الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العالم يستعيد سحره.. الغامض

العالم يستعيد سحره.. الغامض
25 يوليو 2018 19:58
زوال السحر عن العالم Le désenchantement du monde واحد من المفاهيم العريقة في السوسيولوجيا، كان ماكس فيبر هو أول من نحته سنة 1917، وكان يعني عنده تراجع الرؤية الدينية والتفسيرات السحرية والإحيائية، أمام الرؤية العلمية التي تنظر لظواهر الطبيعة باعتبارها خاضعة لقوانين عقلية علمية محددة. بطريقة أخرى يشير المصطلح إلى انتصار التصور الدنيوي في مقابل التصور التقليدي الذي بات شيئاً من الماضي. كما يدل أيضاً على انهيار مركزية الإنسان على جميع المستويات. العديد من المفكرين رأوا أن ضياع هذه النظرية القدسية واللدنية تجاه الطبيعة هو ما أدى إلى تخريبها، وإلى اعتبارها مجالاً مستباحاً للإنسان يسخّرها حسب رغبته وإرادته. كما أن ضياع مركزية الإنسان أدى إلى أزمة كبيرة سيطلق عليها فيما بعد «أزمة المعنى». من هذا المنطلق ظهر مفهوم آخر كبديل للمفهوم السابق، وهو استعادة سحر العالم Le réenchantement du monde والذي انطلاقا من موقف ما بعد حداثي ينتقد هذا المآل الحزين الذي انتهت إليه الحداثة والثورة التكنولوجية من إفراغ للعالم من كل معنى. إنه نظرة مشوبة بالحنين للعودة إلى هذا العمق العجائبي للطبيعة وإحياء لعالم ما فوق الحس. كيف يمكننا إذن تجاوز أزمة المعنى هذه، وهل من سبيل كي يستعيد الإنسان مركزيته في الكون؟ ما هي هذه المجالات التي يتم اليوم استنهاضها من أجل استعادة الجوانب القدسية والروحية للعالم؟ زوال سحر العالم يقول ماكس فيبر: «هذه العملية الشاسعة من زوال سحر العالم بدأت مع نبوءات اليهودية القديمة وبالتنسيق مع الفكر اليوناني، والتي رفضت جميع الروابط السحرية لتحقيق الخلاص مثل الكثير من الخرافات وتدنيس المقدسات». هكذا ضمن التقليد اليهودي يدل المصطلح على نهاية الحصول على الخلاص بوساطة السحر وعلى القطيعة التامة بين ما هو مقدس وما هو سحري. إلا أن تطورات المصطلح فيما بعد تجاوزت الحقل الديني حيث اتخذت في القاموس المفاهيمي لماكس فيبر معنى آخر، وهذا بالخصوص مع الثورة الصناعية التي ستمنحه معالمه الأساسية. إن تراجع الهالة السحرية للعالم Entzauberung der Welt كما يسميها ماكس فيبر تعود إلى السيرورة التي قادتها الرأسمالية من أجل عقلنة العالم، هذه العقلنة التي ما كانت لتتم لولا التحول الكبير الذي جرى في منظومة القيم المسيحية.لقد بنت الحداثة الظافرة لحظة ميلادها خلال عصر الأنوار، تصوراً عن الطبيعة باعتبارها مجموعة من البنى والعلاقات القابلة للعد والحساب، وهو ما يعرف بالعقل الحسابي ratio calculator الأمر الذي انعكس بوضوح في مجال العلوم التجريبية التي رأت حسب التعبير الشهير لجاليليو أن: «الطبيعة مكتوبة بلغة الرياضيات لغة المثلثات والمربعات»، وأنه لو افترضنا كما قال لابلاس وجود «مارد» بإمكانه حساب كل الحتميات الموجودة في الطبيعة، فإن هذه الأخيرة ستصبح أمام ناظرينا كما لو أنها كتابا بإمكاننا أن نعرف كل ما خط فيه، وبتالي سيزول كل الغموض والإبهام والسحر الذي كان يكتنف ظواهر العالم. وعلى أي حال رأى ماكس فيبر أن زوال سحر العالم ينتج كذلك عن الانتصارات التي حققتها العلوم بدءاً من عصر النهضة، وإلى غاية الثورة الصناعية حيث تمت الإطاحة تماماً بكل تفسير متعال للطبيعة، ذلك أن السيادة في الأزمنة الحديثة والمعاصرة أصبحت للنظرة العقلانية القائمة على ضبط وحساب كل شيء، وعلى إنكار أي إمكانية لتدخل ما هو خارق في سيرورة الطبيعة. غير أن هذا العالم الذي صوره لنا ماكس فيبر والذي يظل كل شيء فيه قابلاً للضبط والحساب العقلاني والعلمي، هو عالم خال من المعنى ما دام كل شيء فيه مفهوماً وكل ما هو غامض سيصبح واضحاً غداً بفضل مجهودات العلم. المصالحة مع الروح إن أكبر رد فعل طالب بضرورة استعادة النظرة الدينية والروحية اتجاه الطبيعة جاء من داخل العلوم نفسها. فإذا كانت العلوم التجريبية الكلاسيكية اهتمت بدراسة المادة بعد أن تخلّصت من الميتافيزيقا الأرسطية، ولم تهتم إلا بمادة العالم وبالصورة أي الشكل الذي توجد عليه هذه المادة، بينما لم تهتم إطلاقاً بطرح السؤال حول الغاية، وبالتالي المعنى الذي تسعى إليه الطبيعة. والحال، إننا نعاين اليوم مع الفيزياء الكوانطية أنه لكي نفهم الطبيعة علينا أن نتجاوز المادة المحسوسة ونغوص في أعماقها، فاللامرئي هو الذي يسمح لنا بفهم المرئي. لقد أعادت هذه الفيزياء المصالحة بين المادة والروح، الإنسان والكون. العديد من التجارب العلمية في فيزياء الكم مثل تجربة الشق المزدوج وتجربة التشابك وغيرها، تؤكد على أن هناك الكثير من الظواهر التي يستحيل فهمها باعتماد ما يمكن ملاحظته فقط في الفضاء الزمكاني، وإذن هناك حدود يمكن أن تتوقف عندها معرفتنا بالعالم، أي حدود يقف عندها العلم التجريبي العادي لكي يطرح السؤال حول ما يوجد وراء الطبيعة، وهكذا يتم رأب الصدع الذي حدث خلال عصر النهضة بين العلم والفلسفة، ويجعل العلماء أنفسهم يطرحون أسئلة ميتافيزيقية تتجاوز عالم الحس. فالطبيعة المحسوسة لا يمكن أن تفسر نفسها بنفسها، بل لا بد من افتراض وجود عالم آخر يفوق الحس، كما أن قدرة العلم على دراسة وحساب الظواهر الطبيعية، لا يعني أن الإنسان قد استطاع بالفعل أن يفهم كل شيء ويخضعه لإرادته ويضبطه من خلال قوانين العلم. عودة المعنى أصبح مفهوم «استعادة سحر العالم» يحتل الصدارة اليوم في العديد من الأبحاث ليس فقط في فلسفة الدين، ولكن أيضاً في مجال فلسفة العلوم وبالخصوص تلك المنبثقة عن الفيزياء الكوانطية. إن واحدة من أكبر الإشكالات التي ميزت الحضارة منذ الأزمنة الحديثة غياب المعنى، وهو ما عبّرت عنه الفلسفة الوجودية لاحقاً من خلال مفهوم العبث، حيث يبرز الوجود كما لو أنه من دون هدف، وحيث حياة الإنسان وموته مجرد شيء عرضي خال من أية دلالة. لقد عمّقت الحداثة هذا الشرخ فسواء عند ديكارت الذي يميز بين الجوهر المفكر والجوهر الممتد، أو عند كانط الذي يضع (النومين) في جانب و(الفينومين) في جانب آخر، يظهر أنه لا سبيل للربط بين عالم الروح وعالم المادة. صحيح مثلا أن ديكارت استشعر ضرورة وجود علاقة تربط بينهما وهو ما بحثه في مسألة الغدة الدرقية غير أن محاولته لم تكلل بالنجاح. وهكذا هيمن الفكر الثنائي الضدي على أغلب المشاريع الميتافيزيقية الغربية. على العكس من هذا الموقف نعاين اليوم نهاية أزمة المعنى، والعجيب أن هذا الأمر يحدث من داخل المجال الذي كان السبب الأساسي لهذه الأزمة ألا وهو المجال العلمي. إن العلم اليوم هو الذي ينشغل أكثر من غيره ـ ربما ـ بضرورة استعادة المعنى الضائع للعالم والحفاظ على النظرة القدسية للطبيعة والكون. يحدث هذا بالخصوص مع الفيزياء الكوانطية، التي أبانت أن ثمة العديد من الظواهر التي تحدث في الكون ولكننا غير قادرين بعد إدراك طبيعتها ولا الأسباب المتحكمة فيها، كما كانت تدعي التجريبية الكلاسيكية. ثلاثية نظرية حول العالم نجد اليوم العديد من المفكرين على سبيل المثال وليس الحصر المفكر الفرنسي المعاصر جان ستون Jean Staune وعالم الفلك والفيزياء النظرية الأميركي من أصل فيتنامي تري كزوان توان Trinh Xuan Thuan أو الأميركي غريغ برادن gregg braden كلهم يبحثون عن نظرة مضادة للنظرة المادية التي طبعت العلوم التجريبية الكلاسيكية اتجاه الطبيعة. بالنسبة لجان ستون صاحب كتاب: «وجودنا هل له معنى» فهو يتحدث عن أنوار جديدة تختلف عن أنوار القرن الثامن عشر. كما يتحدث عن باراديغم جديد للفكر المعاصر، الذي عليه أن يستفيد من الثورة العميقة التي يحدثها علم الفلك المعاصر والفيزياء الكوانطية في قلب تصورنا عن الكون وعن مكانة الإنسان فيه. ينبغي الاستفادة من التضمينات الميتافيزيقية والفلسفية التي يتضمنها العلم المعاصر من أجل تأسيس نظرة جديدة لعلاقة الإنسان بالكون ومكانته فيه. نظرة تتجاوز اختزال الكون إلى مجرد تبادلات عمياء بين المادة والطاقة مادام أن الفيزياء المعاصرة تجاوزت ما سماه جون غريبين وبول دافيز بأسطورة المادة. أما كزوان توان عالم الفلك والفيزياء النظرية فهو يرى أن «المبدأ الإنساني القوي» Le principe anthropique fort لا يمكن إطلاقا تجاهله في تأكيد أهمية وجود الوعي البشري لملاحظة الظواهر الكونية. صحيح في نظره من المنظور الكوسمولوجي يبدو حجم الكرة الأرضية بكل ما تضمه من كائنات حية، مجرد حبة حصاة صغيرة في محيط لا نهائي من النجوم والكواكب. غير أنه في الآن ذاته نعلم مكانة الإنسان في هذا الكون، وهو الشيء الذي تؤكده الثوابت الفيزيائية الدقيقة التي لو تغيرت بنسب صغيرة لما قدر للإنسان أن ينبثق في الكون. في نفس السياق، تركزت أعمال الأميركي غريغ برادن على ما يسميه بالماتريكس الإلهي، وهو عبارة عن حقل من الطاقة التي تتضمن كل المعلومات الضرورية لنشأة الكون، شيء شبيه بالحمض النووي للطبيعة. كما يؤكد غريغ برادن أننا كبشر يمكننا أن نتواصل مع هذا الحقل سواء عبر مشاعرنا العاطفية أو قدراتنا التأملية العقلية. ينتج عن كل هذا في نظر هذا العالم أننا لسنا مجرد ملاحظين خارجيين كما كانت ترى الفيزياء الكلاسيكية بل نحن مشاركين. لقد لعبت نظرية الكم دوراً أساسياً في تغيير نظرتنا لطبيعة الأشياء وتصورنا للكون، وساهمت ـ بالإضافة إلى النظرية النسبية ـ في الابتعاد عن ذلك العالم الميكانيكي كما بناه نيوتن خلال القرن الثامن عشر. مع فيزياء الكم يصبح المحسوس مجردا، والشيء له أكثر من طبيعة واحدة، بل إن وجوده قد يكون متعدداً. لقد بدا العالم النيوتوني آلة ضخمة تتحرك من تلقاء ذاتها. أما اليوم مع فيزياء الكم هناك ميل إلى التفكير بنحو آخر. إننا نعتقد أن مثل هذا المنظور المتعاكس بين العلم والدين كان يهيمن بالفعل على المراحل الكلاسيكية للنهضة والأنوار حينما كانت العلوم التجريبية مزهوة بنفسها وواضعة ثقتها المطلقة في قدرتها على تقديم وصف نهائي وكلي لمشاكل الطبيعة، وحينما كان الدين أيضاً يقف في الضفة الأخرى مدافعا عن شرعيته أمام هذه العلوم الجديدة الوليدة والمأخوذة بحماسها المفرط. لكنه منظور بدأ يتراجع مع الفيزياء الكمومية التي تقول بكل وضوح أن الكون من دون مراقب لا معنى له. يبدو أنه من المستحيل أن نفصل بين المراقب/‏‏‏ الإنسان والمراقب/‏‏‏ الكون، وكأن الكون يبحث عمن يراقبه. يستنتج بول ديفز استنتاجاً رائعاً في الكلمات الأخيرة من كتابه «التدبير الإلهي»: «لا أستطيع أن أصدق أن وجودنا في هذا الكون هو مجرد مغالطة قدرية، أو مصادفة تاريخية، أو مجرد إشارة عرضية في المسرحية الكونية الكبيرة. محنتنا حميمية جدا... لقد أريد لنا حقاً أن نكون هنا».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©