الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وجها «جانوس» اللذان لن يلتقيا

وجها «جانوس» اللذان لن يلتقيا
27 يناير 2010 21:07
ثمة ذلك الإله الذي سماه الرومان باسم جانوس، إله الشمس، والذي جعلوه في تمثال من الحجر على هيئة إنسان ذي وجهين باتجاهين متعاكسين، أي متماثلين فلا يرى أي منهما الآخر.. هكذا هما الشخصيتان الرئيسيتان، سلمى وجميلة، بطلتا رواية “وراء الفردوس” للروائية المصرية منصورة عز الدين التي دخلت المنافسة على جائزة البوكر، بطبعتها العربية، ضمن قائمة الست القصيرة، حيث من المنتظر الإعلان عن الفائز من بينها، لدورتها الثالثة، مطلع مارس المقبل. من اللحظات الأولى، بل من سطرها الأول، تأخذ الروايةُ القارئ إلى عالمها الكابوسي، إذا جاز التوصيف بقَدْر من المبالغة، مع شخصية سلمى المدوَّخة التي تمشي وتسلك بخفة المستيقظ من حلم كابوسي للتو، كما لو أنها لا تزال تطفو على خيالات أمس ـ الماضي المتحقق في الحاضر في هيئة هذا السلوك الذي لا يقودها أبداً إلى الأرض الصلبة للواقع. وذلك مع أنها قد قررت أن تتخلص من وطأته الثقيلة على أنفاسها بحرق هذا الماضي بحثاً عن خلاص منه ومن كابوس يطاردها باستمرار ويجعل من الإحساس بالذنب “عقدة” في حياتها ومدخلاً للروائية منصورة عز الدين أو الشخصية الساردة في الرواية لـ”تلعب” بمصيرها كما تشاء ولتوقع قراءها في فخاخ “الحكي” فيتورط مع هذه الشخصية بوجهيها، أي بشخصيتيها، وهي تتبادل الكلام عن الواحدة منهما لتنتقل إلى الأخرى لكن ليس كي تعيد قول الحكاية من زاوية مختلفة ووجهة نظر متقلبة، إنما لتمتد الحكاية وتمتد أكثر في الحدث والواقع، ثم لتأتي تلك الشخصيات ذات الملامح الإنسانية العادية التي تبنيها الروائية على نحو لافت للانتباه من فرط ما هو مقنع، في حقيقة الأمر. ومن تلك التفاصيل الصغيرة للمشهد الروائي يتكشف للقارئ الحيّز الجغرافي والزماني والمكاني الذي تتحرك فيه الشخصيات، هكذا فسلمى هي ابنة عائلة برجوازية ريفية أو من الممكن القول إنها تنتمي إلى الطبقة الريفية المتوسطة التي برزت مع الانفتاح والانكفاء على السياسات الاقتصادية لمصر الناصرية، والمكان بالطبع هو الريف المتاخم للنيل الذي يشهد الوعي الجمعي السالب للناس البسطاء وعديمي الخبرة في العهد الصناعي وليدفعوا الثمن، في تبدّل المصائر العنيف هذا، قاسياً يضطرهم للهجرة إلى أطراف المدن والسعي إلى دول الخليج العربي من دون خبرات ومن دون تحصيل علمي يناسب مواجهة سبل العيش بعيداً عن بيئة جرى تخريبها بحثاً عن ثراء مزعوم أودى بعد سنوات قليلة إلى فقر يسرّي عن نفسه بالخرافات والشائعات وكأن كل ما يجري لهم هو من صنيع القدر. تقريباً، في هذا الحيّز الواسع من الزمان والمكان تتحرك الشخصيتان الرئيسيتان، سلمى وجميلة وكأنهما امرأة واحدة عاشتا الماضي بوجهي امرأة واحدة وذكريات كلٍ منهما المختلفة عن الأخرى. هنا يبدو فعل التذكّر حاسماً في الدور الذي يلعبه، سواء على صعيد بناء الشخصية الروائية أم الانتقال في الأحداث بين زمن راهن، لنقل إنه السنوات الخمس، الأخيرة، وبين ذلك الماضي العائلي. واللافت في “وراء الفردوس” أن الروائية تتنقل برشاقة بين تلك الأزمنة وبين الحكايا التي تولد الواحدة منها من الأخرى عبر تكنيك روائي يقوم أيضاً على فعل التذكر ذاك. في هذا السياق، فإن حادثة إحراق الصندوق في بيت العائلة من قِبَل سلمى، التي باتت روائية الآن وتشعر بعسر في وضع حدّ لروايتها، لفهم الشخصيتين الرئيستين وموقفهما مما يدور حولهما راهنا، فمن خلال التفاصيل التي تصف من خلالها الشخصية الساردة مشهد الحريق فندرك أننا في بيت مهجور تقريبا مع امرأة في الثانية والثلاثين وأمها وعمتها العانس وأنه بيت مرّت به حياة هي الآن محض عصف من الذكريات التي تأكلها النيران الآن، ولعل نجاح الروائية في تحقيق هذا الأمر هو ما يجعل القارئ مشدودا إلى “وراء الفردوس” حتى آخرها، فهي رواية من ذلك النوع الذي يغري القارئ بتعقب مصائر الشخصية بدافع من الفضول لمعرفة طبيعة تكوّنها. ولعل ما هو أكثر إغواء في الرواية، هو ذلك الذي يتصل بطفولة سلمى وجميلة والتداخل العميق في تأثير الحدث ذاته على كلٍ منهما وانتقالها من موقع إلى آخر على نحو عجيب إنما مقنع ومؤجج لذلك الفضول. وعن تلك الطفولة، فإن شخصيتي الأبوين، جابر وصابر، هما الأكثر تأثيرا من سواهما من الشخصيات الأخرى، لكنهما مع ذلك كما لو أنهما مربعان في اللوحة الفسيفسائية للشخصيات الروائية وما كانا إلا ليكونا شريكين في صياغة قدَر ابنتيهما المشترك، فهما، بهذا المعنى قد تحدد دورهما في إبراز سلمى وجميلة على سطح أحداث الرواية. في الوقت ذاته، تتخذ الروائية منهما ذريعة لوصف الماضي ولذكر ما جرى آنذاك أو فضحه إن صحّ التعبير، إذ عبرهما ومن خلال أحداث ووقائع وحراك اجتماعي نتعرف إلى ما كان عليه المجتمع الريفي المصري وما آل إليه الآن، هكذا ببساطة وواقعية وعادية تماماً. لكن السؤال الذي يطرح نفسه على المرء عند الفراغ من قراءة الرواية هو: هل اعتنت منصورة عز الدين في روايتها هذه بالكشف عن ماضي الريف المصري للوصول إلى أن ما نعيشه في الحاضر يجد أسبابه هناك في الماضي القريب؟ يطرح نفسه هذا السؤال لأن الرواية مشدودة كثيرا إلى شخصياتها، أو إلى سلمى وجميلة على وجه التحديد، من جهة، ومن جهة أخرى، فكما لو أن الرواية كلها، جملة وتفصيلاً، هي تعبير راقٍ عن رغبة عالية بالبوح، مثلما بـ”الحكي”، حتى أن شخصية امرأة واحدة لم تكن لتكتفي بها الروائية منصورة عز الدين، صاحبة هذا الصنيع الروائي، بل كي تقول أكثر، فقد فَلَقَتْ الشخصية الرئيسية في الرواية إلى فلقتين لـ”تحكي” لنا أكثر، إنما من دون ثرثرة. فلقَتْها لتخرج بوجهي جانوس، وليكون بوسعها أن تكون مَنْ يحكي عنهما فتقدِّر لهما مصائرهما كما يفعل جنرال بمصائر جنوده. وأخيراً، فإن وجهي جانوس، الموظّفَيْن بذكاء في هذه الرواية، ربما هما اللذان أوصلا منصورة عز الدين إلى القائمة القصيرة للبوكر العربية، لا سواهما، ذلك أن الرواية، على صعيد تكنيك الكتابة الروائية وأسلوبيات السرد وتداخلاته وانعطافاته ليست عظيمة الشأن ولم تأت بجديد في هذا السياق، برغم ما أشير إليه من مقدرة خلق الحكاية من حكاية سالفة لدى الروائية، فهي مطروقة سابقا، وموجودة في روايات أخرى منافِسة لهذه الرواية في المسابقة ذاتها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©