الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تحضير جسد المتلقي

تحضير جسد المتلقي
25 يوليو 2018 20:14
يستجوب العمل الفني ذاته بسؤال مركب: ما هي عليته في إطاره البصري المحض. وكيف للشيء الفني أن يضاعف من رؤيتنا وتحسسنا للشيء في ذاته. يتكفل التكوين الفني للعمل الإبداعي باستجماع الرد في الصيغ البصرية الممكنة، لجعل العمل الفني تكريماً متجدداً للفن وعليته في آن. مُزيحا في الوقت ذاته المجال الذي يجعل الشيء مختلطاً بما لا يجب أن يكونه. هذه التنقية الخصائصية ضرورية لجعل الفن قادراً على التعبير عن، ومعبرًا عن الشيء، دون أن يكون مجرد استعادة فجة لعادية الأشياء في المشهد اليومي. يمكننا ههنا أن ننتج نقطة تأسيسية من نسقين فلسفيين. ينطلق أحدهما من استفهام هايدغر حول شيئية الشيء، ماهيته التي تكتنز ثراءً هائلاً من الدوال التي تظهر كأجزاء مقطعية ومتعالقة مع ممكنات السياق الذي دفع به إلى الظهور بكيفية ما. والنسق الفلسفي الآخر الذي يتأتى أساساً من مدار فكري يتوزع عليه كل من مورلونتي (المرئي واللامرئي) ودولوز وغواتاري (ما هي الفلسفة)، الذين تقدموا بفكرة نزع الإطار عن الشيء المقدم كعمل فني. فتحرير الأشياء من أطرها الوظيفية يمنحها إمكانية التحول إلى أجسام. يصبح الشيء جسداً، وبالتالي مجالاً لتقاطع وتراكم وتتالي الظهورات الممكنة لما يتضمنه الجسد من أشياء وكائنات. في المقابل، تطورت بعض الحِرف إلى درجة عالية من التنظيم الجمالي. كهندسة الديكور التي تؤسس ترتيب المكان على أسس فراغية ولونية دقيقة. تجعلها من الناحية الحسية منافساً جمالياً لأعمال فنية كثيرة، ليس بمقدورها أن تجعل من شحتها البصرية معماراً متيناً للرؤية. بالإضافة إلى التطور البليغ الذي ظهر في الهندسة المعماري بداية الستينات من القرن المنصرم. تلك التي تقاسمتها تسميات غير دقيقة كالحداثة وما بعدها، والتي نظَّرها بدقة المفكر الجغرافي «ديفيد هارفي» في عبارة «الحالة»، حيث أتت بتصاميم وبناءات معمارية يمكنها أن تحيل إلى التسميتين في الآن ذاته. لكن مشكلة العمارة الحديثة أنها باتت جاذبة أكثر لانتباه المشاهد من الأعمال الفنية التي تعرضها داخل جدرانها. وأصبحت كتل نحتية ضخمة مبتلعة للمتلقي وللعمل الفني الذي تعرضه في آن. لذلك أجد في معمار اللوفر في أبوظبي والمتحف القطري، المصممان من قبل نفس المعماري (جان نوفل)، معماراً نحتياً ذا أثر مُثبط للقابلية المفترضة في متلقي الأعمال الفنية فيها. إذ يجب تحييد المعمار لأجل العرض، وليس تحويل المعمار إلى عرض أساسي، ولتصبح ما تتضمنها من أعمال فنية مجرد ملحق للبناء. تمحي الاشتراطات الفنية الآنفة تجارب كثيرة، فتستعين بالإنترنت كمخيلة بديلة وبالعلاقات العامة للدخول في سوق الفن، بينما تحافظ تجارب نوعية على مكانتها، ومن خلال هذه المكانة، تعيد تمتين الفن كمجال إبداعي لتقديم الرؤية إلى العالم. والفنان آزاد نانكلي واحد من التجارب العراقية الدقيقة، التي تمنحنا مفاتيح الرؤية الغائبة والرؤية العميقة لنسيج الأشياء في العالم. وأعماله التي سندرسها في هذا المقال، تحرر مفهوم الحجم من إطاره الهندسي، لتمنحها بعداً تخيليلا متجاوزا القياس المتري. وينتج تنوعاً في مستوى التلوين وحسية اللون اللمسية ليكون اللون حاملاً لدلالات متعددة، عوضاً من أن يكون مجرد ترتيب هندسي لتوزع الضوء في تسلسل ٍهادئ. عالم آخر تجسد مجموعة اللوحات المعنونة بـ «عالم آخر» الخصوصية الآنفة، والمنفذة في أحجام صغيرة (50/‏‏75). إذ تتضمن على عمل تفصيلي دقيق من الخطوط القصيرة المنحنية في تتالي شاقولي متصاعد على خلفية لونية متغيرة، تجعلها قابلة للتكثيف بصريا. أي لملمة كتلتها الضخمة في مجال بصري موافق لقدرة العين على رؤيتها كلها كمشهد واحد. وفي الوقت ذاته تكون أضخم من قدرة العين البشرية على الرؤية. فالجسد الموجود في العمل (The other world 4 2017). يظهر بالتفاصيل العادية للشكل البشري في مواجهة كلتة هائلة الضخامة، تفقد المقاربة المتعلقة بالحجم قابليتها للقياس. وتبرز اللوحة المشهد وفقا للأبعاد المتعددة التي تؤسس الرؤية في العمل بالاتساق الدقيق مع التمثلات الحسية المتعددة للسطوح المختلفة. فهذه الكتلة الحجرية الكبيرة تكون غير قابلة للتحديد هندسياً بحجم محدد. وذلك لأنها تتضمن على خشونة مدببة بالنقاط والخطوط الكثيفة القصيرة التي تمنح الكتلة سُمكا لامحدودا. إلى جانب العمق الظاهر في الحواف العليا للكتلة، باللون الرصاصي الداكن والسطح الخشن المؤسس بالمواد التي تمنح نسيج اللوحة بنية حجرية نباتية. وبمجرد رؤية الإنسان مواجها لهذه الكتلة، وعلى خلفية فراغية ملونة بدرجة أحادية، لا يبقى الفراغ فراغاً مكانياً، بل يكون محض عمق أو مجال لإظهار الصورة. ولا يبقى حتى عنصر ضوئي في ترتيب الثقل اللوني لافتراض أو تخيل خطي الأفق والأرض في المشهد داخل اللوحة. وبناء على هذه التفاصيل تبدأ الخصائص التكوينية بجعل الرؤية ممكنة في هذا العمل. يقف المتلقي أمام البعد الخاص بحجم اللوحة الطبيعي(50/‏‏75). يقترب من اللوحة لرؤية الشكل البشري الصغير على يسار اللوحة. ويلتقط كثافة التأثيرات الحسية المتعلقة بالكتلة المواجهة للشكل البشري. يبتعد ليرى العنصران في المجال الذي جرَّدته الدرجة الأحادية للون في الخلفية من بعده الهندسي. فيخرج المتلقي من البُعد الطبيعي للمشاهدة. ويصعد المتلقي عبر هذه الأبعاد والمعالجات الحسية اللمسية واللونية إلى مرتبة المراقب المفترض من بعدٍ تخيلي. أكثر بعدا من منظور عين الطائر كتقنية منظورية تستخدمها السينما والعمارة على نحو ٍ متقارب. يُحظى المتلقي مع هذه الأعمال بفرصة الصعود إلى بعد فضائي لرؤية مشهد خارق للقدرة البصرية العادية، لكنه مؤسس بأبعاد يمكنها أن تحُضِّر المتلقي لهكذا رؤية. إذا هو تأسيس مركب للمرئي. فإن كان سيزان يطالب الفنان بتَحْضير جسده في المشهد. يقوم آزاد نانكلي بأمر مضاعف، إذ يُحَضِّر أيضا جسد المتلقي. وفرت التكنولوجية فرصة تركيب المجالات البصرية وكذلك إمكانية التجول الفضائي حول الشيء. وهي الخاصية التي استعادتها التكعيبية من الرسوم الفرعونية لجعل الشيء مرئيا من عدة جوانب على نفس السطح. غير أن هذه الأعمال توفر إمكانية ليست متاحة حتى في السينما. إذ ليس بإمكان السينما أن تخرج عن المسافة الطبيعية لعمل العين. ففلمGravity لألفونسو كوارون يبقى على المقابلة بين الجسد البشري والفضاء ضمن المعقولية الممكنة لرؤية جزء من الأرض مع كلتة الجسد في الفضاء. أما مع هذه الأعمال فالأبعاد والمسافات مشغولة بإمكانيات منظورية متباينة جدا، تجعل المتلقي جزءاً عضوياً في بينة الصورة، وتمنحه موقعاً تخيلياً وملموساً في مجال تفاعل الرؤية. الإضافة الأخرى التي توفرها هذه الأعمال، أنها تؤسس لمشهديات ذهنية غير محسوسة. فالعمل (The other world 7 2017) مثلا، يستعيد نانكلي الخصائص المنظورية الآنفة ويضع فيها جسدا ممددا في خط أفقي أسفل اللوحة، دون أن يكون هذا الموضع أساسا أرضيا. وتتصاعد من الجسد الممد خطوط سوداء في هيئة أجساد ملتوية على نفسها، تتوسع وتتكثف في الأعلى كغيمة من الأجساد الملتوية. وتتضافر الدرجات اللونية في الخلفية لخلق مسافات غير مترية في مسار صعود الروح من هذا الجسد. يحدث الموت الفردي في هذا العمل كإبادة جماعية. ويجعلنا في مشهد بصري لملامسة تلك الأجساد/‏‏الأرواح المتصاعدة إلى غيمة الموتى. هل من بلاغة يمكنها أن تترجم هذا المشهد؟ كون ماركس العمل (In – Out 2016). لا ينتهي. ويتأسس من معالجات إجرائية كثيرة ودقيقة، ومنفذة بتجريد تقني هائل. فالفنان آزاد نانكلي يجعل التقنية مؤثرا جماليا وعنصرا في تكثيف بينة التكوين دون أن يتخذ من التقنية عملا فنيا بحد ذاته. وهذه نقطة جوهرية في الفن المعاصر، غير أنّ معظم الفنانين يفعلون العكس، لذلك تختفي الرؤية عن الأعمال التي لا تدرك جوهرانية هذه النقطة، ويتحول العمل الفني إلى مجرد استعراض. يمكن متابعة مسار هذا العمل من نقطتين: من الداخل حيث تؤسس صورة ماركس مركز الكون الخاص به. ومن الخارج عبر المسار الذي يسلكه السلك القادم من خارج العمل إلى الداخل، مؤسسا المدارات التي تحيط بالعالم الذي تتضمن على مدارات أخرى تحوم كلها حول النقطة ماركس. وتظهر القصصات الورقية من مؤلفات ماركس حول الصور الشخصية للمفكرين والكتاب الذين جاؤوا بعد ماركس. فرويد وهايدجر وكامو وسارتر.. إلخ. وصور أقل ظهورا لآخرين سبقوا ماركس، تعلوهم أسهم دائرية متجهة من الخارج نحو الداخل لترسم اتجاه القوة نحو النقطة ماركس. ومن مسافة أبعد يتحول العمل إلى مشهد آخر. كوكب من الخرائط والأشكال التعبيرية الممكنة للكائنات المتفاعلة دون أرجحية لشكل ما. يتضمن هذا العمل على كتلة رمزية عالية الكثافة، إذ يحول كل عناصره إلى أشكال مختلفة. الصور والقصصات والأسهم الصغيرة كلها تختفي وتظهر كمؤثرات حسية لتأسيس وجه الأرض. ومنها يستمد المتلقي حريته في رحابة التصور التي يقترحها هذا العمل للرؤية. ينجز الفنان نانكلي أعماله بروية، ويضعها بمسؤولية فنية عالية أمام المتلقي. يحترم ذكاء وجمالية التلقي، فلا يبتذل منجزه ولا ينجر خلف الفوضى التي تتيحها سوق الفن والمؤسسات المتحركة باسم الفن، لذلك يجد سؤال الفن أجوبته الممكنة في هذه الأعمال برشاقة وبعمق. وهي سمة أعماله بمختلف الأساليب التي يقدمها، سواء أعماله الفيديو آرت أم أعماله التركيبية. وكلها تقترح على المخيلة بناءات بصرية خارقة، ومشهد مشرع على التأمل بعمق، لذلك لا تدور لوحاته في فلك الذائقة العامة. تساهم تجربة الفنان نانكلي في تحرير الفن من أسره المعاصر، السوق. وتساهم في منح الفن صوته الفريد داخل الفوضى العارمة للأشياء المزيفة، والتي يصنعها فساد المجال الفني. لوحة ذاتية ولِدَ الفنان آزاد نانكلي في مدينة أربيل بكردستان العراق. يعمل ويعيش في فلورنسا بأيطاليا. درس في معهد الفنون الجميلة ببغداد 1975، وفي كلية الفنون الجميلة بفلورنسا 1979. وحصل على شهادة احترافية في الليثوغراف من المركز الدولي لدراسة الفن في فلورنسا 1983. شارك في ثلاث دورات لبينالي فينيسا (53/‏ 54/‏56) بعمل تركيبي ضخم عن الماء، وبعمل فيديو آرت عن الماء. عرض في الكثير من دول العالم. في الصين وأوربا والعالم العربي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©