الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أغاني العبور نحو الشمال

أغاني العبور نحو الشمال
25 يوليو 2018 20:12
الشمسُ في كل مكان، إلا أن الريح الباردة تأتيك بقوة الشمال، تحبسَ أنفاسكَ وينتفضُ منك العبور الرقيق الساهي نحو الشرق. في كل التفاتة، بحثاً عن دفء المكان، ينتابك شعورٌ أزلي بالألفة المعهودة للتاريخ الإنساني، إلا أن حضارة التجربة اللحظية، تهديك عمراً من اللقاءات، وأزمنة طويلة من التكوين الفكري والوجودي. الوقوف أمام بوابة مطار نيوكاسل الدولي في صيف بريطانيا، أشبه بالصعود إلى قمة جبل وانتظار الغسق، لالتقاط كل التفاصيل، وتسجيل الفضاءات المتباينة للفراغات بين نغمات الطيور الهائمة على الجسور الممتدة فوق نهر تاين وبقايا جدار مدينة نيوكاسل الدفاعي، العائدة للقرون الوسطى. من النظرة الأولى لأرضية الشارع والأرصفة الجانبية، يتكشف المزيج المتناغم بين رغبة التغير الدفينة، والحاجة إلى الاحتفاظ العميق بمسيرة التشكل عبر قرون من الزمن تعكسها آثار الرومان، ويجسدها مركز ومسرح «سايج غيتسهيد» الموسيقي، الذي شهد الاحتفالية الأبرز لأهم المعارض الفنية في شمال بريطانيا وهو: معرض (العظيم من الشمال - Great Exhibition of the North). هذا المعرض الذي عزف فيه الشماليون، كما يلقبون أنفسهم؛ روح موسيقاهم المتعددة، بحثاً عن ذاتهم المغمورة.. فعلوها بإتقان يوازي عنفوان فرقة البيتلز الشهيرة في مدينة ليفربول، وحس النحات (جوناثان نيوديك -Johnathan Newdick) وهو يعيد بلورة منحوتات القطط على أبنية مدينة يورك القديمة، في الثمانينات، امتداداً لإثراء هوية مدينة مانشستر، بتحويل قلب المكان إلى رقصة أبدية، تساند حضور حق المرأة في العالم، عبر مشروع «مدن الأمل» ورسم صدى صوتها عبر جداريات في الساحات والأماكن العامة. لذا فالعبور نحو الشمال.. ما هو إلا مغامرة لسرد ألف حكاية.. تبدأ جميعها بأغنية! أغنية «الدهر» أتحسس بأقدامي الطريق نحو جسر غيتسهيد ميلينيوم في مدينة نيوكاسل أبون تاين. انتقل بين خطوة وأخرى، كأصابع عازف بيانو يميل بيديه على مفاتيح المقطوعة، متخطياً شروحه الاعتيادية إلى منحى ارتجالي طفيف.. وبتتابع رقيق أرفع رأسي باتجاه الظلال الهلالية، بعمر القمر في العرجون القديم، لأقيس مجازياً مدى حركة الميلان القصوى التي يمكن للجسر أن يتخطاها، ليطلق عليه أهل المدينة بذلك: «جسر رمشة العين». هذا الاسم الذي يشي بمعنى الاغمضاض العفوي الآني للتغير، عبر عنه المؤلف الفني مارتن غرين، على طول نهر تاين، بتصميم صوت لا نهائي مستمر أبد الدهر «AEONS : A sound journey for Newcastle»، يقف بالجانب اللصيق للجسر، ليستقبلك بابتسامة متناغمة، ويقدم لك سماعة للأذن، لتنضمّ لاحتفالية التجلي التاريخي للمكان. وبين عراقة الهندسة المعمارية للمدينة، وعلى طول امتداد النهر، تعيش ما يقارب الـ 40 دقيقة، في موجة مباغتة لصوت القصيدة وسيمفونية رحلة تحول مدينة نيوكاسل التي عبر فيها مارتن غرين عن التدفق الذي ولدوا منه، مشيراً إلى النظر نحو جهة اليسار حيث النهر، أما جهة اليمين فصنعة الحضارات المصقولة بالصلب والنسيم الجارف لـ تاين، وتكوين الطبقات الحياتية التي يرتفع صوتها، وأحياناً قد يتحول إلى ضوضاء، مقدماً مؤشراً لحياة أسرع، بينما الوقت يقصر، ويصبح تحديد المكان أكثر صعوبة، ولكن مارتن غرين يؤمن بروعة جعل كل هذا الحراك يسير على نحو أبطأ، ليهدينا نجوى مجددة للتأمل، جسدت بعضاً منه المغنية بيكي أونثانك. عند الوصول إلى ممر كهفي صغير، يصدح صوت من «أوبرا الشمال»، التي تعاونت مع مارتن، لتنير أفق التكوين الفني للمكان. بينما تحمل أكتاف الممشى على طول النهر أشجاراً وزهوراً تعيد توجيه عطر مسارات الرياح البعيدة، وتهتز اللحظة، أخيراً، بصدى سيمفوني عند آخر جسر في الامتداد النهري، معلنةً عن احتمالات عديدة تشبه «اليوتوبيا»، ورؤية جوهرية لكل ما هو قادم. عشق تحويل مدينة نيوكاسل في شمال شرق بريطانيا إلى مقطوعة موسيقية، لم يكن استشفافاً خاصاً بالمؤلف الموسيقي مارتن غرين وحده، بل إحساس متكامل من أُناس المدينة، ليتجذر في المكان من خلال خلق جوقة جماهيرية، مشكلاً أولوية مطلقة لمعرض (العظيم من الشمال) الذي تناولت مساراته الأساسية فعل التصميم والإبداع والفن والابتكار، كما أشارت سارة مونرو، مديرة مركز «baltic» للفن المعاصر، ضمن شراكتهم الاستراتيجية في المعرض. وجاء تأسيس إدراك ماهية «صوت الشمال»، بحسب مونرو، دعامة مفصلية في البحث الفني للمعرض من خلال طرح سؤال: ما الذي تعتقد بأنه يمثل صوت الشمال؟، مبينة أن الاستجابة عكستها آلاف التفاعلات اليومية للجماهير، واستقبلها الفنانون والمصممون الموسيقيون، معبرين من خلالها عن توجهات مختلفة، لما يعتقدون أنه صوت المكان، ما نتج عنه إحدى مشاريع معرض العظيم من الشمال، وهو مشروع «protomusic#1»، للفنان مارك فيل، الذي خلق علاقة تلاحم مباشرة مع الزائر عند دخوله إلى مركز ومسرح «سايج غيتسهيد» الموسيقي، واضعاً نحو الـ 64 مكبراً للصوت تم تعليقها بمستويات متباينة على النوافذ الزجاجية للمركز، لتتوازى الرؤية البانورامية للمدينة مع أصوات المدينة الحيّه التي تم تصمميها في المشروع. قال وقتها الفنان مارك فيل، الجمال في بريطانيا يكمن في التعدد الثقافي، ففي كل صوت وصلنا، هناك حس متفرد، أكمل بدوره النغمة الموسيقية للكل، والتي تجعلنا نقف أمامها اليوم. ونستشعر بتناغمها المتوحد. استمرت سارة مونرو، تشاركها أبيجيل بوغسون، المدير العام لمركز ومسرح «سايج غيتسهيد» الموسيقي، في التأكيد على بعد الوعي بروح المدينة، والتعرف عليها، كموجة متفردة ضمن سيمفونية عالمية، والانتقال بالمدرك الموسيقي إلى اللغة البصرية التي ترجمها معرض العظيم من الشمال بتقديمه فيلم بعنوان «جسور»، لـ إد كارتر وكاتي سيمونز ونوفاك، مَن عبروا فيه عن النبض الذاتي لشخصية كل جسر وحواره المفتوح مع بحار وكلبه يقطعون النهر بقاربهم البحري وتستوقفهم الممرات الجسرية. بجدلية موسيقية رهيبة، ساهمت «Royal Northern Sinfonia»، في إضفاء سمة شخصية لكل عناصر الفيلم، لتبقيه في نطاق السرد الروائي للرسوم المتحركة السينمائية، المستمرة في التلويح للمجرى التاريخي، مثل الرسومات الفنية على أسقف مدخل مسرح الرويال في وسط مدينة نيوكاسل، بسجاده الأحمر ونوافذه الملكية الطويلة، التي تتيح لك رؤية نصب غراي التذكاري الشهير، الذي يبلغ ارتفاعه (130) قدمًا (40 مترًا)، وما أن تتجاوزه سيراً على الأقدام، تُنشيك الموسيقى في الزوايا، وبالأخص الآلة النفخية لرجل من نيوكاسل جلس في رواق «The Central Arcade» الأنيق، الذي بني في عام 1906، وهو يعزف بكامل جسده الهادئ؛ ففي منتصف إحدى مقطوعاته، جاءت ابتسامته كإيقاع متمم لفعل النفخ في الشريان الرئيسي للآلة الموسيقية. عند اقترابنا من مساحة تفاعلية بالقرب من متحف الشمال العظيم «The Hancock Museum» بصحبة راشيل كيرشو، المدونة الرسمية لمعرض العظيم من الشمال، أوضحت مدى أثر مجتمع المدونين في شمال شرق بريطانيا، وكيف أنهم على اتصال دائم، ويشكلون فضاءات مغايرة من التكوين التفاعلي الاجتماعي. وعند الوقوف للتعرف على فعاليات المعرض في المتحف، تحدثت راشيل كيرشو قليلاً عن هيلين باتريشيا شارمان، وعن احتفاء المتحف بـ (زي أول رائدة فضاء بريطانية)، لترجع بنا الذاكرة لحظتها إلى البوابة السوداء، وملامسة «نيوكاسل القديمة». وبين زمنين مختلفين، وقفنا لتجربة آلة روائية ساحرة في منطقة بيكر، سردت قصة خيالية كتبها ديفيد ألموند، تموضعت تحت الأشجار، في مجتمع إبداعي متناغم. المضي بين أزقة مدينة نيوكاسل الضيقة، يستدرج الزائر لاستكشاف بقع الضوء اللافتة على جدران الماضي العريق، خاصة الطريق الموازي لأقدم حانة في مدينة نيوكاسل، «Old George Inn» العائدة إلى القرن الـ16، حيث عُلقت الشرائط الملونة بين فراغات الأزقة الزمردية، بنفحة الليالي الشتوية الطويلة. وبالوصول عند نقطة التجمع بالقرب من مكتبة مارجوري روبنسون اللصيقة ببيت الشاي، جاء النداء من «Visit Britain» القائمين على هذه النزهة الثقافية الفسيحة لتاريخ المدينة، بالمضي سريعاً قبيل غروب الشمس لأعلى تلة بمنطقة لاوفيل جنوبي المدينة، لرؤية منحوتة ملاك الشمال الفولاذية للنحات البريطاني أنتوني غورملي، بوصفها «أيقونة إنجلترا».. حالفنا الحظ باحتضان أولى الخيوط البرتقالية والحمراء الملامسة لزرقة السماء الصافية الدافئة، حيث تبزغ المنحوتة بطول (20) متراً ارتفاعاً وبجناحين طولهما (54) متراً، على هيئة استعداد مدهش للتحليق. الابتعاد عن مجسم المنحوتة بعض الكيلومترات يتيح للمشاهد التخيل السرمدي في أن يكون الفراشة الصغيرة المراقبة لهذه الضخامة الجلية على الروح، وأن لكل ذلك الاتساع الكبير حضوراً إبداعياً طفيفاً بوعي إنساني متفرد. أغنية «قطة المداخن» كُنت أمرر قلبي على ظلال منحوتة «رجل يمشي» ضمن مجموعة {Man with Potential Selves}، للفنان سين هنري، في اللحظة التي رن فيها جرس الساعة بالقرب من محطة سكة حديد نيوكاسل. تركت فعل تأمل خطوات أقدام المنحوتة التي تركزت على صياغة مرئية لرجل يمشي وسط المدينة. ورغم تجذر التحامه بالأرض إلا إنه مثَّل التجاوز المادي لزمنية اللحظة القريبة من فعل الفوتوغرافيا، في قدرتها على حبس أنفاس الطاقة في هالة جمود. تركتُ تلك الدهشة لحظتها، ومشيتُ كما شاءت الأقدار إلى الاتجاه المعاكس، وفي مونولوج داخلي رقيق، ابتسمت لأقدار الرحلة الجديدة إلى مدينة «يورك» البريطانية، وأفرغت فضاءات شاسعة فيّ، استعداداً لمرور الضيف الشعوري والحسي والحدسي كذلك. الصعود للقطار والجلوس بقرب امرأة إنجليزية تحتسي الشاي، أمرٌ مثير للفضول، فاحتساء الشاي يعتبر بالنسبة لها فعلٌ يرتقي للتقديس، حيث تتعامل مع هذه الأوراق الوليدة من رحم الغابات الماطرة، باحترام دقيق، ترتشفها بكميات قليلة، ببطء، وبسكون هادئ، تحت شعاع الشمس الذي اخترق زجاج نافذة القطار. مرت ثواني وأنا أراقب، ثم ملت برأسي نحو كتاب «قرابين الغناء» لـ رابندرانث طاغور، الموسَّد بين يدي ـ رفيقاً للسفر ـ وصلت عند الصفحة الـ 84، وقرأت ترجمة للعربية قدمتها الأديبة والشاعرة الإماراتية ظبية خميس : «لا أعرف إذا ما كنت سوف أعود إلى بيتي. ولا أعرف من الذي سوف أصادفه في الطريق. هناك على حافة القارب الصغير الرجل المجهول يعزف الناي». يورك؛ مدينة دافئة في الصيف، تتيح لك الوقوف على جسرها المطل على نهر آوز، والتغني بصوت التموجات المتباعدة من حركة يخت صغير على مقربة من نفق الجسر. الناس يتمددون على المساحات الخضراء في الحدائق العامة بكل أريحية. حركتهم بطيئة في التكوين والتجلي. تستشعر أن النهار طويل وكل شيء يأخذ حقه في المتعة اللحظية، بعكس وتيرة المدينة المفجعة في كثير من الأحيان، تشيخ فيها قبل الآوان. الأجمل من هذا كله، أن الهدوء يفتح آفاق السؤال عن أصغر الأشياء وأكثرها تأثيراً، كمنحوتات القطط التي تجدها منتشرة في مدينة يورك، فوق سطوح المباني، أو معلقة على المداخن، والتي ساهم الفنانون في استمرار حضورها التفاعلي، مع الهندسة المعمارية، مقدمين هوية متفردة للمدينة. وتعددت المزاعم والمعتقدات حول منحوتة القطط، من بينها أنها صممت قديماً لإخافة القطط القريبة من النهر. والجمالية في الفعل الفني ككل، مستوى الحوار الذي يمكن أن تثيره المنحوتة مع الزائر، سواء في البعد الاستكشافي أو البعد الجمالي. بالمقابل فإن الأشياء الكبيرة في مدينة يورك، كما هي الحال مع كاتدرائية يورك الضخمة، التي تعد من بين أكبر الكنائس في العالم، وسحرها المعماري، الذي لم يطغ على حضور بقايا جدران دير سانت ماري، فالوقوف بالقرب من تلك الآثار، يهديك بانوراما تاريخية، لهيبة الدمار وقوة الرغبة الدفينة بالبقاء، والجميع فيها ينسجم في هارموني موسيقي لحضارات ممتدة للمدينة، تسمح للعابرين بالانضمام إلى الاحتفالية التاريخية دونما تردد أو غموض. أغنية «البيتلز» شعرت بانحناء جزئي لأكتافي، تماماً كوقفة المغنى الإنجليزي رونالد ويشرلي، المعروف باسمه الفني بيلي فيوري، في منحوته تجسد شخصه أنجزها الفنان توم مورفي.. بل واجتاحتني رغبة مباغتة بالقفز والدوران على رجل واحدة، لأدرك وقتها أني في احتفالية كلية، لا تستدعي الموسيقى بشكل فيزيائي مسموع، لأن كل شيء فيها عبارة عن كتلة نغمية. الانصات فقط إلى صوت الـ العبّارات الطافية فوق نهر ميرسي، تجعلك تتيقن أنك في «ليفربول»، المدينة المعجونة بالموسيقى وعشاق كرة القدم، فالأخير يعد المدخل الأساسي في حوارات عامة قد تدخلك إلى عالم الأحاديث الودية مع أناس ليفربول، منهم سائق التاكسي، كان يكفي أن أسأله عن صحة اللاعب العربي المصري الشهير محمد صلاح، بعد وعكة صحية أصابت كتفه أثناء مباراة قاد فيها النادي في مواجهة نادي ريال مدريد العريق، لأحصل على اهتمامه السريع، لأنتقل بذلك إلى مواضيع مختلفة منها: كيف تغيرت ليفربول في آخر 10 سنوات؟ المثير أن الإجابة أتتني، بشكل رصين، من فيونا فيلبوت مديرة معارض في المتاحف الوطنية ليفربول، وهي تتحدث عن معرض «الإمبراطور الأول للصين ومحاربو التراكوتا» الذي أقيم في «متحف العالم» في ليفربول، مشكلاً نقلة نوعية في عجلة الصناعة المتحفية في مدينة ليفربول، حيث أكدت أن تفرد المدينة، باحتضان مقتنيات تفصيلية لـ ضريح الإمبراطور الأول في الصين، وبالأخص التيراكوتا المعروفين بجيش الطين، الذي أمر الإمبراطور ببنائه ليتم دفنه معه عند موته، والذين تم اكتشافهم في شمال غرب الصين في عام (1974)، ساهم في إلقاء الضوء على ليفربول، باعتبارها فضاء عالمياً يلتقي فيه زوار المتحف من مختلف دول العالم وأوروبا إلى جانب إنجلترا، للتعرف على حضارة يتجاوز عمرها (2000) سنة. من جهة أخرى، فإن الحدث يعزز الدور الاقتصادي والاستثمار الحيوي، القائم بين الصين وبريطانيا. قصة الإمبراطور الصيني الأول مثيرة حد الجنون، فمن بين ما حرص عليه الإمبراطور أن يتم بناء تماثيل الجنود الطينية بشكل متفرد، كل جندي له ملامحه التي لا تشبه أبداً الجندي الآخر، أما الأغرب فهو الهدف من بناء هذا الجيش الطيني والمتمثل في تحصين الإمبراطور في الحياة الآخرة، أو ما بعد الموت بحسب الاعتقاد!. وأوضحت فيونا فيلبوت، أن المناقشات مع الجانب الصيني امتدت فترة طويلة، وتناولت الاهتمام بالمعايير التي تطلبها الصين في حالة قبولها بنقل المقتنيات إلى بريطانيا، ومن أثقلها تمثال حصان الإمبراطور. المفارقة المتحفية المذهلة في ليفربول، أنه في مقابل معرض حول الموت والولادة، تم في «متحف ليفربول» تنظيم معرض «Double Fantasy» الفني، وهو عنوان لألبوم أصدره الفنان المشهور جون لينون وزوجته يوكو أونو، وهو المعرض الأول الذي يعبر فيها الفنانان عن أبعاد قصتهما، وكيف أنه بقوة السلام تم إحداث التحول في حياة شخصين وفي الثقافة الموسيقية للأبد. امتاز المعرض بثراء حسي وعاطفي عميق. كل الكلمات التي كتبت باليد، والصور الفوتوغرافية، والفيديوهات العفوية كتلك التي ظهر فيها الزوجان في عرض لأغنية «تخيل»، شكلت مقطوعة موسيقية لها أبعادها الروحية والنفسية والفكرية؛ ففي إحدى مقولاتها الحاضرة في المعرض تقول الفنانة يوكو أونو: إن الحلم الذي تحلمه لوحدك هو فقط حلم، ولكن الحلم الذي نحلمه سوياً هو الواقع. عند مشاهدة مسودات كلمات الأغاني التي كتبها الفنان جون لينون، تستوقفك الخطوط العرضية المستخدمة في شطب أسطر الأغاني غير المرغوبة أو التي تم إلغائها من المقطع الموسيقي المكتوب، فهي توحي لك بآنيّة المحاولة الشعرية عبر القصيدة الغنائية، كما في مسودة كلمات أغنية «In my life»، والتي وازت في جماليتها جمالية مشاهدة آخر آلة بيانو تعلق بها الفنان جون، والموجودة في متحف «The Hancock Museum» في مدينة نيوكاسل. يخبرك المتطوعون في المتحف، عن العشق المتبادل بين جون والبيانو مرجحين أن السبب ربما يعود لكون هذا البيانو بالذات مفتوحاً بالكامل، ولا يوجد غطاء يحد من وصول الصوت إلى قلبه. وفي الجانب الآخر، يحتفي متحف «قصة البيتلز»، بالمعرض الدائم المخصص لكشف حياة الفرقة ولحظة إعلانها التوقف نهائياً، وهي المساحة الأكثر تفصيلاً لأفق مسيرتهم، بدءاً بتسلسل الاهتمام الإعلامي الذي لاحظ حركتهم الموسيقية، وانتهاءً بتجسيد المعرض الدائم للبيئة الموسيقية والاجتماعية التي عايشتها الفرقة. ففي متحف «قصة البيتلز» وقفت مطولاً للاطلاع على الأجواء الصحافية لتلك الفترة، لما لهذه اللحظة من تناص مع ما أمارسه في هذه المرحلة من عمر الكتابة الصحافية، جلست أراقب الطريقة التي علق بها الصحافيون المنشورات الخاصة بالفرقة، ومجموعة الأسطوانات الموسيقية، وآلة الكتابة التقليدية، وتخيلت حجم الدخان الصاعد من سيجارة أمام كوب القهوة المتموضع على مكتب التحرير. وهذا يفسر احتفاظي بنسخة ورقية لمجلة «bido lito» المعنية بتغطية الفعل الإبداعي والموسيقية، في مدينة ليفربول، حيث ناقش الغلاف قصة الفنان «MC NELSON»، الذي تحدث عن صناعته للموسيقى من منطلق السؤال المنبعث عن حياته. أغنية «شجرة الأشباح» الركوب في عجلة ليفربول الدائرية، تنقلك إلى عوالم المدينة بأسرها، ممثلةً في نظرة من السماء. أثناء توقف العجلة الدائرية لدقائق معدودة في أعلى نقطة لها، تعيش دهشة التماس بين مدينة ليفربول ونهر ميرسي الممتد من خليج ليفربول. وبينما يتحرك في موجة دائرية كاملة، تشعر أنك في سفر عبر الزمن، قد يوصلك إلى مدينة «مانشستر» التي تتجنب فيها الحديث عن نادي «ليفربول» لكرة القدم، كونه الخصم الكروي اللدود، لذلك تفضل الاستمتاع بتلك اللوحات الجمالية على طول مباني مانشستر، المطالبة بحقوق المرأة حول العالم. تبدو المدينة أكثر انتعاشاً في محركها الاقتصادي، على رأسها الاستثمار العقاري ودخول الأموال الأجنبية، وسرعة الإقبال على التغير، توازيه عجلة الفنون كإحدى الروافد وأوجه الهوية الرئيسة للمدينة التي تفرض حضورها الثقافي، والمتعة البصرية في كل زاوية وشارع. ومن خلال زيارة عابرة لمكتبة مانشستر المركزية، تتلمس أبعاد تاريخية المكان، وأثره في المحصلة المعرفية. هدوء المكان المليء بالطلبة الدارسين، يعكس لك مدى الالتزام بين العلاقة التعليمية والتفاعل الجمعي مع المكان، الشبيه بالعشق السرمدي للفنون الأدائية التي تحتفي بها مدينة مانشستر في مسرح «ذا لوري»، ومن بينها العرض الخلاق لمسرحية «War Horse». ؛؛؛ بينما كان ثوم هارتنجتون المدير التنفيذي لـ «Buy Art Fair»، أكبر المعارض الفنية في شمال إنجلترا، يتحدث في غاليري «ويتورث الفني» بمدينة مانشستر، عن العاملين الأساسيين في تشكيل بيئة فنية تفاعلية لبناء المجتمعات، وهما: بناء «الثقة» وإثارة «الفضول» لدى الجمهور باستمرار، كنتُ أفكر حينها بالطريقة التي أُلهمت بها الفنانة أنيا جالاتشيو، وهي تستكشف مواضيع «الخسارة» و«الذاكرة» و«الحضور الجسدي» في كل من الطبيعة والهندسة المعمارية، وتحديداً ما صممته في غاليري «ويتورث الفني» ـ موقع إجراء المقابلة ـ مترجمة رؤيتها من خلال حادثة موت إحدى الأشجار المحيطة ببيئة الغاليري إبان أعمال توسعة البناء الجديدة للمكان. فقد لاحظت أنيا في زيارة لها للمكان تلك الفجوة الملحوظة التي تركتها الشجرة، ما جعلها تعمد إلى دراسة البيانات لإنتاج منحوتة تعتبر أشباحًا للشجرة الحقيقية، دون أن تكون نسخة متماثلة، صممتها الفنانة من الفولاذ المقاوم للصدأ، وأطلق عليها أُناس مانشستر: «شجرة الأشباح»، ليحفزني مشهد انعكاسها عبر النوافذ الزجاجية للغاليري، لسؤال ثوم هارتنجتون عن مؤشرات قراءتهم للبيئات الفنية وأسواقها في شمال إنجلترا عموماً وفي مدينة مانشستر على وجه الخصوص؛ ليؤكد أنهم يسعون دائماً لبناء المجتمعات الفنية، وتوسيع أنماط الذائقة الجماهيرية للفنون، من خلال إتاحة الفرصة للجمهور للتعرف إلى مسارات فنية جديدة، قائمة على وعي وفهم لمستوى اهتمامات الجمهور نفسه، فالسوق بطبيعته لا يحتمل فقط ما تحبه وترغبه أنت فقط، كمنظمة أو مؤسسة أو شركة، بل إن دورك كمنصة تفاعلية أن تسعى إلى فتح نطاق التداول الفني بكل مستوياته وأنواعه. وتتضمن الآليات المنهجية في هذا الأمر، أن تجعل الفرد أكثر ثقة في ممارسة تجربته لتذوق الفنون المختلفة، وهي عملية تحتمل مسألة تعليم الناس. وأضاف ثوم هارتنجتون أنه في شمال إنجلترا، يمكنك ملاحظة التغير والتحول بشكل دقيق، بمراقبة دائمة للتحولات المستمرة. هناك نقلات حقيقية، وفعل ديناميكي للحراك المجتمعي في مدينة مانشستر، على سبيل المثال، ألقى بظلاله على حياة الناس، والاستثمار النوعي، الذي من شأنه أن يخلق فرصا متنوعة تدعم طريقة إنماء الجماهير، والتي تعد مختلفة تماماً عن سنوات سابقة. في آخر اللقاءات الصحفية، في هذه الرحلة النوعية لاكتشاف شمال إنجلترا، وفي مدينة مانشستر، استقبلنا بنيامين مكنايت، المدير الإعلامي لـ مهرجان مانشستر الدولي، للحديث عن مشروع «The Factory» المصنع الذي سيشكل فضاء ثقافياً عالمي المستوى يتم تطويره في قلب مدينة مانشستر، وذلك بناء على نجاح مهرجان مانشستر الدولي (MIF)، حيث سيقدم أهم الفنانين لجمهور يصل عدده إلى نحو الـ (850،000) شخص سنويًا، من جميع أنحاء المدينة، وكذلك على المستوى الوطني والدولي. ولفت أنه في مساحة تقدر بـ (13.500) متر مربع، يشكل المصنع مرونة واسعة النطاق تسمح بإنشاء عمليات الاختراع والابتكار في مجالات الرقص والمسرح والموسيقى والأوبرا والفنون البصرية والثقافة الشعبية والعمل المبتكر المعاصر والتكنولوجيا، وسيدير المهرجان الذي يقام كل سنتين، فضاء المصنع ضمن برنامج متنامي يتركز على الكشف عن الطاقات الإبداعية والعثور عليها في جميع أنجاء المدينة. أغنية «العبور» العودة إلى الإمارات، كانت مليئة بالأسئلة، بعد رحلة صيفية ثقافية إلى شمال إنجلترا، في رحلة العبور إلى الفضاءات اللانهائية، تستيقظ فيك التجربة اللحظية، لاكتشاف ما يمكن إثراءه في المكان، فالسفر عبر الحضارات، توسع نطاق رؤيتك الداخلية، لمقدرة الفرد على التغير، أو فهم القبول الواعي لماهية الواقع، واستدراجه إلى بناء فضاءات ترشد الآخرين إلى مسارات جديدة يساهمون في خلقها وإعادة إنتاجها، وربما ما كان الأكثر تأثيراً عليّ، هو تحملي المسؤولية الجمالية في إيصال البعد الآخر للمكان، والذي من شأنه أن يؤثر في إدراك القارئ لمعنى «التجربة» في الفعل الثقافي والفني عبر الترحال بين المدن المجنونة بالموسيقى والأدب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©