الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الملعب كما المعبد

الملعب كما المعبد
4 يوليو 2018 20:25
هل يمكننا أن نفكر فلسفياً في كرة القدم؟ سؤال قد يبدو للوهلة الأولى مستفزاً للذهن، إذ ما الذي يجمع سقراط وأفلاطون وديكارت بمارادونا وميسي وزين الدين زيدان؟!. مع ذلك فهذه الملاحظة الشكلية في ظاهرها، عليها أن لا تنسينا أن الفلسفة عبر تاريخها الطويل تميزت بالتفكير فيما يناقضها، أي فيما قد يبدو للوهلة الأولى غير فلسفي. خذ، مثلاً سقراط، وهو يواجه السفسطة والسوفسطائيين. خذ فوكو وهو يكتب عن تاريخ الجنون. إن التفكير الفلسفي لا يستقيم إلا بالانفتاح على آخره اللافلسفي. هذا الأمر يزداد وضوحاً في الفلسفة المعاصرة التي جعلت الفلسفة تنزل من عليائها كي تصبح تلك القوة النقدية والقراءة التشخيصية لظواهر العالم. من هذا المنطلق نتساءل كيف يمكننا مفْهمة الظاهرة الكروية في مجتمعاتنا المعاصرة؟ ظلت ظاهرة اللعب موضوعاً هامشياً في الفلسفة وغير مطروق إلا لماماً، غير أنها اليوم وبحكم الحضور القوي لها في المجتمعات المعاصرة تستحق بالفعل الانتباه لها. لقد أصبح اللعب مكوناً أساسياً من مكونات المجتمع المعاصر حتى بات اللفظ يخيم بدلالاته على ميادين عديدة. نتحدث مثلاً عن اللعبة السياسية، واللعبة الاجتماعية، وعن اللعب البيداغوجي، وعن نظرية الألعاب في الاقتصاد والرياضيات والعلاقات الدولية. اللعب واللاعب أن نفكر في كرة القدم إذن هو أن نفكر في هذا الإنسان اللاعب Homo ludens كما يسميه يوهان هويزينغا (1)، ذلك أن اللعب كما العقل والجنون والإبداع وغيرها بعد أساسي من تركيب الهوية البشرية حسب إدغار موران (2). وربما يكون هيدغر وهو يحدد البنيات الأساسية للدازايين قد نسي تماماً أن اللعب واللهو لا يقل أهمية عن القلق والموت والوجود في العالم وغيرها. أما نيتشه فقد أعلى من قيمة المرح والرقص، مطالباً الإنسان أن يفكر كما لو أنه يلعب وذلك بغرض تجاوز وتحطيم كل فكر نسقي مغلق. كل الحضارات عرفت شكلاً من أشكال اللعب مثل الألعاب الأولمبية وسباق الخيول ولعبة الشطرنج وغيرها، غير أن ظاهرة اللعب يزداد حضورها في مجتمعاتنا المعاصرة بأشكال وأنواع مختلفة، وهي تبلغ تحققها الكامل في لعبة كرة القدم. هذه اللعبة التي أصبحت كما هو معروف ذات صيت عالمي وشهرة لم تبلغها أية رياضة من قبل في التاريخ. إنها تثير شغف الجميع وتجيش عواطف الكبار كما الصغار. تصنع سعادة البعض كما الإحباط والأسى لدى البعض الآخر، لكنها في كل الأحوال تضع الجميع في مواجهة براءتهم الأصلية، تلكم البراءة التي افتقدناها وراء مساحيق الحضارة: «كما لو كان الإنسان المولع باللعب يريد أن يحطم من الداخل قناع الإنسان العاقل» (3) كما يقول إدغار موران. أما روجيه كايوا فهو يربط بين ما هو لعبي Ludique وما هو مقدس، مستثمراً ومطوراً في الآن ذاته أطروحة هويزينغا. في نظره الملعب كما المعبد كلاهما حيز محدد من المكان، يجري فيه تفريغ للطاقة النفسية والبدنية، بكل ما يملكه الإنسان من الشغف والحيوية والحماس، وهو أمر في نظر كايوا يبعدنا عن النظام العادي للحياة ولذلك يصرح قائلاً: «لا نزاع في أن اللعب هو شكل محض، أي نشاط يجد غايته في ذاته، وقواعد نحترمها لمجرد أنها قواعد فقط» (4). قد نتفق مع كايوا على وجود نوع من التقاطعات بين اللعب والمقدس، فكلاهما على ما يبدو يلعبان وظيفة تطهيرية نمارسها بالطقوس والابتهالات مع الدين، وبالهتاف والحماس مع اللعب. إلا أن ما يجب تمحيصه أكثر هو دلالة اللعب بالنسبة لمعيش الإنسان. فاللعب بشكل عام والكرة بالخصوص هو اتصال رمزي بالحياة يتجاوز مجرد التسلية وقتل الوقت، إنه تعبير عن الرغبة في إعادة بناء وتنظيم للواقع والبحث عن نوع من التعويض للحرمانات النفسية والاجتماعية. أفيون الشعوب أكيد أن كرة القدم قد أصبحت في عصرنا جزءاً من المشهد الاستعراضي والفرجَوي للمجتمع كما يمكن أن يسمي ذلك جي دوبور. قد نردد كما يعبر البعض أن الكرة أضحت أفيون الشعوب، ولكن مع ذلك علينا أن نميز بين التوظيف السياسي والأيديولوجي لها، وبين المعنى الذي يمكن أن تخفيه هي ذاتها كلعبة. بطريقة أخرى نقول بأن كرة القدم هي شكل من أشكال التعبيرات الثقافية للمجتمع المعاصر، لذلك وجب بالضرورة الكشف عما تخفيه هذه الثقافة، أي ما يوجد وراء فورة الحماس والغرائز المتَعية التي تخلقها. لكل أمة رياضتها الخاصة التي تعبر عن روحها الحضارية، لقد ابتكر الصينيون واليابانيون فنون القتال عندما كانت ثقافة التأمل والتحكم في الجسد هي السائدة، وابتكر الفرس لعبة الشطرنج عندما كانت الحرب هي القيمة السامية في المجتمعات القديمة، كما ابتكر اليونان الألعاب الأولمبية كشكل من أشكال تحقق الكمال البشري، سواء على الصعيد الفردي {التوازن بين العقل والجسم} أو على الصعيد الجماعي {القدرة على اللعب بشكل جماعي}. فما الذي يعبر عنه إذن ابتكار الأزمنة المعاصرة لرياضة كرة القدم؟ لعبة التكتيك دعونا أولاً نحاول تفسير سبب هذا الانجذاب العجيب لهذه اللعبة. إن الألعاب إذا ما قمنا بتصنيف سريع لها سنلاحظ أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام. هناك ألعاب مبنية بدرجة كبيرة على الحظ ولا دخل للتخطيط والاستعداد فيها إلا بنسبة صغيرة مثل ألعاب القمار، وهناك ألعاب أخرى تعتمد بدرجة كبيرة على القوة البدنية، وعلى امتلاك مرونة الجسد والتحكم التقني في استخداماته. قد تدخل هنا كل رياضات ألعاب القوى وفنون القتال وغيرها، حيث لا يلعب الحظ إلا نسبة ضئيلة جداً في الفوز. وأخيراً هناك ألعاب مقتصرة على الذكاء ومهارات التخطيط، فالقوة هي قوة العقل، والحظ نادراً ما يحالف المنتصر، ولعل لعبة الشطرنج هنا هي أبرز مثال على ذلك. هذا التصنيف على بساطته يسمح لنا بطرح السؤال الآتي: ما هي كرة القدم وأين يمكن أن نصنفها هل هي لعبة حظ أم قوة بدنية أم تخطيط وذكاء؟. أعتقد أنها اللعبة/‏‏‏‏‏ الرياضة. بعض اللعب ليست رياضة مثل لعبة الروليت التي تجمع كل هذا في ميدانها الخاص، بل ربما هي الرياضة الوحيدة التي تفعل ذلك. إنها في هذا تتفوق على العديد من الرياضات الجماعية الأخرى مثل الروغبي والكريكيت وكرة السلة وغيرها. كرة القدم هي مجهود بدني يفضه اللاعبون فوق رقعة الملعب، بمهارة وخطة محكمة محاولين عقلنة الحظ بفضل إجادتهم للعب والتزامهم بالتكتيكات التي تدربوا عليها مسبقاً. مع ذلك ليست كرة القدم علماً دقيقاً، ولا مجهوداً بدنياً خالصاً، ولا حتى حظاً محضاً، هي شيء من هذا وذاك، نوع من الكيمياء السحرية التي تختلط فيها الصدفة مع العلم والحضور البدني إلى جانب التركيز الذهني والنفسي. في كرة القدم، يوجد كل شيء، وتجتمع كل المفارقات: الخطط المحكمة، الروح القتالية، الانسلالات، اللعب النظيف كما الخشونة والمكر. ثم هناك الحظ الذي أطلق عليه مثلاً في حالة مارادونا «يد الرب الخفية». يوجد العمل كما يوجد الأمل، الحرية كما القانون، اللعب الجماعي والكرة الشاملة التي ابتكرتها هولندا، والمهارة الفردية التي ميزت الكرة البرازيلية la Seleçao والتي يمكن أن تصنع الفارق في أي لحظة. توجد القواعد والمتوقع، كما توجد عمليات كسر القواعد: أنتونين بانينكا، وهو يركل ضربة الجزاء بطريقة خارجة عن المألوف. الضربة ذاتها أعاد إحياءها زين الدين زيدان في نهائيات 2006. روبيرتو كارلوس وهو يركل ضربة حرة فتلتف بطريقة لولبية محطمة قوانين الفيزياء كي تستقر في الشبكة. هكذا إذا كانت الخطة أو القوة البدنية من الممكن أن تحسم الأمر بشكل مسبق في بعض الرياضات، ففي حالة كرة القدم لا شيء يمكن أن يكون محسوماً إلا بعد صفارة الحكم. لقد لعبنا كما لم نلعب من قبل، وانهزمنا كما لم ننهزم أبداً، قال لا عب إسباني. لعبة الحياة لعبة كرة القدم شبيهة بلعبة الحياة ذاتها، بل هي محاكاة ضمنية لها، تصوير وتمثل représentation لتناقضاتها ومفارقاتها، وهذا هو ما يبرر عشقنا لها. ربما لهذا السبب ظلت الفيفا ترفض لعقود اعتماد التحكيم بواسطة الكاميرات والتلفزة، وذلك حتى تظل اللعبة كما قيل «إنسانية». وكلمة «إنسانية» تعني هنا الحفاظ على اللعبة في عفويتها الطبيعية بدل أن تتحول إلى لعبة من لعب البلاي ستيشن. فما تخلقه كرة القدم هو المتعة والشغف والحماس وليس فقط الأهداف. صحيح أن الفريق يلعب ليفوز، ولكن عندما تكون الأهداف سهلة وكثيرة، تفقد المقابلة أي طعم لها. إن الآلات يمكنها أن تلعب وأن تفوز كما حدث عندما هزم الحاسوب (ديب بلو) بطل العالم في الشطرنج غاري كاسباروف. أو أيضاً عندما هزم الحاسوب (ألفاجو) البطل لي سيدول في لعبة الغو Go وهي أعقد من الشطرنج. غير أن «الشيء ذاته» في كرة القدم -إذا ما جاز لنا حقاً توظيف هذا المفهوم الفينومينولوجي- هو الحياة منظوراً إليها كصراع وكآلام، كتعالٍ محفوف بالسقوط، كمحاولة للنجاة/‏‏‏‏‏ الربح. عندما نتفرج على مباراة كرة القدم، فنحن في الحقيقة نتفرج في أنفسنا، وفي واقع الحياة التي نعيشها، تلكم الحياة التي اكتشفنا أنه لا يمكن أن نأمن عواقبها، مثلما لا يمكن أن نأمن بشكل مسبق النتيجة النهائية لمباراة ما. من هنا يكون سؤال: ما هي المباراة الجيدة شبيه بالسؤال ما هي الحياة الجيدة؟، ذلك أن هذه الأخيرة بالتأكيد ليست تلك التي يكون كل شيء فيها متاحاً لنا، فالحياة التي تستحق الذكر هي المليئة بالكفاح والمغامرة والإثارة والمحاولات التي نحقق بعضها ونفشل في البعض الآخر. وبالمثل كذلك المباراة الجيدة هي التي يكون الانتصار فيها بالجهد والعرق، حيث يقف الفريقان نداً لند، وتكثر المحاولات من هنا وهناك. إن الكرة ذاتها في شكلها الدائري شبيهة بتقلبات الحياة التي يصعب على المرء التحكم بها وتوجيهها دائماً نحو الهدف الذي يختاره. نحب الكرة لأننا نحب ما نفتقد إليه، البحث عن الإنجاز الكامل، عن تحقيق الذات، استنهاض للقدرات الإبداعية من الرأس إلى القدمين، معركة مع الصدفة بغرض تحويلها إلى ضرورة. كل هذا وغيره يحدث في هذه اللعبة العجيبة، حيث يكافح ما هو مقصور L’apanage على الإنسان من أجل البقاء، سواء أمام اجتياح التقنية والمكننة للحياة البشرية، أو هجوم الغايات الاقتصادية والربحية التي تطمح إلى تحويلها إلى سلعة قاتلة بذلك طابعها الشعبي. كيمياء سحرية ليست كرة القدم علماً دقيقاً، ولا مجهوداً بدنياً خالصاً، ولا حتى حظاً محضاً، هي شيء من هذا وذاك، نوع من الكيمياء السحرية التي تختلط فيها الصدفة مع العلم والحضور البدني، إلى جانب التركيز الذهني والنفسي. في كرة القدم تجتمع كل المفارقات: الخطط المحكمة، الروح القتالية، الانسلالات، اللعب النظيف كما الخشونة والمكر. يوجد العمل كما يوجد الأمل، الحرية كما القانون. توجد القواعد وعمليات كسر القواعد.. كرة القدم فيها كل شيء. ........................................... 1- روجيه كايوا: الإنسان والمقدس، ترجمة سميرة رشا. نشر المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى بيروت 2010 ص 216. 2 إدغار موران: النهج إنسانية البشرية، الهوية البشرية، ترجمة هناء صبحي. طبعة هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، الطبعة الأولى 2009 ص 159. 3 نفس المرجع والصفحة. 4 الإنسان والمقدس ص 225.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©