الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

القوة الناعمة ماركة التنّين المسجَّلة

القوة الناعمة ماركة التنّين المسجَّلة
18 يوليو 2018 19:42
تعتبر الشخصية الصينية من أثبت الشخصيات عبر التاريخ. آلاف السنين ومعالم الشخصية الصينية واحدة لم تتبدل ولم تتغيّر. ولا شيء يأتي من لا شيء، فلا بد أن تكون هناك «أركان» أو دعائم ترتكز عليها الشخصية الصينية حتى امتازت بهذا الثبات. وهذه الشخصية تتجلى في كل ما يصدر عن الصين من فكر أو عمل أو إدارة. وعندما تكون الشخصية على هذا النحو، أي ثابتة، أو لنقل إنها مستقرة، أو مستريحة، أو وطيدة، أو مطمئنة، فإن الإنتاج سيكون وفيراً في كل شيء، على عكس الشخصية القلقة أو الخائفة أو المترددة. الأدب الصيني يعتبر أضخم أدب في العالم، كما أن الصين أضخم أمة على وجه البسيطة. وهو يعكس، في كل مراحله، الشخصية الصينية المستقرة الآمنة المطمئنة. ولا تزال المنمنمات الصينية فريدة في نوعها، وهي ثابتة، منذ أكثر من ستة آلاف سنة. والصين من بين الدول التي لم يتغيّر اسمها على مدى الدهور، كما لم يتراجع حجم سكانها عن المرتبة الأولى في العالم، منذ القديم وحتى اليوم. والشخصية الصينية يغلب عليها الهدوء والاتزان، فمنذ القديم لم تهرع إلى المخترعات المؤذية، فهي أول من أدهش العالم بالألعاب النارية، وأول من اكتشف دودة الحرير، وأول من استطاع استنزاف الكثير من ذهب الإمبراطورية الرومانية، ثمناً لحريرها الساحر المدهش، بل لم تستطع دولة من دول العالم أن تستنزف ذهب الرومان سواها، فكانت نساء الطبقة العليا يتخلين عن مصاغهن لقاء هذا الحرير المذهل. ويروى أن اختراع الأسلحة النارية (الذي أقدمت عليه أوروبا في القرن الرابع عشر) كان سهلاً بالنسبة للصينيين، ولكن الإمبراطور منع ذلك وأوقف الاختراع عند حدود الألعاب النارية التي تقام في كل المناسبات تقريباً. ويقال إن الإمبراطور خشي من الأسلحة النارية التي اخترعها له الصينيون، إذ يمكن اغتياله من بعيد، من غير أن يتمكن حرسه الشخصي من حمايته. والأسلحة النارية التي ابتدعتها أوروبا كانت العامل الحاسم في قلب الموازين في العالم. والصناعات السلمية التي ظهرت على يد الصينيين كثيرة: الورق والطباعة والصحيفة الجدارية وأنواع كثيرة من الرياضة البدنية، واخترعت الحروف المتنقلة، ومعاجم اللغة، والمعاجم المقارنة... أشياء وأشياء كثيرة كلها تدل على الشخصية المسالمة التي تريد الركون إلى الهدوء والسكينة. وحتى تتجنب الحروب بنت سوراً كبيراً يوقف هجمات البدو والأجانب، وإن لم يجدها ذلك في شيء. كانت الصين من أوائل الدول التي عانت الإمبريالية الغربية، فلم تبق دولة من تلك الدول إلا كان لها نصيب في الصين، وكان بعض الباحثين المتشائمين يزعمون أن الصين تمزقت وانتهى أمرها، فما من بقعة إلا وعليها جالية أجنبية تتحكم في أمورها، لكن الشخصية الصينية ظلت كما هي تعالج أمورها- كعادتها- على الموجة الطويلة بهدوء من يكتب تاريخاً على حبة قمح. وحتى في قرانا النائية كان المثل يضرب بهذه الأناة الصينية، فيقال للمرأة المتأنية: تطرز الحرير الصيني. وراء هذه الشخصية تكمن- كما نرى - ثلاثة أركان: الكونفوشية والتاوية والماوية. الكونفوشية لسنا في معرض بسط آراء كونفوشيوس، فيمكن للقارئ أن يحصل عليها حتى من الموسوعات الموجزة، ولكننا في معرض البحث عن عامل الاستقرار والأناة الذي كان له تأثير كبير في الشخصية الصينية. يمكن اختصار الكونفوشية بكلمة واحدة «التقليد لحماية الأسرة والدولة» والتقليد هنا لا يعني النسخ، بل التحسين والإضافة، فحتى تكون الدولة قوية ومحترمة، لا بد من أن تكون هناك تربية تراثية، وهذا لا يكون إلا بمحاكاة الأفعال النبيلة التي تركها الأجداد، فتكون الكونفوشية قد سبقت الأرسطية في نظرية محاكاة الفعل النبيل. والتقليد ليس بدعة كونفوشية، بل نتيجة تاريخ طويل جداً من تكريم الأجداد، فقد كان الصينيون يعتقدون أن الأجداد قسمان: قسم يموت وقسم يبقى حياً، فمن لم يصدر عنه الفعل النبيل الراقي أهملته الذاكرة وعدّ من الأموات، وقسم مارس العمل النبيل فظل الناس يقلدونه، أو قل يحاكونه، ويضيفون إليه حيث يمكن الإضافة، فيبقى حياً، أي إن سلالته ستظل مخلصة لتقاليده النبيلة. وكل كتب كونفوشيوس تدور حول هذه الناحية: ما هي الطاعة؟ وكيف تكون؟ وكيف نحافظ على التراث من غير أن نخسر أنفسنا؟ كيف نتدخل في التراث فنستفيد منه من غير أن نؤذيه بالتأويل والتبديل والتعديل. والكونفوشية ذات نظرة مادية واقعية، لا تهمها المعتقدات الغيبية، ولا تدخل في نقاش مع تلك المعتقدات، بيد أنها تسعى سعياً عملياً حتى لا يكون لتلك المعتقدات جانب سلبي على الأسرة والأمة. همها الأول والأخير يتركز في الدولة لاعتقادها أن لا مجتمع من دون دولة تقوم على العلاقة الاجتماعية السليمة. هذه العلاقة تستنتج من التاريخ، من سلوك الأجداد، من الأبطال المدافعين عن الدولة. ومن هنا اهتمت الكونفوشية بالتربية كثيراً. وكما التربية كذلك التعليم. كل غايته الحصول على دولة رزينة في مجتمع متماسك، فنظمت هذا الميدان تنظيماً دقيقاً واهتمت به اهتماماً كبيراً، فوضعت أصول الامتحانات والاختبارات لموظفي الدولة، والأسس العملية للسلوك والأخلاق، بحيث يكون الفعل العيني دالاً على الخلق وليس الثرثرة والأسمار. والأسرة، وهي أهم ما اهتمت به الكونفوشية، يجب أن تقوم على التمسك بالتقاليد التي محّصها الزمن، تقاليد الأجيال السابقة، فهي اللبنة الأولى لبناء المجتمع. وعندما تتفكك الروابط العائلية يتحوّل المجتمع إلى مجموع مهمل من البشر، ويصبح قوة نابذة تدفع الناس إلى الهجرة، ومثاله عن «المرأة والنمر» مشهور، فقد كان النمر يأكل أبناء هذه المرأة، فلما سأل التلاميذ كونفوشيوس لماذا قطنت هذه المرأة في الغابة، وهي تعرف مخاطر وحوشها؟ أجابهم بأنها وجدت وحوش الغابة أرحم من وحوش المجتمع. التاوية نشأت في القرن الخامس قبل الميلاد، مع الكونفوشية. وفي هذا القرن أخذت البوذية تعرف طريقها إلى الصين. والبوذية نظرة روحانية، أو فيها الكثير من الروحانيات، فاصطدمت مع المذهبين كليهما، ولم تجد الحاضنة الدافئة لها، مما حدّ من انتشارها. وقد وجدت التاوية نفسها بين نارين: الكونفوشية التي تقوم على الأسس المجتمعية الواقعية والبوذية التي تقوم على الخيال أكثر من الواقع، فما كان من التاوية ألا أن بحثت عن سبيل يكون أبعد من المذهبين الآخرين، فقالت إن التاو (الطريق) بحث في ثابت المتغيرات، وفي متغيّرات الثابت، إنه أكبر ممثل للفكر الصيني العملي، الذي يتأمل في كل شيء، ولكنه دائماً يقيسه بالواقع، فما كان في الفكر مخالفاً للواقع استبعد بكل بساطة، فحتى البوذية عندما دخلت الصين ركز أتباعها الصينيون على الجانب العملي، وإذا قلنا تجاوزاً عن التاوية إن فيها جانباً صوفياً، فنحن مضطرون إلى الإقرار باتجاهه العلمي العملي الدقيق، كما أثبت ذلك فريتجوف كابرا في كتابه «التاوية والفيزياء الحديثة» الذي ترجمناه إلى العربية منذ عشرين عاماً. ومما يذهل أن هذا التأمل الصوفي جاء مطابقاً للفيزياء الحديثة، حتى أن نسبية أنشتاين تكاد تكون شرحاً لهذا التأمل. ويرى فريتجوف أن الفيزياء الحديثة هي «التاوية» ولكنها التاوية الخالية من القلب، بمعنى أنها تتجه اتجاهاً عدوانياً ليس في صالح البشرية، على عكس التاوية التي حصرت همها في التعايش مع الحقائق لخدمة البشر، وليس استخدام الحقائق لإذلالهم أو تهديدهم، أو سوقهم بالقوة والقهر إلى سبيل لا دور للقلب فيه، مما يجعل المجتمع كتلة من الفلز الملتهب، فيبتعد عن الهدوء والفرح... وينتشر الغيظ الذي يصنع من البارود أسلحة نارية، وليس ألعاباً تمتع الناظرين وتفرحهم. في رأي التاوية الغيظ مخالف للحقائق، والفرح يتقبل الحقيقة ويجيد استخدامها. فلنفكر بقلب ولنتعاطف بعقل، فكل شيء يدور في حلقات بحيث كل نهاية تكون بداية وكل بداية تكون نهاية، فكما أن الحياة بداية جديدة كذلك الموت، والطبيعة لا تنتحر، بل الإنسان ينحرها إذا لم يتعايش معها بقلب، لا حرصاً على الطبيعة بل على نفسه. والغريب أن حركة الكون التي تشبه حركة القلب في نظرية أنشتاين سبقه إليها التاويون بقرون وقرون. الماوية لا شك أن الماوية ماركسية، ولكنها لا تشبه الماركسية السوفيتية التي كانت دارجة في القرن العشرين. والثورة الصينية ثورة ماركسية، ولكنها تختلف عن الثورة البلشفية اختلافاً واضحاً، لخص ذلك ماو تسي تونغ بقوله إن الثورة الصينية هي تطبيق الماركسية على الظروف الخاصة بالصين. والحديث في هذا يطول ولكننا نوجز أهم الميزات التي جاءت بها الماوية. الصين بلد زراعي كان متخلفاً جداً في بداية القرن العشرين، وهذا ما راعته الثورة الصينية، فلا بد من أن تبدأ الثورة من الريف إلى المدينة، وليس العكس. وتكون القيادة بيد البروليتاريا لأنها الأوعى والأنضج، وهذا ما جرى في الصين. فقد بدأ تثوير الريف منذ 1924 بعد أن فشلت الثورات العمالية في المدن الصينية الكبرى. وكان الخلاف كبيراً بين ستالين وماو تسي تونغ في هذه المسألة، إلى أن اعترف ستالين بخطئه بعد نجاح الثورة عام 1949. وفي المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي، نشب الخلاف من جديد حول السياسة العالمية، من جهة، وحول التنمية البشرية من جهة ثانية، وعلى أثر ذلك انقسمت الأحزاب الشيوعية بين التيارين السوفييتي والصيني. وكان من رأي الصينيين أن ترسانة السلاح الذري «نمر من ورق» وإنما الاعتماد على الاقتصاد الخفيف الذي يجعل الشعب في مأمن من الحاجة المادية، ولذلك ازدهرت الصناعة الصينية ازدهاراً مدهشاً، حتى أن الصين اليوم تتحدى أن يكون بيت في أي مكان في العالم خالياً من المبتكرات الصينية. إن الماوية سارت في المخترعات السلمية في العصر الحديث كما كانت في العصر القديم سواء بسواء. وكما بنت الصين القديمة السور العظيم لحماية نفسها، بنت الصين الحديثة المفاعلات الذرية لحماية نفسها، فغزت العالم بإنتاجها السلمي، وهو تقليد يعود إلى آلاف السنين. إنه الغزو الناعم أو الغزو البارد، الذي لا يهدد البشرية، ولا يمكن أن تبنى عليه سياسة حربية، كما تفعل الدول النووية. إن الإنتاج السلمي يقول للبشر إني أغزوكم بما يفرحكم لا بما يهددكم. المناقشة الكبرى التي دارت في النصف الثاني من القرن العشرين بين السوفييت والصينيين، أو بالأحرى بين خروتشوف وماو تسي تونغ، كانت لصالح الصينيين، فقد أكدوا أن الذرة التي يتباهى بها خروشوف لا تحمي شعباً محروماً من أبسط المتطلبات، إذ سيكون الانهيار الداخلي حتمياً. والكارثة التي أكدها الصينيون للاقتصاد السوفييتي وقعت قبل نهاية العقد الأخير من القرن العشرين، بالرغم من محاولات غورباتشوف اليائسة لرتق الفتوق الكثيرة في هذا الاقتصاد، وانتهى النظام السوفيتي نهاية لا مثيل لها في تاريخ البشرية، ونجحت الصين فيما فشل به السوفييت. إن من ينظر في غزارة الاقتصاد الخفيف الذي تنتجه الصين لا بد أن يتذكر المنمنمات الصينية القديمة التي غزت العالم. إن الصين تتأقلم من دون أن تتغيّر وتتبدل، والثبات على المفيد خير من اللعب بما يضرّ ويهدّد ويدمّر. صناعات سلمية الصناعات السلمية التي ظهرت على يد الصينيين كثيرة: الورق والطباعة والصحيفة الجدارية وأنواع كثيرة من الرياضة البدنية، والصين هي مبتكرة العلاج بالإبر الذي انتشر كثيراً اليوم في القارة الأوروبية، ومبتكرة تمارين اليوغا وأساليب الدفاع عن النفس، والحبر وفن التخريم، واختراع المروحة اليدوية التي لا تزال السيدات تستخدمها حتى اليوم، وموسوعات عن الصحة العامة والأمراض وطب الأعشاب وفلسفة اليانغ واليونغ التي انتشرت في أوروبا واتفقت مع أحدث المكتشفات الفيزيائية الحديثة، واخترعت الحروف المتنقلة، ومعاجم اللغة، والمعاجم المقارنة، وفيها ظهرت الطباعة لأول مرة... أشياء وأشياء كثيرة كلها تدل على الشخصية المسالمة التي تريد الركون إلى الهدوء والسكينة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©