الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رحلة آسرة في فكرٍ ضروري

رحلة آسرة في فكرٍ ضروري
25 يوليو 2018 20:13
بعد عدد من الترجمات لنصوص إدوارد سعيد وحوارات معه، يصدر الناقد السوريّ صبحي حديدي كتاباً يشكّل إطلالة واسعة ومثرية على أعمال المفكّر الفلسطينيّ الرّاحل وعلى مجمل مسيرته. يحمل الكتاب عنوان «إدوارد سعيد الناقد – آداب التابع وثقافات الإمبريالية»، وصادر عن الأهليّة للنشر والتوزيع بعمّان. يُفتتح الكتاب بمقدّمة واسعة تشكّل بحدّ ذاتها دراسة آفاقيّة مُسهَبة ودقيقة لعالم إدوارد سعيد (1935-2003) الرّحيب المتعدّد، يليها قسم أوّل يضمّ عدّة فصول يعرض فيها حديدي ويحلّل أهمّ مؤلّفات سعيد. أمّا القسم الثاني فيقدّم نصوصاً نقديّة منتخبة لسعيد بترجمة حديدي، يليه ملحقان يشكّل الأوّل دراسة في سعيد لباحث أكاديميّ بريطاني، والثاني حواراً موسّعاً كان حديدي قد أجراه مع المفكّر الفلسطينيّ في 1994. بادئ ذي بدء يوقفنا حديدي على مفارقة لافتة: سعيد واحد من المفكّرين الذين امتازوا بملامح فكريّة مكتملة يسهل تحديدها وبمنهج دقيق يسهل أيضاً تمييزه عن سواه. ولكن يظلّ من الصعوبة بمكانٍ حصره في مدرسة تفكير محدّدة أو في مذهب بعينه. فلطالما مارس كتابة متعدّدة الميادين تفرض على أسلوب الكاتب والمفكّر حركية فكرية ومرونة مفهومية عاليتين كان سعيد من بين المفكّرين النادرين الذين حازوا عليهما وأدخلوهما إلى حيّز التطبيق في جلّ ما كتبوه. لقد لازَمَ حديدي كتابات سعيد طيلة عقود من السنوات، وعرف المفكّر شخصيّاً، ولمس عن قربٍ رؤيته للنقد الثقافيّ والأدبيّ والنضال السياسيّ والفكريّ، وتأمّل كلّاً من الرّجل وعمله وطرحَ عصارة فهمه له في هذا الكتاب الذي يتوقّف فيه عند أهمّ مؤلّفاته وأطوار نموّ أفكاره. أطوار يعرضها بمعرفة وإحاطة، ويدلّنا بثقة على مواطن الضرورة فيها، ويمنح القارئ المثقّف مفاتيح مثمّنة ليتوغّل في هذه القارّة الفكرية الآسرة والمترامية الأطراف. جدل التجربة والفكر كان سعيد ناقداً لنزعات الانغلاق القوميّ الضيّق، وبالقدر ذاته مارس إدانة منتظمة ومعزّزة بالتحليل الصارم لنزعات الإنسانوية (أو الإنسيّة، أو الأنسنيّة حسب تعدّد الترجمات) التي تنطلق من كونيّة مزعومة «لتصبّ في مركزيّة غربيّة صرفة، تقصي الآخر أو تهمّشه لصالح ذات أوروبيّة مؤسّسة على نحو تجريديّ مطلق». وبقدر ما كان شديد الصرامة في فضح تجليّات الاستعمار الجديد، كان شديد التوجّس من أن يُفضي خطاب مفكّري العالم الثالث، مفكّري التيار ما بعد الاستعماريّ الذي يقف هو بين مؤسّسيه، إن لم نقل إنّه كان مؤسّسه ورائده، نقول يُفضي، بتعبير حديدي، إلى مركزيّة جديدة ومواجهة عدائيّة نابذة تعجز عن تجاوز منطق الصراع لاجتراح تركيبة إنسانيّة جديدة. بتبحّر وأناة يُرينا حديدي أنّ إضافة سعيد الكبرى التي تُلخّص نبوغه وتنتشر في عمله كلّه وتتوسّع وتتنوّع على نحوٍ مُدهش إنّما تتمثّل في تفكيكه للخطاب الاستشراقيّ، لا في كتابه الشهير «الاستشراق» (1978) وحده، وإنّما في مُجمل ما كتبه، حتى قبل أن يصدر كتابه هذا. منذ أطروحته للدكتوراه عن الكاتب البولندي بالإنكليزية جوزيف كونراد، التي صدرت في كتاب حمل عنوان «جوزيف كونراد وقَصَص السيرة الذاتية» (1966)، انتبه سعيد إلى معنى أن يُقارب كاتب غربيّ شعباً آخر ويُسبغ عليه صِفات جوهرانيّة ويُسقط عليه رؤيته ويتخيّله، أي يهب عنه صورة هي من بنات خياله. يُرينا حديدي كيف قام بين فكر سعيد وتجربته الذاتية جدلٌ متين، فكانت كتاباته تغذّي تجربته وتغتذي منها، لا فقط في سيرته الذاتية «خارج المكان» (1999) بل في كلّ سجالاته الرفيعة وأبحاثه الرائدة التي تمخّضت عن أجناسٍ خطابيّة وتحليليّة جديدة. فالرجل الذي وُلد في القدس ثمّ غادرها مع عائلته مبكّراً تعرّض لتشكيك الأعداء حتّى بولادته هذه، ناسين لا بل متناسين أنّ الولادة في القدس أو المنفى لا تشكّلان فارقاً كبيراً لمفكّر فلسطيني بنى بعض أهمّ أركان عمله على فكرة المكان وعلى إمكان تحويل المنفى إلى «آلة حرب» ضخمة وفعّالة، تمنع من الابتئاس والعقم، وفي الأوان ذاته تُبعد عن العطالة والاكتئاب المرَضيّ والقينيّة أو السخرية الفجّة وعن مهادنة المؤسّسة الأكاديمية أو سواها. وبفضل ما كتبه سعيد عن المنفى، خصوصاً في كتابَيه «تمثيلات المثقّف» (1994) و«تأمّلات في المنفى» (2000)، تغيّر تعريف المنفيّ نفسه. فلم يعد هو من يتكبّد بصورة سلبية ألم الانفصال والفقد، بل هو هذا الذي يعيش نزوحه باعتباره تحدّياً ويجد السبيل إلى تحويله إلى وجودٍ فعّال. تجربة سعيد الاقتلاعية والتأسيسيّة هذه لا تتلخّص في مكان ولادته المُصادَر منه فقط، بل هي تغتني بعودته إلى العالم العربي بعد هزيمة 1967، حيث شهد «أيلول الأسود» في 1969 بأمّ عينيه، وتعاطف مع المقاومة الفلسطينية وساعد قيادتها في التفكير، إلى أن انفصل عن مسارها ورؤيتها لمستقبل فلسطين في أعقاب اتّفاقية أوسلو غير المُقنعة ولا العادلة، فراح يحلّل فخاخ السلام الأميركي ومصادر إخفاقه وخطورته. وقبل ذلك بسنوات كان قد وضع كتابيه «قضيّة فلسطين» (1979) و«تغطية الإسلام» (1981) مُستهدفاً بنقده تلك «التنميطات» الزائفة التي تلجأ إليها وسائل الإعلام الغربية حين تتناول موضوعات الإسلام والشرق. بشغفٍ بالتفاصيل الدالّة والموضوعة دوماً في مكانها الصحيح من تجربة مديدة، فكراً وكتابة، يكشف حديدي أيضاً عن السخاء الذي لطالما أبداه سعيد تجاه كتّاب الشرق، فلسطين بخاصّة، لا بل حتّى تجاه كائنات بسيطة وتجارب فرديّة يقبض هو على وجوه فرادتها ودلالتها على الشأن العامّ، فيقترب منها بتواضعٍ ورغبة ملحّة في المعرفة. هكذا لم يكتب فقط دراسات فذّة في تجارب مُبدعين عرب من أمثال نجيب محفوظ والطيب صالح ومحمود درويش، بل أبدى أيضاً انتباهاً سخيّاً إلى عشرات الأشخاص «العاديّين»، ترك عنهم جملة «بورتريهات» أو صور قلميّة آسرة، سواء في سيرته الذاتية، أو في الكتاب الجميل «بعد السماء الأخيرة: حيَوات فلسطينيّة» (1983)، الذي ينطلق من صور فوتوغرافية لفلسطين وأهلها وضعها المصوّر الفوتوغرافي السويسريّ من أصل ألماني جان موهر خصّيصاً لتعرض بمناسبة «المؤتمر الدوليّ حول فلسطين»، الذي أقامته يومها منظّمة الأمم المتّحدة، ورافقها سعيد بانطباعاته وتعليقاته، ذاهباً في نصوصه إلى ما هو أبعد من مجرّد التعليق على الصور. تأثير حاسم في كتاب حديدي هذا نُحيط بتعدّد مصادر سعيد الفكرية، من الروائيّ كونراد الذي أشرنا إلى انسحاره به وإلى كونه رأى فيه الناطق بلسان الإمبريالية الغربية وفاضخها عبر أدبه في آنٍ معاً، إلى المفكّرَين الإيطاليَّين فوكو وغرامشي، فالهنغاري لوكاش، فالألمانيّين أورباخ وأدورنو، فأعمدة الفلسفة الفرنسية ما بعد السارترية، الذي كان هو مِن أوّل مَن قدّموهم إلى الثقافة الأميركية وعرّفوا بأفكارهم. محور آخَر ينبغي التأكيد عليه بين محاور هذا الكتاب المتعدّدة والمتكافلة هو هذا الذي يتمثّل في الإبانة لا فقط عن آثار سعيد بمعنى كتبه وأعماله، بل كذلك عن تأثيراته الحاسمة في الفكر المعاصر. ينوّه حديدي بتيّار فكريّ «انشقاقيّ» جديد يتغذّى من عمل سعيد ويوظّف مقولاته وأطروحاته وتطبيقاته. وبالتضافر مع شرح حديدي نفسه ومقدّمته الواسعة التي تشكّل أحد أمتع العروض الفكرية لتجربة سعيد بكاملها، تأتي دراسة ستيفن هاو المترجمة من قبل حديدي والملحقة بهذا الكتاب لتتوقّف عند مفاهيم وإجراءات فكرية فعّالة اجترحها سعيد، وكان لها ولا يزال بالغ الأثر، من مفهومه عن «النظرية المترحّلة» إلى «القراءة الطّباقيّة»، فتشخيصاته الجديدة والحاسمة لآليّات الاستشراق الفكريّ والأدبيّ، ولشخصية المنفيّ الأنموذجيّة ومهامّ الناقد الفكريّ الجديد. لا غرابة والحالة هذه أن يكون سعيد قد حظي بشهادات فذّة من كبار الكتّاب والمفكّرين يقدّمها حديدي في ثنايا دراسته، من الياباني كنزابورو أوي (الحائز على جائزة نوبل للآداب) إلى الأفريقية الجنوبية نادين غورديمير (الحائزة على نوبل للآداب أيضاً) فالروائيّ الهندي بالإنكليزية سلمان رشدي. منتخبات دالّة لا يكتفي حديدي بدراسة أعمال المفكّر الراحل من حيث تصاعدها وتعدّدها وتكافلها، بل يُضيف إليها في القسم الثاني من الكتاب ترجمة لنماذج منتخبة من كتاباته يرى أنّها «تعكس طرائقه في ممارسة النقد النظريّ والتطبيقيّ، في ميادين متقاطعة». ثمّ يدرج في ملحق أوّل ترجمته لدراسة عن سعيد سبق أن أشرنا إليها، كتبها بعد رحيله أحد أفضل محلّلي أعماله في نظر حديدي (الأكاديميّ البريطانيّ ستيفن هاو:«إدوارد سعيد، المسافر والمنفى»)، ثمّ، في ملحق ثانٍ، نصّ حوارٍ مطوّل أجراه حديدي مع المفكّر الراحل في العام 1994. المختارات المذكورة من كتابات إدوارد سعيد النقدية تتمثّل في أربع مقالات تكشف بحدّ ذاتها عن تنوّع اهتمامات سعيد وقدراته التحليلية والأسلوبية. ففي مقالته «محمود درويش: تلاحم عسير للشعر والذاكرة الجمعيّة» يشير سعيد إلى سرّ الإبداع الخاصّ بالشاعر الفلسطينيّ، والذي لا يملكه في نظره إلّا القلّة من الشعراء الغربيّين من أمثال ييتس وولكوت وغينسبرغ، «ذلك المزيج النادر الآسر الذي يجمع بين الأسلوب السحريّ التعويذيّ الموجّه للجماعة وبين المشاعر الذاتية المصوغة بلغة أخّاذة لا تقاوَم...». أمّا مقالته «احتفاء براقصة شرقية: تحيّة كاريوكا» فتشكّل دراسة مستفيضة في سيرة الفنانة وتصوّرها لفنّها (وقد قابلها سعيد غير مرّة). بصورة مفاجئة لمن لا يعرف هذه الفنانة، يكشف لنا سعيد لديها عن فكر متفتّح ووعي سياسيّ ومتابعة يقظة للأحداث. أمّا تحليله لفهمها لصنْعتها كما يتجسّد في طريقتها في تطويع جسدها وتحويله إلى أداة فنّية بعيداً عن كلّ ابتذال فيشكّل أنموذجاً في دراسة الرقص فنّاً وإلهاماً ومُعايَشة. وفي المقالة «ميشيل فوكو: فيلسوف المعرفة التي لا تكلّ » يعرض سعيد آثار الفيلسوف الفرنسيّ بتفصيلٍ وشغف، ويُرينا أنّ تأثيره الكبير متأتٍّ من كونه صاحب هذا الذّهن «العظيم والأصيل» الذي يقوم «بإنتاج عمله وإنتاج نفسه في آنٍ معاً». وفي «متاهة التجسيدات: موريس ميرلو بونتي»، يقيم سعيد تمييزاً حاسماً بين طريقتي سارتر وميرلو بونتي في استثمار الموروث الظاهراتيّ وفكر هوسرل بخاصّة. كان سارتر يؤكّد أنّنا «محكومون بالحريّة»، وميرلو بونتي يرى أنّنا «محكومون بالمعنى». معنى راح يتقّصى مساهمة المعيش واللّغة والجسد نفسه في استجلائه. في المحصّلة، يدلّنا حديدي باقتدار وأمانة على تكافل أعمال المفكّر الراحل، وعلى كوننا نغنم كثيراً إذ نقرأها باعتبارها وحدة واحدة. ولئن امتنع سعيد بتصميم وعن إرادة عن أن يخلع على أسلوبه مزايا التعبير الأدبيّ فلا يمكن أن يغفل القارئ عن ملاحظة ما في كتاباته من متانة وحيوية ترفعانه بلا شكّ إلى مصاف أبرع الكتّاب والأدباء.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©