الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ألبير قصيري: لم أخُنْ بلادي

ألبير قصيري: لم أخُنْ بلادي
5 يوليو 2018 01:38
في عطفة شارع ما، يستطيع المرء أن يقابل أطفال العالم ــ وقد أصبحوا كباراً ــ من أولئك الحالمين بالعيش في باريس. طوال العام، وكل يوم في الثانية والنصف بعد الظهيرة، يخرج الكاتب المصري من الفندق، حيث يقيم منذ أربعين عاماً، وقت عودة الشغّيلة إلى أماكن عبوديتهم. لا يشعر بحريته إلا في الفندق، لا يملك شقة ولا سيارة كي يؤكد «وجوده على هذه الأرض». ولد ألبير قصيري في القاهرة، في عام 1913، وعاش عمره لحظة بلحظة. نشر سبعة كتب في ستين عاماً، عاملاً على أن يغوص بقارئه في كرم الشرق، بيد أن نتاجه يقترح أيضاً حلاً، عبر السخرية، لبعض مشاكل الوجود الجوهرية. في آخر الأمر، كل كتاب من كتب ألبير قصيري يعني، بمكر ودعابة مصقولة، إجازته النهائية في المجتمع الغربي، حيث تشحذ المخالب الدامية، دوماً، الكبرياء والعنف. كما فعلت إحدى شخصياته، قام قصيري بثورته بمفرده. أبطاله يشبهونه، وقد رواهم بفيضه الأرستقراطي. إذا تقابلوا، يقودهم تأنقهم اللامكترث، دوماً، الى المقاهي العربية (المقصود بالمقاهي العربية المقاهي الشعبية، المترجم)، حيث تنسال الحياة بلا قيود – مع شيء من الحشيش – تحت ساعة الزمن الرملية (*). * كيف يمكن أن يصبح المرء كاتباً مصرياً باللغة الفرنسية؟ ** أمر بسيط، وبالمصادفة في آن واحد. بمعنى أنني درست في مدرسة فرنسية. بدأت كتابة الروايات باللغة الفرنسية في العاشرة من عمري. بيد أنه في هذا الوقت، لم أكن أفكر بعد: هل أكتب بالعربية أم الفرنسية ؟ لم تكن هذه هي المشكلة. على وجه الخصوص من خلال قراءاتي للكتب التي كانت مكتوبة بالفرنسية، بدأت الكتابة، وتابعت بدون أن أعي. * هل كتبت دوماً بالفرنسية؟ ** تابعت الكتابة بدون أن أعي وجود لغة أمومية أخرى، لأنني كنت مفتوناً بالأدب الفرنسي الذي قرأته منذ بلغت العاشرة من عمري. * يشعر كثير من الكتاب أن الرحيل الطويل أو النهائي عن بلادهم يشبه المنفى الذي ينضب إلهامهم. ** لم يحدث هذا معي على أي حال. لم أشعر أبداً أنني خارج مصر. أحملها في دواخلي. وحتى التفاصيل المرئية أو المسموعة قبل خمسين عاماً، أستطيع أن أدرجها في رواية جديدة. كلها بقيت في ذاكرتي. * متى قررت القدوم إلى باريس؟ ** بعد الحرب في العام 1945، كان لدي عقد مع ناشر فرنسي يدعى شارلو. * ولكنك قدمت إلى باريس قبل الحرب؟ ** نعم، ولكن هذا أمر آخر. وقتذاك، لم آت للإقامة هنا بل للدراسة، بيد أنني لم أدرس أي شيء. القاهرة والحرب الدوّارة * قبل بداية الحرب، هل عدت إلى القاهرة؟ ** في عام 1938. * هل من الممكن أن تكلمني عن الحرب، كنظرة من القاهرة ؟ ** كانت القاهرة آنذاك صينية الحرب الدوارة، كان هناك أكثر من مليون جندي أو شخص يمضون عبر مصر، كل يوم، يجتازون القاهرة، كافة الجيوش: إنجليزية، يونانية، إيطالية... بما أن الحرب كانت تدور في القاهرة، فقط دارت في الصحراء. * هناك حدث جدير بالملاحظة، كما أعتقد، تحقق في حياتك الخاصة خلال هذه المرحلة... ** هل تعني التحاقي بالبحرية؟ * هو ذا. ** استطعت أن أدور حول العالم وأن أرى الحرب عن قرب. ولكن، شخصياً، لم أحمل مدفعاً ولا مسدساً بين يدي طوال حياتي. لم أطلق النار على أحد، ولكن أطلق البعض النار علي. * هل جازفت بتلقي طوربيداً من غواصة ألمانية؟ ** كان اختياراً. حينما كنت شاباً، كنت أشعر بكوني شخصاً لا يقهر، لم أرد أن أمكث في القاهرة بعيداً عن هذه الحرب، أريد أن أراها عن قرب، ولكن كملاحظ. * اخترت لحظة عجيبة لكي تقوم بالسياحة! ** في هذه السن، لم أكن أتصور أنني سأصاب بأدنى أذى. * ماذا كنتم تنقلون على سفينة الشحن؟ ** في بادئ الأمر، حمولتها من البضائع، ولكن أيضاً مائة وخمسين مسافراً قادمين من كافة الدول التي اجتاحها هتلر، وكنت أنقلهم إلى الولايات المتحدة. قلت «أنقلهم»، لأن سفينتنا، في آخر الأمر، كانت سفينة مصرية، تحمل... * أي نوع من المسافرين؟ ** الغالبية من اليهود (1)، بدون شك. * انتهت الحرب، ما كانت رغبتك الأولى؟ ** العودة الى باريس، لأنني وقعت عقداً مع الناشر شارلو، من القاهرة. * ولذا، أبحرت على أول سفينة جاهزة إلى فرنسا. ** نعم، في ظروف قاسية للغاية، بما أن الحرب لم تزل ماثلة في الأذهان بعد، كنا في عام 1945. لم أنسَ مصر * ألم تكن هناك مخاطرة في الاستمرار في الكتابة عن مصر، بالابتعاد عنها؟ ** كنت على وشك أن أقولها لك! كانت مصر دوماً في خيالي. لم أنس مصر أبداً. ولهذا السبب، ظللت دوماً مصرياً (2) لم أطلب جواز سفر، لأنني وددت أن أبقى مصرياً. لم أخن بلادي أبداً!... ليس لأنني أقيم في باريس وأكتب بالفرنسية، لم أعد مصرياً. * لم تعد إلى مصر خلال أربعين عاماً؟ ** خمسة وثلاثين عاماً. * خلال خمسة وثلاثين عاماً، لم تشعر بالحاجة إلى تجديد الهامك؟ ربما كان هذا هو الاختلاف الوحيد بين الكاتب والصحافي قبالة وصف الواقعة التي تعتبر معاصرة له... ** لا أعتقد أنه من الضروري، في الأدب، أن يكون المرء معاصراً أو لا، لأنه من الممكن أن يقرأ اليوم جيداً أعمال ستندال أو دوستويفسكي، بيد أن الأحداث جرت من قبل وفي أمكنة أخرى، ولكنها خالدة. يكتب الكاتب دوماً عن واقعة ثابتة وعالمية. * أعتقد أن هناك سبباً آخر لقدومك إلى باريس غير سبب إنهاء إجراءات العقد مع الناشر. ** نعم، وقلت إنني لم آت لكي أبحث عن ناشر. فضلا عن ذلك، بالنسبة لي، لا ينقصني الناشر، وإنما النصوص. هو ذا ما أقوله على الدوام. * ولكن ماذا فعلت في باريس، باستثناء الكتابة؟ ** لاقيت أناساً رائعين واستثنائيين. * هل وددت أن تتسلى في باريس؟ ** في ذلك الوقت نعم، رغبت في أن أتسلى في باريس! الآن، لا أعرف. ولكن اللهو يمثل جزءاً مهماً من حياتي. مديح * منذ كتابك الأول تحصلت على تعليقات تقريظية من قبل مواطنيك، جورج حنين، وكتاب آخرين... وعلى وجه التحديد الأديب الأميركي الكبير هنري ميلر. كتب ميلر أنه، من بين الكتاب الأحياء حسب علمه، «لم يصف أحداً بطريقة حادة ولا قاسية وجود الكتل الإنسانية المغمورة. أدرك هوة اليأس، الخزي، والخضوع التي لم يدونها حتى غوركي ودوستويفسكي...». ** ربما مبالغة. ما كتبه ميلر، وأنا أعرفه جيداً، مغال إلى حد ما. * بيد أنه فهم كتابك جيداً... ** آه ! نعم! * حسناً، هناك ميلر، وكتاب آخرون أعجبوا بعملك. لورنس داريل، الذي كان يقيم بمصر آنذاك. ** صحيح. * وألبير كامو أيضاً. كان كامو من أصل... مغاربي (3)، في آخر الأمر... ** نعم، الى حد كبير، وبما أنه ولد في الشرق، بالتالي يمتلك نفس الحب للحياة مثلي. علاوة على ذلك كنا أصدقاء... وفي هذه النقطة تحديداً. لم تكن صداقة أدبية، كما يعتقد البعض... * صداقة عميقة، تواطؤ ؟ ** نعم، صداقة الناس الذين يحبون الحياة، الذين يحبون الفتيات الجميلات. * نشرت وكتبت كتباً أخرى في باريس، وكان لك ناشروك... كافة أنماط الناشرين، المهمين للغاية: في البداية شارلو، ثم جويار، لافون، غاليمار... ولاحظت أن كل كتاب من كتبك أعيد طباعته خمس أو ست مرات. ** بالنسبة لي، كان لغزاً، من اللازم أن أقولها. لماذا يهتم ناشر بكتبي، رغم أنه لن يربح شيئاً من المال؟!. تجاهل * عوملت روايتك الأخيرة، «طموح في الصحراء» (4)، بتجاهل. نستطيع أن نقول اليوم أن هذه الرواية كتاب شبه ميت. كيف ترى إلى الصمت الذي أحاط بهذا النتاج خلال عقد من الزمان؟ ** هناك الناشر الذي لم يفعل شيئاً حتى لعرض الكتاب في المكتبة، بما أن المرء لا يجده في أي مكان. غير أنني لا أريد أن أقول شيئاً سيئاً عن الناشرين، الجميع يقولونه، ولكن لا أريد أن أواصل. * وضع هذا الكتاب كلياً بين هلالين. وتجاهله النقد. ** ربما، لأنه يعالج موضوعاً قوياً نوعاً ما. * ولكن، من قبل، لم نجد كتبك في المكتبات. ** يحدث ذلك حينما تنشر لدى كبار الناشرين. ولكن صغار الناشرين يقومون بعملهم بصورة مثلى. * في عام 1987، نشرت جويل لوزفيلد خمسة من كتبك في دار «تيران فاج»، قبل أن تعيد نشرهم في دار نشرها الجديدة. وهكذا أعيد إصدار كتبك وأصبح لديك قراء جدد. ما هي أهمية كتبك اليوم؟ ** بالتأكيد، بدأت تكون معروفة على نطاق واسع، بما أنها تباع في المكتبات. ثم، وافقت، وهو ما لم أفعله طوال حياتي، أن أذهب لتوقيع الكتب في مكتبات، عبر كل فرنسا. ذهبت إلى أكثر من مدينة كبيرة، أو صغيرة، وهناك قابلت قراء قرأوا لي. جاؤوا يقولون لي أنهم قرأوا كتبي. * ولكن أيضاً قراء جدد، شباب. ** نعم. ولكن منذ فترة طويلة، منذ كتبي الأولى، قرأ شباب لي. يهاتفونني، يأتون لرؤيتي. * لماذا تعتقد أن الشباب منجذب إلى العالم الذي تصفه في نتاجك؟ ** لأنه ليس، فقط، عالما، إنه إسقاط للحياة على الكتاب، التي لا يجدونها في الكتب الأخرى. * هل لأنك تقدم لهم إجابة عن بعض الأسئلة، ربما؟ ** نعم. نحيا في مجتمع لا يشعر فيه الشباب، في الحقيقة، أنهم في العوالم الفضلى. وبالتالي... هناك أثر حاسم عليهم. ولكنهم لا يأتون كي يقولوا لي: «كتبت رواية جميلة، أحب كثيراً هذه الحكاية...». لا، لا يتعلق الأمر بكل هذا، أعتقد أنهم متأثرون بالأفكار التي توجد في كتبي. لا أتشكّى جائزة الفرنكفونية لم تحقق لي شيئاً. لا أرى أن من اللازم أن تحقق شيئاً ما. لدي فكرة عن نفسي منذ كنت في العاشرة من عمري، بمعنى أن كل شيء من الممكن أن يحدث لي، منذ أولى الترجمات في العالم، وبالأخص الأولى في الولايات المتحدة وإنجلترا... هذا لا يصيبني بشيء؛ لأنني أنتظرها منذ العاشرة من عمري. إنها الحقيقة، لا أخفيها. ولذا لم أفعل شيئاً في مهنتي، كما يقال. زد على ذلك، وأنت تعرف هذا جيداً، بما أنك تعرفني منذ سنوات، لا أتشكى. ...................................... (*) الفصل الأول من كتاب «حوار مع ألبير قصيري»، ميشال ميتراني، مطبوعات جويل لوزفيلد، باريس، 1995: Michel Mitrani, Conversation avec Albert Cossery, Editions Joelle Losfeld, Paris, 1995. .............................................. هوامش: (1) قالها ألبير قصيري حسب عادة المصريين لوصف اليهود، خلال العقود الأولى من القرن الفائت. (المترجم) (2) رفض ألبير قصيري التقدم بأوراقه للحصول على الجنسية الفرنسية أوائل الثمانينيات، وقت حكومة تحالف اليسار، بطلب من جاك لانغ، وزير الثقافة الفرنسية، وبإيعاز من الرئيس الفرنسي ميتران آنذاك. (المترجم) (3) يدرج عدد كبير من الفرنسيين على إطلاق مغاربي على أي من دول المغرب العربي، والكلمة لا تحمل أي إشارة عنصرية. وألبير كامو (1913 – 1960)، أديب وفيلسوف فرنسي، ولد بمدينة الذرعان الجزائرية. (المترجم) (4) المقصود دار غاليمار، التي صدرت الرواية عنها في عام 1984. وهذه الرواية لا تعد روايته الأخيرة. (المترجم)
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©