الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أريد أن أعرف !

أريد أن أعرف !
8 فبراير 2009 00:03
في طفولتي كان يثير جنوني أولئك الباعة الذين ينادون على بضاعتهم بطريقة حرفية منغمة، فيصير من المستحيل أن تعي حرفاً مما يقولون· مثلاً كان هناك ذلك الرجل النحيل الأسمر الذي يقف بجوار مدرستي وينادي بأعلى عقيرته: ''شيها دوج دوج''· أما بضاعته فشيء مغطى لا يمكن أن تعرف كنهه ·· ربما هو ضفادع محمرة أو ثعابين مقلية أو ألغام دبابات من الحرب العالمية الثانية· ظل الفضول يغلبني خاصة أنني لا أجرؤ على الاقتراب لسؤاله عما يبيع، ولم أر في حياتي من يشتري منه قط، فيبدو أن كل الأطفال لا يعرفون ما يبيع ·· في النهاية جرؤ أحدنا على أن يقترب ويكشف الغطاء ·· عندها اكتشف أنه يبيع نوعاً من الحلوى ·· وعبارة (شيها دوج دوج) ليست سوى (فيها بندق) منغمة وممطوطة وملوية بحيث صار من المستحيل أن تعرف ما تقول ·· بائع آخر كان يقف تحت شرفتنا كل عصر ويصرخ (هيآآآآآآآآ أوووووووه !) كأنه طرزان ينادي حبيبته شيتا في الغابة· وقد سألت كل أفراد أسرتي عما يبيعه فلم يعرف أحد، واقترح أبي أن الرجل يبيع أكياس قمامة، بينما اقترحت أمي انه يبيع مشانق·· في ذات يوم سعيد دنت منه طفلة فكشف لها الغطاء عما يبيعه·· كان يبيع الزبادي (اليوجورت) لكن لا تسأل من فضلك عن علاقة الزبادي بالـ (هيآآآآآآآآ أوووووووه !)·· يبدو أن الصيحة أهم عنده من البيع ويعتبرها إهانة أن يصيح بصوت واضح النبرات: (زبادي) ! كان هذا درسي الأول عن الدعاية التي تجعلك لا تشتري شيئاً·· ثم بدأت أكتشف هذا بشكل أوضح مع إعلانات التلفزيون· هناك إعلانات تحرص على أن تبدو شبابية مليئة بالحيوية، فيتكلم الشاب بسرعة وبكلمات كالطلقات حتى لا تفهم حرفاً مما يتكلم عنه· ربما كان هذا جزءاً من سيكولوجية الإعلان لأن المرء يجن فضولاً ليعرف ما يعلن عنه هذا الشاب ·· هل هو دواء لجعل الكلام غير مفهوم ؟·· أم هو نوع من الدهان يجعل اللسان زلقاً؟·· اشتهرت شركة (بنيتون) للملابس الجاهزة بهذه الإعلانات العجيبة التي أثارت جدلاً، فتارة تقدم لك بألوان ممتازة رجلاً يلتهم سمك القرش جسده الممزق، وتارة تقدم محتضراً يحيط به أفراد الأسرة الباكون، وتارة صورة رضيع ملوث بالدم ·· مع عبارة صغيرة تقول: ''الألوان المتحدة من بنيتون''· لابد أن الموضوع خضع لدراسة نفسية مدققة لكن بصراحة لا أفهم·· معلوماتي أن الإعلان يجب أن يكون جميلاً ولا يكون ضربة بالمطرقة على الرأس لتتذكر للأبد ·· على كل حال أنت تعرف أنهم يعلنون عن ثياب·· يبلغ فن الإعلان الذي يجعلك لا تبتاع السلعة ذروته مع اللافتات الإعلانية على الطريق السريع حيث سرعة سيارتك لا تقل عن مئة كيلومتر ترى من بعيد تلك المرأة التي تضحك في رضا·· لماذا ؟··· تقترب أكثر فترى اسم السلعة التي أسعدتها لهذا الحد لكنها مكتوبة بخط صغير جداً ·· ولا وقت للتدقيق لأن السيارة التي خلفك تسير بنفس سرعتك·· لو أبطأت أو انحرفت لليمين فجأة فهي النهاية على الأرجح··· حتى لو نجوت لكان من الصعب أن تفسر أنك أحدثت هذه الكارثة لتعرف ما السلعة التي أعلنوا عنها·· أما في وسط المدينة والزحام فالأمر يختلف·· أنت محشور وسط مئات السيارات وهناك لافتة مبهمة بعيدة تعدك بالسعادة الأبدية·· لا يمكن أن ترفع عينيك عن الطريق لتقرأ·· فإذا كنت محظوظاً واستطعت أن تعرف ما يعلنون عنه لوجدت رقم هاتف طويلاً·· لا يمكن أن تتذكره أو تدونه ·· لو ذهبت لذات المكان راجلاً لاكتشفت أن عليك أن تقف وسط السيارات لتقرأ اللافتة، ومعنى هذا أنها النهاية ·· بينما عندما تقف تحتها فهي غير مقروءة على الإطلاق ·· حتى بدأت أفكر جدياً في أن آخذ كاميرا رقمية لألتقط صورة سريعة للافتة أحللها فيما بعد ·· هناك حل أسهل هو أن اطلب ممن يركب جواري سواء كان صديقي أو زوجتي أن يدون الرقم على ورقة بسرعة لكنك تكتشف أنه أو أنها مصابة ببطء فهم شديد: ـ''أية لافتة ؟'' ـ''هذه اللافتة ؟'' ـ''هل تقصد تلك التي على اليسار ؟'' ـ''بل اليمين ·· عليها رقم هاتف ··'' ـ''هناك لافتتان على اليمين ··'' ـ''اللافتة التي تقول : سوف نخلصك من رائحة القدمين للأبد ·· فقط اتصل برقم ·· رقم ماذا ؟'' هنا ينظر لي صاحبي أو تنظر لي زوجتي وتقول في حياء: ـ''ألم يخبرك أحد أنني مصابة بقصر نظر ؟'' هكذا تكون الفرصة قد ضاعت ·· وبعد أسبوع تختفي اللافتة لتأتي واحدة أخرى أكثر غموضاً·· نعم ·· الدعاية فن معقد ولا أفهم الكثير فيه، لكنني فعلاً أريد أن أعرف هذا الذي يعلنون عنه·· هذا من أبسط حقوقي كإنسان· ولا شك أنني أضعت الكثير من الفرص النادرة بسبب تحذلق مصممي الدعاية الدكتور احمد خالد توفيق
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©