُ الشمس! أينَ ضَربَتُها! أين قرعُ يدها على الخَزَّان! (1) هذا الشارع لا يرحمْ، وهذه الكرة الأرضية لا تدورُ فتصلُها بمن غاب، فماذا تنتظر؟! عودٌ في يد سارة نشرةُ الأخبار تمضغُ خيباتنا، تُرتّبُ أرشيفَ الضحايا كقطَعِ فُسيفِساء، والمشهدُ في حاجةٍ إلى المزيد.. بُقع دمٍ إضافية هنا، جثّة محترقةٌ هناك، ولا بأسَ بموسيقى نُواح في الخَلفية! ظلّ نصير شَمَّة يشقّ الدخان بيدٍ تبحث عنْ حُنجرَة مَلجأ العامرية (2). تلتقطُ أذني لوعَةَ العودِ وهو يتحول إلى صفارة إنذارٍ، ثم إسعافٍ، ثم جَزَعٍ، ثم مَوتَى فحّمَهُمْ جُبنُ العالم! تحتَ الرّكام تنطفئُ عَينان: اكتبيني! فأكتب. بين يَديها كتابٌ، وفي قلبها وطنٌ، ومع كِسرَة خبزٍ تُؤجِّلُ الموتَ جوعاُ وارتجاجَةِ أملٍ على جُدران مُتعَبَة، يزورُ ألفاً وخمسمائةِ هاربٍ من الموتِ مَوتُ آخر، موتٌ ينضجُ على مَهل، يتناولُ الأجسادَ بعد أنْ يُقَلِّبَها على الجَمر، ويُغرِقَها في توابلِ الحَرب. تقلّدُ رُعبَهم فتستغيثُ: «طلّعونا.. طلّعونا» (3)، فهل كانت تبحثُ عن الحرية حقا أم أنها تجرِّبُ النداءَ الأخيرَ من سجنٍ كبير يبتلعُهم فلا يخرجُ منهم أحد! بعينَيها العسليتين وشعرها الفاحم ووجْهِها البيضاوي الأبيض.. طفلةٌ مثاليةٌ لنهايةٍ مأساوية: صورةٍ على حائطِ شهداءِ ملجأ العامرية. سرير غريب «إن النهاية أختُ البداية فاذهب تجدْ ما تركتَ هنا، في انتظارك لمْ أنتظرك، ولمْ أنتظر أحداً» (4) في البدءِ كان انتظارها، بطنُها المتكوِّرُ، كرةً تدحرجها نظراتُ الناسِ وتوقعاتِهِمْ: صبي؟ بنت؟ توأمان! وعلى سريرٍ أبيضَ تمُدُّ ساقيها وتنتظر، تريحُ رأسها على جانبٍ لا ترى فيه كائناتٍ فضوليةٍ ألِفَتها، تلتقي عَيْنَيّ بعَينيها، أنتِ أيضا تعلمينَ أنني لمْ أعُدْ أنتظِرْ، ولا هُم ينتظرون، الشّامتون همُ الذين يَستمتعونَ في انتظارهم. تمُدّ يدها إلى بطنها، تضغطُ على الكُرةِ لعلّها تنزلقُ مغادرةً هذا الجَسد: اكتبيني! سلسلةٌ مطليةٌ بالذهبِ ومَختومةٌ بالانتظار، تطوّقُ نَحرَ المَرأة، زينةً أو قَيداً.. سيّان، في طفولةٍ مَوسومَةٍ بدَعوةِ «السّتر»، وبلوغٍ موسومٍ بانتظار «العَدَل»، وزواجٍ موسومٍ بانتفاخ الأحلام بالبنين أو «العَوضِ بالصبيّ». تدورُ دائرة الانتظار، وبَطنها لا يستجيب، كأنّ بطانتهُ محصّنةٌ ضِدّ دعوات جحافلِ المجتمع التي تشرَعُ في اتّهامِه: أينَ تَهوي دعواتنا الصالحات في قعرِ هذه البطنِ المَلعونة! النهاياتُ واحدةٌ دوماً: إجهاضٌ مبَكِّر. والسبب؟ الرَّحم ضعيف! ولكن، ما يُضعفه؟ وهي التي نشأتْ لغايةٍ واحدة، وتغذّت على طعامٍ واحد، وشربَت من كأسٍ واحد، وارتدتْ كل ما ارتدت لتغطِّيَ جسدًا مَجبولاً على أمرٍ واحد: ودودٌ وَلود! أبعدَ كل ذلكِ يَخونها الجسدُ ويلفُظُها الحَظ! فما نفعُها الآن؟ وما تفعلُ بما لديها وهو لا يمنحها ما يجبُ أن يكون لديها في الأصل؟! الموت في العينين كُحلُ العينين شهِيٌّ في استدارتِهِ كقالبِ حلوى تذوبُ على أطرافِهِ خيوطُ الشيكولاته، وهيَ تُحدّق فيكَ مُخترقةً دفاعاتِكَ كلها ملقيةً بجسدِ ذاكرتِكَ على طاولةِ التشريح، وبسببها ستتحوّلُ إلى مُتطرفٍ في الحُب، لا ترى من النساء إلاّها. وحين تقتربُ من رائحتها التي تحتويكَ، تلاحظ أنّ بَصَرها لا يَحيدُ عن تلكَ النقطةِ التي كانت تحدِّقُ فيها منذُ البدء، غادرتَ أنتَ.. لكن النقطةَ لم تغادر أبدا! آخ يا عينيها.. تَستجديكِ : اكتبيني! فأكتب. العمى هو العمى، لا جمالَ فيه ولا مساحات ملونة، وعندما غابتْ الشمسُ عنها فهي لم تزُرها مشرقةً في الأصل. أجل، أصلُ الأشياء هو السَّواد، وكل ما عدا ذلك مَحضُ خيالات. تُغذِّيها الخيالات، تطمئِنُها، تُخبِّئُها تحت جناحها، تَخونُها، تبْكيها، تُكَرِّرُ وِلادتها مُبصِرَةً.. و «آهِ لو» تموتُ بين أصابعَ تَجري على بُروزات ناتئةٍ اخترَعَتها خيالاتُ مُشفقٍ على سَرابِ صُورٍ لكلماتٍ تَعِدُها بحياةٍ عادلة. آه، لا عدالةَ إلا في المَوت. والموت أسود! اكتبيني مرآتي لمْ تعُد تعكسُ شيئًا؛ غَدَت نَقِيّة! ذلك النقاءَ المُطفأ. هل وَصَلْتُ إلى النيرفانا (5) من نحنُ لنعرِفَنا دونَ خطايانا؟ وما حاجتنا إلى الحياة الإنسانيةِ إنْ تَحَوَّلنا إلى ملائِكَة! كلّهن غادَرنني، وما استطعت أن ألاحِقَ إلا ظلالهن، رأسي يتحول إلى غرفة تعذيب، أسمعُ صوتَ الجلادِ يحفر في أذنيّ حَكاياهنّ واحتجاجاتِهِنّ، وهن يصرخن: «كلما ازداد عذابنا قل احتجاجنا؛ الاحتجاج علامةٌ على أننا لم نَعبُر أيّ جحيم» (6). قلمٌ يغازلُ الورق، - آه، حتى استعاراتنا تعكسُ تغلغلَ مُجتمعٍ ذكوريٍّ مُتخم بالوجباتِ السريعة – أندمُ، وأظلّ على ندمي زمنا كأنني عشتُ ألفَ حياة، في انتظار تلك الهجرةِ التي تمنحني صك حريتي (7). أنا أَمَة الكلمة، والكلمةُ لا ترغبُ في تحريري، في عيونهنّ ترتسم حَيواتٌ لم أعِشها، وهنّ يبحثنَ عن رسول يدلّهن على طريقِ الجنة، أو يحملُ عنهنّ الخطايا، أو في أسوأ الحالات.. يخسف بهنّ الأرض. وأنا، في نهاية الأمر، أبحثُ عَمَّنْ يكتُبُني فيهنّ جميعاً. 1- «لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟»، رواية رجال تحت الشمس لغسان كنفاني. 2- ملجأ العامرية، هو أحد الملاجئ العراقية في منطقة العامرية، تعرض لهجوم أميركي بالقنابل الذكية عام 1991 أدى إلى استشهاد أكثر من 400 مواطن عراقي لجؤوا إليه للاحتماء من الغارات – معظمهم من النساء والأطفال. ألّف عازف العود العراقي نصير شمة مقطوعته «ملجأ العامرية» متأثرا ومخلدا هذه الذكرى، ورفع نصب «الصرخة» أمام الملجأ، ليتحول الملجأ إلى متحف يحوي صور الشهداء. 3- يروي شهود العيان في قصف ملجأ العامرية أن اللاجئين كانوا يستغيثون «طلعونا طلعونا» بعد هجمة الصاروخ الأول، ثم خمدت الأصوات تماماً بعد الصاروخ الثاني. 4- من قصيدة سرير الغريبة لمحمود درويش. 5- النيرفانا في البوذية: حالة الخلُوّ من المعاناة أو الانطفاء الكامل. 6- اعترافات ولعنات، إمييل سيوران، ترجمة آدم فتحي، منشورات الجمل. 7- «الندم هجرة داخلية في الاتجاه المعاكس، يبعث حياتنا بقدر ما يشاء فيوهمنا بأننا عشنا أكثر من واحدة.»، سيوران، المرجع السابق.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©